في حضرة الخشب: كيف يمكن للأعمال اليدوية أن تحسن قدراتنا الذهنية وحالتنا النفسية

 “الخشب المهد، والخشب التابوت. وبين المهد والتابوت، ثمة أسرّة للحب”

حسنًا سأكون صادقة معك، في الحقيقة لا يستهويني الخشب، وعادةً اتجنب اقتناء المنتجات الخشبية أو على الأقل تلك المنتجات التي تؤكد على”خشبية” الخشب، لكن سُنِحت لي فرصة من خلال المحراب أن أخوض تجربة بسيطة لكن بديعة في عالم الخشب والنجارة، لم أخرج من هذه التجربة وأنا مفتونة بالعمل على الخشب فحسب بل خرجت بفكرة واضحة عن قدرة الأعمال اليدوية على تحسين قدراتنا الذهنية بشكل كبير، وهي فكرة بالرغم من بدهيتها إلا أنها تكاد تكون مستبعدة لنظرًا لانتشار طرق تحسين القدرات الذهنية المتعارف عليها كالقراءة، العمليات الحسابية، الألعاب/الألغاز الذهنية، وغيرها،

في هذه التدوينة سأوضح كيف أن عملاً يدويًا مثل إعداد قطعة خشب فنيّة قادر على تحسين إمكانياتك الذهنية من خلال النقطتين التاليتين:

١- إعمال العقل 

اكتشفت أن مهارة نشر الخشب تحتاج إلى الكثير من إعمال العقل ليس فقط لأهمية إجراء قياسات هندسية دقيقة بل لأنها تطلب تفكيرًا استراتيجيًا، فعند رسم تصميم ما على الخشب (كالموضح أدناه) عليك تحديد مواطن القوة والضعف في القطعة الخشبية قبل الشروع في قص/نشر الخشب، بعد هذا عليك بدء القص/النشر من مواطن الضعف أولاً ثم مواطن القوة، لابد أن يكون اختيار نقطة القص/النشر دقيق وإلا سيؤدي غير ذلك إلى كسر القطعة الخشبية بين يديك وهو ما حدث مع الكثير ممن شاركوني التجربة.

IMG_20170213_211840_835

واعلم أعزك الله أن في هذا التفكير الاستراتيجي كَمُنَ جُلّ افتتاني بالعمل على الخشب! لا أعلم إن كان ذلك بسبب عملي في مجال الاستشارات الاستراتيجية، ولكن ما أعلمه يقينا أن عملية التخطيط والتحليل ومحاولة فهم “شخصية” القطعة الخشبية قبل تنفيذ المشروع عليها كانت ممتعة ومثرية جداً.

ملاحظة هامشية: يوجد في العمل على الخشب ذلك التضاد الفاتن والداعي للتأمل والتفكير، فتسخير مادة الخشب الصلبة تحتاج إلى قدر عالي من المرونة والسلالسة! أبهرني هذا التضاد لا سيما أنني كنت أظن أن صلابة الخشب تحتاج إلى صلابة مقابلة لتطويعه! أقول أن هذا يدعوا للتأمل والتفكير لأنه “درس” قابل للتطبيق في جوانب متعددة من حياتنا، خصوصًا العلاقات.

٢- نزهة في حيز اللاشيء

اكتشفت أن العمل على الخشب يتطلّب الكثير من التركيز الذهني، واكتشفت أيضًا أن هناك نوع من التركيز الذهني الذي يجعل عقلك يذهب إلى نزهة في حيز اللاشيء. كيف ذلك؟ حسنًا، أقرب مثال يمكننا استخدامه لتوضيح هذه الفكرة هي تجارب جلسات التأمل التي يسعى المرء من خلالها إلى إسكات ضجيج الأفكار داخل عقله للوصول إلى حالة متقدمة من الصفاء الذهني، ولأن المسألة صعبة جدًا عادة ما يُقترح على المتأمل أن يجرب التركيز على تنفسه، أي يفكر بذلك فقط لأن في ذلك حيلة لابعاد كل الأفكار المشتتة الأخرى، وبالتدريب ومع مرور فترة من التركيز على التنفس فقط، يستطيع المرء فعلاً الوصول لمرحلة التفكير في “لاشيء”.

تجربة غوص العقل في اللاشيء نتيجة لغوصه الكلي في شيء ما تجربة مبهرة! وتستوقفني هنا الفكرة السائدة حول أن كثير من المهن الحرفية هي “يدوية” فقط، بينما أرى الآن أنها “ذهنية” في المقام الأول!

الفكرة الرئيسة هنا أن هذه النزهة الذهنية في اللاشيء عادة ما تثمر بصفاء ذهني، ربما لذلك عادة ما يكون أهل الحرف اليدوية من أكثر الناس الذين تجدهم هادئين، مطمئنين؟ كيف لا وعقولهم دائمة التنزه في اللاشيء أثناء عملهم على القطع اليدوية، فعندما تكون في منطقة اللاشيء أنت لا تفكر في مشكالك، أو صراعاتك، أو ديونك…تخيل انعكاس ذلك على نفسيتك!

عدا الهدوء النفسي الناتج عن الصفاء الذهني هناك استرسال الأفكار، لمست هذا بشكل واضح خلال عملي على الخشب والذي استغرق ٤ أيام بمعدل ٣ ساعات متواصلة يوميًا، حيث كنت أعمل على كتابة تقرير قبل وبعد الورشة، فعندما كنت أفرغ من العمل على الخشب في كل يوم ثم أعود للعمل على التقرير كنت أشعر بأن أفكاري كانت أكثر استرسالاً وأني أكثر إنتاجية.

قد لا يكون هذا الاسترسال والإنتاجية مرتبطان بالعمل على الخشب تحديدًا بقدر ارتباطه بـ”النزهة الذهنية” لكن يروق لي الآن أن أنسبه إلى الخشب وأسراره…

أخيرا بعد كل هذا التغني بتجربة العمل على الخشب والافتتان بها، أدعوك لأن تخوض تجربة عمل/حرفة يدوية إن لم تقم بذلك من قبل، هناك خيارات متعددة مثل الرسم، ممارسة الخط العربي، صنع الفخار، وهناك الكثير من الأماكن التي أصبحت توفر ورش عمل في هذه الأمور، من يدري، لعلك تجد ملاذًا ذهنيًا في ذلك.

النتيجة النهائية لقطعة الخشب الخاصة التي عملت عليها

IMG-20170219-WA0045

—انتهى—

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *