عن الجانب المظلم في العمل المستقل: ما لم يقله لك الآخرون

في ٢٠١٨ قررت ترك وظيفتي لأسباب معينة، ولم تكن لدي أي فكرة عما سأقوم به بعد الاستقالة، أو أي خطة، كل ما كنت أفكر فيه وقتها أني أريد أن أخرج من تلك الظروف الحياتية. بعد فترة، وجدت نفسي في عالم «العمل المستقل» بداية كمدربة للخط العربي (كنت أقدم ورش عمل في الخط ما بين ٢٠١٧ – ٢٠١٨) ومن ثم ككاتبة محتوى للشركات والأفراد.

والآن، بعد أن أتممت أكثر من عام ونصف من التفرغ للعمل المستقل (أي لا توجد لدي وظيفة ذات دخل ثابت)، أشعر أن لدي الكثير مما أود مشاركته مع كل من يفكر أن يترك وظيفته ليصبح صاحب عمل مستقل. والفئة التي تستهدفها هذه التدوينة تحديدًا هي فئة الشباب (في عمر العشرينات وحتى منتصف الثلاثينات). أقول فئة الشباب لأن الأمور قد تختلف عند فئة التنفيذين الذين لديهم خبرة مهنية تمتد لأكثر من ١٥ سنة، هؤلاء – غالبًا – لن يجدوا صعوبات إذا ما أرادوا أن يتحولوا إلى العمل المستقل نظرًا لأن حالتهم المادية مستقرة أكثر، لديهم سمعة مهنية أقوى، مهاراتهم وخبراتهم مصقولة أكثر…إلخ.

أما الدافع وراء كتابة هذه التدوينة هو أنه توجد موجة كبيرة نحو العمل المستقل (محليًا وعالميًا) خاصة مع ظهور ما يعرف باقتصاد المنصات والوظائف غير النمطية (gig economy)، وهنا توجد إشكاليتان رئيسيتان مع هذا التوجه:

  • أن اقتصاد المنصات لا زال في مرحلة مبكرة وبالتالي يفتقد إلى العديد من التشريعات والتنظيمات التي تحفظ حقوق أصحاب العمل المستقل [١]، وبالتالي أمورًا مثل التأمينات الاجتماعية، التأمين الطبي، حقوق الملكية الفكرية..إلخ تبقى تحديات جدية لدى أصحاب العمل المستقل.
  • أن فئة – ليست قليلة – من الناس تريد التغيير إلى نمط الحياة المهنية هذا لمجرد أنه أصبح توجهًا منتشرًا، دون فهم كافي لطبيعته وأبعاده، خاصة وأن الأفكار المروجة للعمل المستقل عادة ما تُختزل في «أريد أن أصبح حرًا» و «أريد أن أصبح رئيس نفسي».

بطبيعة الحال، الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك، وهذا ما أريد أن ألفت الانتباه إليه في هذا التدوينة، لكن أولاً أريد أن أنوه إلى نقطتين:

  • أن النقاط التي سأتطرق إليها نابعة من تجربة شخصية ومن نقاشات مطولة مع أصدقائي من أصحاب العمل المستقل، لذلك هي وجهات نظر شخصية متحيزة وليست نتاج أبحاث ودرسات أو حقائق علمية!
  • هذه ليست محاولة لاقناعك بتوجه ما، بل محاولة للفت انتباهك لنقاط لا يتم الحديث عنها عادة عند التعرض لنمط حياة أصحاب العمل المستقل.

الآن، إليك ٥ نقاط رئيسة توضح الجانب المظلم في العمل المستقل كخيار مهني رئيسي (أي أنك لا تملك وظيفة بجانبه).

١- في الواقع، أنت لست حرًا كما تعتقد

إن كنت تعتقد أنه لمجرد أنك لن تخضع لساعات عمل محددة مثلاً من الثامنة صباحًا حتى الخامسة مساءً، أو لمجرد أنه لا يوجد مدير عمل يوجه لك الأوامر فأنت الآن “حر”، فأنت مخطئ. أولاً، لأن مفهوم الحرية أكبر وأعمق وأعقد من أن يحصر في قالب المهنة الضيق. ثانيًا، لأنك كصاحب عمل مستقل ستواجه مواقف عديدة تكون مجبورًا فيها على عمل ما لا تريده، مثلاً ستضطر إلى العمل في أيام/أوقات لا تريد أن تعمل فيها فقط لتضمن دخل مادي (الأمر يزداد سوءً عندما تمرض أو تمر بظروف طارئة تمنعك من العمل). بينما لو كنت موظفًا، تستطيع أخذ إجازة – غالبًا – أي وقت دون القلق على راتب آخر الشهر.

مثال آخر، قد تضطر إلى القيام ببعض الأعمال التي تكرهها، مثلاً، قد تكون مبرمجًا بارعًا لكنك تكره التعامل مع العملاء بشكل مباشر، أو تكره التسويق لنفسك..إلخ، في الوظيفة هناك من يقوم بهذه المهام بالنيابة عنك (زملاؤك بالشركة)، لكن كمستقل، أنت مجبور على فعل ذلك على الأقل في البدايات، وبالتالي فكرة “سأكون حر وأفعل ما أشاء” ليست بالبساطة التي نعتقدها.

في كتابه Winners Take All، يناقش الصحفي والكاتب أناند جيريدارادس طبيعة وتبعات اقتصاد المنصات بشكل مفصل ويشرح كيف أنه بوضعه الحالي قد يخلق أزمة اقتصادية من نوع جديد ومنظومة مجحفة ترجح كفتها للشركات – كالعادة – على حساب الأفراد الذين يدفع لهم مقابل مادي – بدون فوائد/بدلات – أقل مقارنة بما إذا كانوا يعملون بدوام كامل، وكيف يؤثر ذلك سلبًا على الموظفين الحالين الذين لا يفكرون حتى في التوجه إلى العمل المستقل. وهنا تكمن أهمية الدور الحكومي لسن تشريعات قوية تحفظ حقوق ومصالح الأفراد.

٢- «الرصيد صفر!» – كن مستعدًا لهذه اللحظة

قبل أكثر من عام، كانت المرة الأولى في حياتي التي أذهب فيها لسحب نقود من البنك وأجد أن رصيدي صفر! مع العلم أني شخص بدأ حياته المهنية براتب شهري مرتفع، وبالتالي اعتدت على نمط حياة مرفه إلى حد كبير. أن أشهد لحظة كهذه كان مثل الصفعة الكبيرة على وجهي، خصوصًا وأنني عشت لمدة ٧ سنوات مستقلة ماديًا عن عائلتي تمامًا، وبالتالي يستحيل عليا نفسيًا أن أطلب منهم مالاً. ما أحاول أن أقوله لك هنا، هل أنت مستعد لعيش ظروف كهذه؟ هل أنت مستعد لأن تجري تعديلات (تنازلات) في نمط حياتك لتصبح أقل رفاهية ولو لمرحلة مؤقتة؟

لكن للأمانة، على أن أقول أنني وبالرغم من التحديات المالية التي واجهتها، فأنا محظوظة (I’m privileged)، فلست مضطرة لدفع إيجار منزل، أو رسوم مدرسة، أو علاج طبي مكلف..إلخ، ظروف حياتي ساعدتني كثيرًا على الإقدام على نمط حياة العمل المستقل.

٣- ليست كل شخصية مناسبة لحياة العمل المستقل

لا يكفي أن تملك مهارة/حرفة معينة قادرة على جلب المال لتصبح صاحب عمل مستقل. هناك جوانب في الشخصية تشكل جزءً كبيرًا من نجاح هذه التجربة أو فشلها. مثلاً تحتاج – أكثر من أي شخص آخر – لأن تكون لديك عقلية نمو (Growth Mindset) حتى تستطيع أن تطور في نفسك وعملك وتبني إسمًا/علامة تجارية قوية وموثوقة تجلب عملاء، صحيح أن هذا الأمر ضروري لجميع الناس؛ الموظفين وغير الموظفين، لكن مثلاً، إن كنت موظفًا، على الأغلب قسم الموارد البشرية سيتكفلون بإيجاد وتقديم الدورات التدريبية لك، أو أن مديرك أو التنافس مع زملائك سيدفعك إلى البحث عن فرص لتطوير مهاراتك، وبالتالي الدافع للتطور موجود بشكل أكبر والطريق إليه أسهل عليك كموظف على عكس إنت كنت مستقلاً.

أيضًا شخصية صاحب العمل المستقل لا بد أن تتضمن المبادرة، القدرة على تقبل الرفض (لأنك قد تواجه الرفض من العملاء المحتملين عندما تعرض عليهم خدماتك خصوصًا في البدايات)، القدرة على الانضباط الذاتي لتصنع لك روتين عمل يومي منظم، والأهم من ذلك كله، القدرة على التعايش مع المجهول، وهذه الأصعب من بينهم، لأن مسار العمل المستقل ليس واضحًا ومضمونًا مثل مسار الوظيفة.

الكثير من الناس لا يمكلون هذه الصفات، لذلك إن أرادوا خوض هذه الحياة المهنية المستقلة، عليهم أن يعملوا على تطوير هذه الجوانب في شخصيتهم بقدر حاجتهم إلى تطوير مهاراتهم/حرفتهم.

٤- الأعاصير النفسية ستضرب لا محالة

أعتقد أن هناك ضغوطات نفسية من نوع خاص تأتي مع حياة العمل المستقل، خاصة لو كان العمل المستقل اختيار غير متعارف عليه في دائرتك الاجتماعية (عائلتك، أصدقائك)، على الأرجح ستشعر دائمًا أنك تحت ضغط ما لتثبت أن قراراتك المهنية صائبة، أنك لست “فاشلاً” أو “تضيع حياتك” كما يقولون، أيضًا هناك ضغط المقارنة مع الأقران الذين تقدموا تقدمًا “طوليًا” في وظائفهم، ناهيك عن التشكيك المستمر بينك وبين نفسك في مدى صواب قراراتك المهنية، وأعتقد أن هذا الأخير هو أشدهم على النفس.

جزء أساسي في التعامل مع هذه الضغوطات هو أن تكون لديك مجموعة دعم – تطرقت لهذه النقطة بإسهاب في تدوينة أخرى. مجموعة الأشخاص في حياتك الذين مروا أو يمرون بنفس التجارب التي تعيشها هي أكبر النعم، هم وسيلة نجاة يهديها الله إليك. لا أعلم كيف كنت سأنجو من ضغوطات هذه السنة والنصف دون لطف الله المتجسد في قلة من الأصدقاء الذين يستمعون لي بقلوبهم ويشاركوني تجاربهم المشابهة، الكثير من الطمأنينة تبعث من هنا، أرجوك ابحث عن هذه المجموعة /المجموعات في حياتك وتشبث بها.

٥- العمل من المنزل على المدى الطويل فكرة سيئة جدًا

عندما كنت موظفة، كنت أقدس فكرة العمل من البيت كثيرًا، لأن المكتب بالنسبة لي مكان مزعج جدًا و مليء بالمقاطعات من قبل الزملاء، لذلك بدا لي العمل من المنزل عظيمًا لأنه هادئ وبالتالي استطيع التركيز، لكن مع الوقت اكتشفت أن الأمر سيء إلى حد كبير لعدة أسباب: ١) على الأرجح أن العائلة الكريمة – حفظها الله – لن تستوعب أنك “تعمل” طالما أنك موجود في المنزل، مهما حاولت أن تشرح لهم أنك في “دوام عمل” لكن من المنزل، وبالتالي سيكون هناك قدر من المقاطعات والتشتيت. ٢) على الأرجح أنك من طرفك ستشعر دائمًا بالذنب وأنك مقصر تجاه عائلتك، مثلاً عندما أكون في غرفتي أعمل وأعلم أن والدتي في الغرفة المجاورة، أشعر بالذنب كثيرًا لأني لا أقضي وقتًا معها، بينما لا أشعر بذلك عندما أعمل خارج المنزل!

٣) من الصعب جدًا الموازنة بين أوقات العمل والأعمال/الشؤون الشخصية، مثلاً من السهل جدًا أنك تقرر أن تأخذ استراحة لمدة نصف ساعة لتجدها تحولت فجأة إلى ساعتين أو ثلاثة لأنك انخرطت في أمور شخصية في المنزل، وبالتالي هذا يولد نمط عمل مشتَت، فتجد أن أوقات عملك تمتد من النهار حتى الليل لأن جدولك غير منظم. وهذا أمر متعب جدًا. ٤) العمل من المنزل خاصة (والعمل المستقل بشكل عام) قد يسبب العزلة وهو أمر بغيض. لذلك قررت بعد فترة أن أعمل في أماكن عامة أو في مكاتب الأصدقاء أو الحصول على مكاتب عمل مشتركة.

هذه المقالة على الميديوم تتحدث عن الجوانب السيئة في العمل من المنزل بتفصيل أكبر.

أخيرًا أعتقد أن العمل المستقل يتطلب جهد مضاعف مقارنة بالوظيفة خصوصًا في البدايات، إن كنت أستطيع أن أتركك مع اقتراحين فقط في حال كنت تفكر في تبني نمط حياة العمل المستقل بشكل تام، فسيكونا:

  • ابدأ عملك المستقل وأنت لا تزال في وظيفتك، حتى تجرب السوق، تجرب مهاراتك/امكانياتك.
  • قبل أن تستقيل من الوظيفة، جرب أن تأخذ إجازة غير مدفوعة / من دون راتب (unpaid leave) على الأقل ٣ أشهر أو ٦ أشهر، جرب أن تعيش من دون دخل مادي ثابت، جرب حياة العمل المستقل، قيم ما إذا كانت تناسبك أو لا قبل أن تقرر أن تستقيل من وظيفتك.

–انتهى–

تدوينات ذات صلة:

أنت موظف، إذن أنت عبد

كيف تصنع بيئة العمل الحديثة موظفًا أخطبوطًا منخفض الكفاءة؟

المصادر:

[١] تقرير: مستقبل العمل والتعليم في المملكة العربية السعودية في ضوء السياسات المطروحة للنقاش في مجموعة العشرين

مصدر صورة التدوينة: codeburst

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

16 ردّ على “عن الجانب المظلم في العمل المستقل: ما لم يقله لك الآخرون”

  1. اولا اشكرك على هذه المدونة الرائعة والمتميزة ، تعليقا على موضعك اليوم اجد نفسي اميل الى ما تقولين اذكر جربت مرة ان اعمل مساعد باحث فوجدت عدم تفهم من زوجتي والتي تظن انني مجرد اضيع وقت وهكذا مع الأهل ايضا بصعوبة حتى فهموا انني اعمل ، حتى اضططرت لايقاف ذلك. وعدت مرة اخرى مرغما على الوظيفة بساعاتها الطويلة لكنها كانت تجربة جيدة جدا.

  2. شكرًا جزيلًا على طرح الجانب المظلم من العمل الحرّ أو المستقّل، في معظم المحاضرات وورش العمل التي قدمتها في العمل الحرّ كنت دائمًا اتطرّق إلى هذه النقاط وكيف نجعلها أكثر إشراقًا، معظم الأشخاص يعتقدون إن درجة الإلتزام سوف تقّل في العمل الحرّ أو أنهم سوف يحصلون على مال وفير طوال الوقت وهذا الأمر غير صحيح، ويسبب إحباط عام لمن استغنى عن عمله الثابت في شركة أو مؤسسة.

    1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      جزاك الله خيراً على إفادة القراء
      لكن لدي تعقيب بسيط أرجوا تقبله بصدر رحب
      فهمت أنك فتاة ولست رجل فلماذا كل هذا العناء؟
      لو أن رجلاً قال أنه يعمل في غرفته ويؤنبه ضميره على عدم جلوسه مع أمه وهي في غرفة مجاورة لتفهت الأمر كونه لن يفعل ذلك إلا لأنه مسؤول عن أسرة والنفقة أحد أهم واجباته وقد أفهم أنه إن ترك العمل وجلس مع أمه فاته تخصيب النفقة مع أن البر من أهم مايمكن أن يفعله العبد بعد توحيد الله عز وجل.
      ولكن أن تكوني امرأة وتقدمين جمع المال على الجلوس مع ولدتك مع إفادتك بأن ضميرك يؤنيك وهذا يعني شعورك بتقصير تجاهها.ويتضح من مقالك أن لديك الأساسيات من مأوى ومأكل ومشرب وماتسعين له مجرد كماليات ورفاه. فهذا مالا أفهم منه سوى أن الثقافة المادية العلمانية الداعية للاستقلال المادي والتي ترفع من شأن المال والماديات، اليوم سيطرت على عقول كثير من المسلمين حتى ماعاد الواحد يُفرق بين الأولويات ومايقدمه لنيل الفوز بالآخرة وبين مايمكن تركه وتأجيله
      فالبر مُقدمٌ على جمع المال.
      اسأل الله تعالى التوفيق لك دائماً ولجميع المسلمين والمسلمات.

      1. لماذا تحصرين الموضوع في الجانب المادي فقط؟ توقعت أن أقرأ نصيحة تشبه محاولة الجلوس (ولو صامتة) مع عائلتها، نعم لست أنكر أن الثقافة المادية انتشرت اليوم بشكل فظيع، لكن هناك أهداف أسمى للعمل ينبغي ألّا نتجاهلها، مثل زيادة الإنتاج الثقافي العربي وإثراء المحتوى!
        هذه وجهة نظري وأعتقد أن الجنسين بإمكانهم فعل نفس العمل، خاصة وأننا كعرب محتاجون هذه الأيام للأعمال من قبيل الترجمة وصناعة والمحتوى.. شكرًا لك وعذرًا إن شعرتِ أن ردّي هجومي، لست كذلك 😂♥️♥️

  3. جزاك الله خيرا مقال رائع يحمل في طياته رسالة مهمة للشباب المقبل على سوق العمل
    (ودائما نقول لاتختبر عمق النهر بكلتا قدميك )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *