لماذا نشعر بالوحدة حتى وإن كنا محاطين بالناس؟

معظم استنتاجاتي الأولية عن مفهوم الوحدة مستنبطة من مراقبتي لنموذجيّ أبوايّ في التعامل مع لحظات الوحدة، فمن جهة، «بابا» يضجر كثيرًا عندما يقضي وقتًا بمفرده حتى وإن كان هذا الوقت لا يتجاوز ساعات قصيرة، بالرغم من أن لديه علاقات اجتماعية متينة ومتعددة، وبرنامجه الأسبوعي يعج بلقاءات الرفاق الذين تربطهم به صداقة عقود.

مع ذلك، في أحيان كثيرة تستطيع أن ترى جليًا على وجهه أنواع الامتعاض وهو مستوٍ فوق كرسيه الهزاز في صدر الصالة، يقلّب عينيه بين برنامج التحليل الرياضي أمامه وبين رسائل الواتس آب في يديه، ينادي علينا بصوت مرتفع ونحن على مسافة بضع خطوات منه، أنا منشغلة في غرفتي، ماما منشغلة في المطبخ، يعبر عن ضجره بطرق مختلفة، تارة ضمنيًا باختلاق المشكلات من اللاشيء، وتارة بالإعلان الصريح والشجاع قائلاً: «تعالوا اجلسوا معايا؛ ما أبغى أجلس لوحدي».

في المقابل، يوجد نموذج «ماما» التي يبدو أنها لا تستشعر أي مأزق نفسي في أن تمضي وقتًا طويلاً بمفردها دون أن تجالس أحدًا، أو تنخرط في لقاءات اجتماعية، أو حتى تخرج من البيت، مع ذلك لا تبدو عليها أيّا من علامات التملل أو الضجر من الوحدة، بل بالعكس تمامًا تبدو مشرقة ومبتهجة في انسجام فاتن مع ذاتها.

تنعزل أحيانًا لعدة أيام في إحدى شقق العمارة التي نسكنها، تعطينا تعليمات صارمة بألا نعكر صفاء عزلتها. طبعًا أخالف التعليمات وأداهمها، أجدها في قميصها القطني البنفسجي ذي الورود الزهرية، تشاهد مسرحية «العيال كبرت»، تقهقه تارة وتتفقد رسائل الواتسب تارة أخرى، أمامها إبريق شاي نحاسي تفوح منه رائحة النعناع، يجاوره طبق مكسرات، اتوجه إليها لأحشر نفسي بين ذراعها وصدرها، أهجم على استكانتها بوقاحة وأسئلها: «ما طفشتي يا حياتي من أول قاعدة لوحدك؟»، ترد وعيناها ما زالت على المسرحية: «ليش أطفش! عندي سجادتي، عندي تلفزيون، عندي مكسرات، قاعدة مروّقة ومبسوووطة».

لطالما حيرني هذا التباين في تعاملنا مع الوحدة، خاصة عند تشابه معطيات الحياة الاجتماعية، لماذا تشكل الوحدة أزمة وجودية مؤلمة عند البعض، ولماذا لا يعاني منها آخرون؟ لماذا يشعر البعض بوحدة شديدة بالرغم من كثرة علاقاتهم الاجتماعية، والبعض الآخر لا يعاني منها بالرغم من قلة علاقاتهم الاجتماعية؟ ولماذا قد لا يعاني من الوحدة من يسكن بمفرده؟ بينما ينخر إحساس الوحدة صدر إنسان يجاوره إنسان آخر في نفس السرير؟

الوحدة في مقابل العزلة

قرائتي لنموذجي أبوايّ كانت خاطئة، كنت اعتقد أن مجرد بقاء الشخص بمفرده فهذا يعني “وحدة”، على الأرجح المشهدان أعلاه رصدا كلاً منهما في حالين مختلفين جدًا؛ وحدة، وعزلة اختيارية، ويجعلني هذا التفريق استحضر بوضوح مشاهد ذهنية أخرى لوالدي كان فيها مرتاحًا ومشرقًا في لحظات عزلة اختيارية، ومشاهد أخرى لوالدتي عانت فيها من مشاعر الوحدة بالرغم من أنها – على عكس والدي – لم تعلن عنها لا صراحة ولا ضمنيًا.

الوحدة إحساس سلبي بالضرورة، بينما العزلة حال محايد في ذاته، فـ «مجرد البقاء لوحدك ليس قضية سلبية ولا هي ايجابية. فالأمر برمته يعتمد على كيفية بقاءك بمفردك» [١].

الوحدة ليست شكل أو نوع واحد

في كتابه «فلسفة الوحدة»، يعرّف الفيلسوف النرويجي «لارس سفيندسون»، الوحدة على أنها «استجابة عاطفية لحقيقة أن حاجة الفرد للاتصال الاجتماعي غير محققة» [٢]، أي عندما لا نشعر أن لدينا علاقات وتفاعلات اجتماعية تشبع احتياجاتنا، أو بتعبير آخر «الوحدة لا تعني بالضرورة غياب المجتمع، وإنما عدم تحقق المجتمع المثالي المنشود»[٣]، لذلك لا يهم عدد وكثرة العلاقات الاجتماعية التي نمتلكها، طالما أن التفاعل معها، أو تفسيرنا لهذا التفاعل، لا يلبي احتياجاتنا في التواصل مع الآخرين، ويفرق بعض العلماء ما بين الوحدة الاجتماعية؛ أي نقص الإندماج الاجتماعي، والوحدة العاطفية؛ الافتقار إلى علاقة حميمية مع شخص معين في سياق عاطفي [٤].

ويفرق «سفيندسون» بين نوعين رئيسيين من الوحدة، فهناك الوحدة المزمنة، حيث يشعر من يختبرها «بألم مستمر بسبب عدم وجود صلات كافية مع الآخرين»[٥]، وقد يرى أن العلاقات الاجتماعية من حوله عبارة عن تهديد أو مصدر خطر، فيطور اتجاهها حساسية عالية تزيد بتعمق انعزاله عن الآخرين، وما يعزز هذه القناعة في ذهنه هو بحثه المستمر عن دلائل الإخفاق في علاقاته، فيؤدي ذلك إلى تقويض علاقاته وتعزيز الشعور بالوحدة [٦]، فيصبح عالقًا في دائرة مؤلمة.

هذا النوع من الوحدة خطير وفي الغالب مَرَضي، ويُطبع على من يختبرها صفة الوحداني، وصفها «سفيندسون» بأنها أمر «يهدد وجود الفرد بالكامل» [٧]، نستطيع أن نستشف بعضًا من وقعها المُهلك للنفس من خلال كلمات «ويليام جيمز» عندما يصفها قائلاً: «إذا لم يلتفت أحد لدى دخولنا، أو يجبنا عندما تحدثنا، أو يعر ما فعلناه اهتمام، وإذا تجاهلنا كل فرد قابلناه، وتصرف كأننا كائنات غير موجودة، سيعترينا ضرب من الغضب واليأس الموهن عما قريب، وستكون أقسى أنواع التعذيب الجسدي تفريجًا عنها» [٨].

أما النوع الثاني فهو الوحدة العابرة أو المؤقتة التي تنجم عن ظرف ما أو تغيير طارئ على الحياة، مثل انتهاء علاقة أو موت عزيز أو فقد لشيء أو حال ما، وهذه وحدة نختبرها جميعًا كبشر من وقت إلى آخر، قد تداهمنا في أي لحظة سواء كنا بمفردنا في المنزل أو حتى في لقاء ممتع مع الأصدقاء، لكن ما يدعو للتفاؤل حولها هو أن مسبباتها معروفة وظرفية وبالتالي يمكن التعاطي معها وتخطيها، بعكس الوحدة المزمنة التي يصعب ربطها بحدث معين [٩].

لكن ماذا لو كانت لديك علاقات نوعية تشبع احتياجاتك ومع ذلك تشعر بالوحدة..

مؤخرًا كنت اشعر بوحدة لم استطع تحليلها من خلال تفسيرات «سفيندسون»، فمن جهة، لدي علاقات اجتماعية مثرية بفضل الله، ولم أمر مؤخرًا بتغييرات حياتية طارئة، لكني مع التفكير المطوّل استوعبت أني أشعر بأن علاقتي مع ذاتي – لا مع الآخرين – حاليًا بعيدة عن شكل العلاقة الذي أتمناه ويشبع احتياجاتي، أعتقد أني أمر بسلسلة مكثفة من اكتشاف جوانب من نفسي بطريقة أربكت العلاقة بيني وبيني، تمامًا كأن تربطك بشخص علاقة حميمية لمدة طويلة وفجأة تكتشف عنه أشياء – صادمة – لم تكن تعرفها، فيتخللك الشك تجاه العلاقة بأكملها، فتشعر بالوحدة..

العلاقة المضطربة بين الذات والذات قد تكون أحد أسباب الشعور بالغربة الداخلية، وبالتالي الشعور بالوحدة، لكن ماذا لو كانت علاقتك بذاتك ممتازة، ولديك علاقات اجتماعية مثرية، وتعيش ظروف حياتية ولا أروع، ومع ذلك تشعر بين الحين والآخر بالوحدة، ربما المحبطة والمربكة جدًا..

عن وحدة الحنين

كوننا بشر مخلوقين، أؤمن أننا دائمًا سنشعر ونختبر ونقاسي مشاعر الوحدة، ليس فقط لأننا كائنات بشرية مجبولة على التواصل والعلاقات، بل لأننا خُلقنا بنفخة من روح الله، هذه النفخة التي من هُناك، ونحنا لانزال في الـ هُنا، ولأن جوهرنا كُوّن في الهُناك، سنشعر لا محالة بالحنين والشوق لهذا الهناك، والشوق جزء لا يتجزأ من مشاعر الوحدة.

يعبر الشاعر الفارسي «فريد الدين العطار» عن فكرة مشابهة – فيما معناه: أننا نعيش حياتنا في هذه الحياة الدنيا – أو هذا البعد الوجودي – ونحن في اشتياق للحظة «ألستُ»، أي تلك اللحظة التي أجبنا الله تعالى فيها بـ «بلى» حين خلقَنا وسألَنا: «ألستُ بربكم»، حيث تمثل تلك اللحظة، لحظة الشهود، لحظة الميثاق، لحظة الارتباط الأولى مع منشأنا الأول..

بغض النظر عن رؤية «العطار»، أعتقد أن حنين الروح إلى الله هو ما نختبره حين نشعر باشتياق شديد لشيء لا نعلم ما هو، نشعر أننا نفتقد شيء لا ندركه ولا نستطيع وصفه بالكلمات ولا حتى الوصول له بالتفكير، كل ما نشعر به إحساس بوجود هُوّة فارغة في منتصف الصدر لا يملؤها إلا خليط من مشاعر حنين لشيء نجهله، وإحساس بالوحشة كوننا بعيدون عنه.

لا مفر من الوحدة، لكن…

الوحدة في جميع حالاتها جوهرها واحد؛ الألم أو الحزن، ولن يمحو هذه المشاعر شيء حتى وإن قررنا الهروب منها بالانغماس المؤقت في ممارسات تخدر قدرتنا على الإحساس.

من يعتقد أنه لو دخل علاقة رومانسية مع شريك/ة حياة، أو كون صداقات أكثر، أو كانت لديه عائلة محبة، فإن مأساته مع الوحدة ستختفي نهائيًا، فهو مخطئ جدًا، طالما أننا على قيد الحياة، طالما أننا كائنات بشرية، طالما أننا مخلوقين، طالما أن لدينا قلب يُحب ويَفقد، سنختبر لحظات وحدة مؤلمة جدًا في هذه الحياة.

لكن، هناك الكثير مما يمكننا فعله للتخفيف من حدة مشاعر الوحدة وقسوتها، أولها، أن نقبل حقيقة أنه لا ما مفر أو مهرب من الوحدة بأشكالها المعقدة والمختلفة، وثانيها، أن نحاول ألا نشعر بأننا نعيش أفشل لحظات حياتنا عندما نكون وحيدين، فالجميع يمر بذلك، مهما بدت حياتهم سعيدة ومثالية، وثالثها، أن نُطبّع الحديث عن مشاعر الوحدة قدر الإمكان حتى نخفف من وصمة العار المصاحبة لها، ورابعها، أن نطلب المساعدة عندما نشعر أن الوحدة تكاد تلتهم أرواحنا، وخامسها، أن نحاول أن نقف بجانب من نعتقد أن الوحدة تكاد – أو بالفعل – تلتهم أرواحهم حتى وإن رفضوا عوننا في بادئ الأمر.

فما بيننا وبيننا، وما بيننا وبين الله، وما بيننا وبين الناس الأخيار، يحدد قدر إمكانية نجاتنا من فتك الوحدة القاسية بنا.

–انتهى–

المصادر:

مصدر صورة التدوينة: theworld.org

[١]، [٢]، [٣]، [٤]، [٥]، [٦]، [٧]، [٨]، [٩] كتاب «فلسفة الوحدة»، لارس سفيندسون، منطاد للنشر والتوزيع، ٢٠١٩

انضم إلى قائمة القرّاء حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

6 ردود على “لماذا نشعر بالوحدة حتى وإن كنا محاطين بالناس؟”

  1. لا فض فوك العنود، مقال جميل تناول أحد أكبر مشاكل العصر الحالي
    وبالنسبة لعبارة أن الوحدة جوهرها واحد إما الألم أو الحزن فهو تأكيد على أن الموضوع ليس باختياري، وعلى النقيض يجب على الانسان ان يعلم ان العزلة امر جيد وقد تصبح أحد المقدسات بعد فترة الزمن بشرط أن يحب الإنسان نفسه ويتعرف على شخصه ويواجه أفكاره ومخاوفه فتصبح العزلة بعدها وقت مخصص ومستقطع للراحة والتفكير وشعورها دائما ايجابي

  2. أنا أعرف ماهية الوحدة جيدًا، و إذا حاولت أن أعرج على أن أُفصِّلَ ماهيتها في كتاب ذي ألف صفحة أو في رواية ذات مئة فصل، فإن هذه المقالة ستكون خلاصة كليهما.

    الإنسان على مقدرة كبيرة بأن يتعود على الشهرة. لكن ما لن يتعوّد عليه هو أن يكون مُهمَلًا مُعرَضًا عنه من بني جنسه.

    أتمنى إن أحببت بصدقٍ يومًا ألا أُشعِرَ من أحبّ بأنه وحيدٌ أبدًا.

  3. “الوحدة في جميع حالاتها جوهرها واحد؛ الألم أو الحزن، ولن يمحو هذه المشاعر شيء حتى وإن قررنا الهروب منها بالانغماس المؤقت في ممارسات تخدر قدرتنا على الإحساس.”

    حقا يجب على الإنسان أن يتعامل مع الوحدة بحكمة وواقعية وكلما عرفنا هذه الحقيقة التي اقتبستها من كلامك في الأعلى؛ كلما خف الألم والشعور بالخزي والعار والإرهاق النفسي.

    مررت بحالة مشابهة فأنا منذ فترة طويلة لا أحرص على كثرة العلاقات؛ بل وأحاول قدر الإمكان لسنوات طويلة التخفيف منها قدر الإمكان والاكتفاء بالحد الأدنى كأقارب الدرجة الأولى وصديق مقرب لا أكثر، ولم أشعر بوحدة مزعجة أو ملفتة للنظر خاصة عندما كنت أقضي أغلب أوقات الفراغ في القراءة والاطلاع.
    ولكن شعرت منذ أشهر بوحدة مزعجة ومربكة فقررت الهروب والاندماج في مجموعة لطالما تهربت منها ومن أمثالها من أجل التخفيف من العلاقات غير الجادة والمضيعة للوقت (استراحة شباب وأصدقاء قدامى يقومون بالطبخ ولعب الورق)، ولكن فعلا لم تنجح محاولتي في إزالة هذا الشعور رغم احتفائي بهذه الشلة واحتفائهم بي.

    هذه التجربة الخاصة بي هي مثال حي لما قرأته ولمسته في مقالك، والحقيقة أني لم أكن مصدوما من نتائج محاولتي الهروب من الشعور بالوحدة، وهي أيضا لم تكن فاشلة بالكامل في التخفيف من شعوري بالوحدة، لكن تأكد لي تماما أن الشعور بالوحدة ليس له علاقة أبدا بكثرة أو قلة علاقات الإنسان الاجتماعية أو حتى كونه وحيدا فردا.
    وأرى أن الإنسان ينبغي أن يكون قويا من الداخل وأن يتعلم ويتأقلم مع الشعور بالوحدة عندما يعتريه ويحاصره من كل مكان، وأن يفرق بين كونه وحيدا منعزلا وبين شعوره بالوحدة، فبينهما فرف واختلاف كبير.

    شكرا على المقال

  4. شكرا على المقال رائع جدا
    وجدت نفسي في اجزاء كثيره من مقالتك
    وفهمت منها كثيرا من مشاعري التي لم اجد لها تفسيرا في اوقات وحدتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *