أنت موظف، إذن أنت عبد

من الأفكار المنتشرة والتي أجدها غير منطقية بالنسبة لي هي الفكرة القائلة بأن الوظيفة هي عبودية القرن الحادي والعشرين

حاولت أن اتتبع من أين جاءت هذه الفكرة، فوجدت التالي:

عبودية القرن الحادي والعشرين من منظور غربي 

قرأت الكثير من المقالات الغربية التي كتبت عن عبودية القرن الحادي والعشرين ووجدت أن معظمها يربط فكرة العبودية بالعمّال ذوي الأجور التي لا تتعدى بضع من الدولارات والذين يعملون في بيئة عمل لا تحفظ للإنسان كرامته ولا حقوقه، أو أن الفكرة مرتبطة بتجارة وتهريب البشر، وبذلك يكون السياق الذي تُطرح من خلاله فكرة عبودية القرن الحادي والعشرين هو سياق حقوقي، تُجّرَم من خلاله الشركات الرأسمالية المُجحفة والمُستهلكة لطاقات المُستضعَفين دون أي رحمة، وبهذا نجد أن فكرة العبودية هنا تقابل الظلم والاكراه وغياب الحقوق لا الوظيفة كمفهوم مطلق، شخصياً أتفق كلياً مع هذا الطرح وأجده متجلياً في نظام كفالة الأجانب ووضع العمالة المنزلية المزري والذي نساهم جميعا فيه!

عبودية القرن الحادي والعشرين من منظور عربي 

أما في الطرح المحلي العربي فوجدت أن فكرة ربط عبودية القرن الحادي والعشرين بالوظيفة أكثر شمولية فهي تنظر إلى الموظف -بشكل عام- على أنه عبد مقيد الحرية، ومن أشهر القائلين بهذه الفكرة عباس محمود العقاد حيث كتب مقال شهير سنة ١٩٠٧ بعنوان “الاستخدام رق الواحد والعشرين” بعد اسقالته من وظيفته الحكومية (أتناول مقال العقاد بشكل منفصل في نهاية المقال للمهتمين).

ومن خلال المقالات والنقاشات المحلية وجدت أن فكرة “عبودية الوظيفة” منطلقة من 6 محاور رئيسة:

  • الموظف والإبداع

بعض القائلين بعبودية الوظيفة يعتقدون أن الموظف والإبداع لا يلتقيان، لأن الموظف ليس لديه مساحة للإبداع بحكم أنه يتلقى الأوامر فقط، الطريف في الأمر أن طبيعة الأعمال/الوظائف في هذا العصر بالذات قائمة على الابداع والتحدي وإعمال العقل وذلك لأن معظم الأعمال الروتينية تمت أتمتتها (automated) وبذلك بقيت الأعمال التي تحتاج إلى عقل الإنسان، نعم قد يجد الموظف نفسه في بيئة عمل لا توفر مساحة للابداع والإضافات الشخصية، لكن هذا لا يعني أن الخلل في الوظيفة كمفهوم مطلق بل في بيئة العمل تلك.   

  • الموظف وساعات الدوام

يُعاب على الموظف أنه مقيد بساعات عمل محددة مثلاً من الصباح وحتى العصر، برأيي تقييد الموظف بساعات عمل نهارية أو مسائية بحسب طبيعة العمل هو ليس لسلب حريته وإنما ضماناً لقضاء مصالح الناس في الوقت المناسب، ناهيك عن أن الناس مختلفين، البعض يفضل العمل ضمن أوقات محددة، والبعض الآخر لا يمانع أن يتخلل عمله اليوم بأكمله أو أن يعمل في المساء، عدا عن ذلك، أرى أن العمل في أوقات محددة شكل من أشكال الالتزام في هذه الحياة وإن لم يَرُقْ ذلك لشخص ما، مثلاً المزارع الذي يمتلك أرضا يزرعها ويحصدها هو ملتزم بالعمل عليها في أوقات محددة مثلاً في النهار وفصول معينة، هذا التزام وليس عبودية.

  • الموظف وقلة الاستمتاع بالحياة

قيل أن الموظف بالضرورة يفوّت على نفسه متع وفرص الحياة،لكن أوليست القدرة على الاستمتاع بالحياة قرار شخصي ليس له علاقة بما تقوم به سواء كنت موظف، صاحب عمل حر أو حتى عاطل عن العمل؟ يُذكر في هذا السياق عادة الموظف المشغول الذي يعمل لساعات متأخرة في الليل ولا يقضي وقت كافي مع عائلته، هل هذا حصر على الموظف؟ شخصياً شاهدت هذا لدى أشخاص ليس لديهم أي إلتزامات عمل، أؤمن أن هذه اختيارات شخصية ليس لها علاقة بالوظيفة كمفهوم مطلق.

  • الموظف والمال

يُلام الموظف لأنه يختار الوظيفة لضمان الأمن المالي على اتباع شغفه وبالتالي يضطر أن يعمل فيما لا يحبه فقط من أجل المال، هذا حال واقع مؤسف بالفعل وكثير من الموظفين يعانون منه، في المقابل هنالك الكثير من الموظفين الذين لا يشغلون وظائفهم من أجل المال بل لأنهم فعلاً يحبون ويستمتعون بعملهم، أذكر أني قرأت مرة مقالاً في هارفرد بيزنس ريفيو لكاتب حقق الحرية المالية من خلال عمله الخاص في إنتاج الألبومات الموسيقية وتأليف ونشر عدة كتب ومع ذلك هو لا يزال في وظيفته الإدارية بإحدى الشركات لأنه فعلاً يحبها.

  • الموظف و”المراد” 

يعتقد الكثير من معتنقي فكرة عبودية الوظيفة أن الموظف بالضرورة مضطر وليس مُخير، ولو كان له الخيار لهرب من قفص الوظيفة، نعم هذا وارد جداً، ولكن وارد أيضًا أن يختار المرء بكامل مشيئته وظيفة ما خصوصًا إن كانت تتوافق مع شغفه ومع ما يريد أن يقدمه لهذا العالم، من المؤسف ألا نرى اختلافات الناس واختلافات اهتماماتهم، واختلاف قضاياهم واختلاف مراد الله من كل واحد منهم، البعض قد يجد هذا المراد من خلال وظيفة، والبعض الآخر يجده في عمل حر، والبعض يجد هذا المراد في عدم العمل أصلاً والتفرغ لتربية الأبناء كل هذا وارد وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام “اعملوا فكلٌ مسير لما خلق له”.

  • الموظف و”التحكّم” 

يُربط مفهوم الوظيفة بالعبودية أيضا نظراً لعلاقة الرئيس بالمرؤس، أي أن هنالك شخص ما متسلط متحكم فيك بالضرورة يستغلك لمصلحة الشركة، فعلا هذا الأمر وارد جدًا ولا يمكن لأحد انكاره، لكن طبيعة علاقة العمل هذه تغيرت كثيراً في زمننا هذا، حتى مسمى “مدير” بدأ في الانقراض في مماراسات الأعمال في بعض البلدان والقطاعات، واستبدل بمسمى “قائد”، والعلاقة العامودية الهرمية بين الرئيس والمرؤسين أيضا بدأت تتغير ويحل مكانها علاقات أفقية دائرية (فُرق عمل)، أيضًا عملية تقييم الموظف التقليدية التي تعامله بأسلوب العصا والجزرة اختفى في كثير من المنظمات وحل مكانه ما يسمى ب”جلسات التأمل الذاتي لمراجعة الأداء”، ما أود أن أقوله أن العالم تغير كثيرًا وأصبح هناك توجه كبير لأنسنة الأعمال، أي اعتبار الموظف إنسان ذو قيمة عالية لا كآلة تصنيع، لذلك الوظيفة كالوعاء قد تكون تعيسة ومُقيدة أو سعيدة ومُمكِّنة بحسب طبيعة العمل وبيئة العمل اللذان تملأنه.

أخيراً، أجد أن هذه الفكرة جامدة.. لا تلتفت إلى الاختلافات ولا إلى التطورات الجذرية التي حصلت في طبيعة الأعمال منذ الثورة الصناعية حتى يومنا هذا، والأهم من ذلك كله أنها فكرة تغتال الهِمَم وهذا يحزنني كثيراً.

شخصياً أريد أن أرى الموظف التقني الطموح يؤمن أنه قادر من خلال عمله أن يساهم في انتاج تقنيات تنافس تلك التي تنتجها جوجل وتجعل من محيطه مكان أفضل إن كان هو سعيد ومرتاح في وظيفته.

أريد أن أرى الموظفة في المدرسة مؤمنة بأنها تبني مجتمع سليم إن كانت سعيدة ومرتاحة في وظيفتها.

لا أريد أن أعيش في عالم يقنع هؤلاء وغيرهم أنهم “عبيد” بسبب مسارهم العملي إن كانوا قد اتخذوه بإرادتهم في الحياة.

العبودية موجودة في عقل الإنسان فقط لا في الوسائل المُسخَّرة له، إن سمح لأي وسيلة بأن تستعبده كالمال، والجاه، والجمال، والوظيفة فهذه مشكلته هو لا الوسائل.

انتهى

—————-

تعليق منفصل بخصوص مقال العقاد رحمه الله

بالرغم من أن العقاد بث فكرته في سياق مختلف عما نعيشه اليوم، فلا زلت أرى الكثير ممن يؤمنون بفكرته ويسقطونها بإطلاقها كما هي دون تفنيد، والعجيب في الموضوع أن العقاد نفسه يذكر أن الوظيفة -الحكومية تحديداً- هي ليست معابة في نفسها بل واجب على من يستطيع أداءه، وأن المعابة على المجتمع إن جعلوا من الوظيفة الحكومية “باب المستقبل الوحيد أمام الشباب” وبذلك يغتال المجتمع أحلام واختيارات الشباب، ويقول العقاد “تزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة كما كانت يومئذ عملاً آلياً لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملا إلا كعمل المسامير في تلك الأداة” وبهذا استنتج أن مآخذ العقاد على الوظيفة كمفهوم مايلي:

١- لا يوجد خيار/حرية للشباب أن يختاروا نوعية العمل التي يرغبون بها

٢- أن يتم العمل بشكل آلي، فلا صوت أو سلطة للموظف هو فقط ينفذ الأوامر

٣- الاستيلاء/الاستعمار الأجنبي (أو الداخلي) والذي يسرق زمام الأمور من أيدي أبناء البلد

السؤال هنا، ماذا لو انتفى وجود هذه النقاط الثلاثة…هل كان ليعتبر العقاد رحمه الله الوظيفة عبودية؟

اقرأ أيضًا:

عن الجانب المظلم في العمل المستقل: ما لم يقله لك الآخرون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *