كيف تِفُكْ هُروج رهيبة ١٠١: ابتعد عن المحادثات الصغيرة

«فَك هُروج» يعني «فتح أو بدء محادثات» في اللهجة الحجازية، و«الهَرْجة» – مفرد هروج – هي المحادثة أو موضوع ما.

أحب هذا التعبير، أشعر أنه يخفف توتر بدء محادثة مع شخص غريب، فمثلاً لو رأيت شخص ما وقلت في نفسك “خليني أروح أفُكْ معاه هرجة”، أشعر أن الأمر يصبح أظرف وأكثر أرياحية، مقارنة مع ما إذا قلت لنفسك “خليني أروح أكلمه” والتي تتسم بحس الجدية والثقل…أو قد يكون كل ما في الأمر أني الآن أحاول ملئ رأسك بالهراءات التي ليس لها أي أساس.

شكرًا لك على تحملّي عزيزي القارئ، هذا العشم.

لكن دعني أقول لك أني حياتي في الفترة الماضية كانت تعج بمقابلة أناس جدد وبناء دوائر اجتماعية جديدة نظرًا لإنتقالي إلى مدينة أخرى، هذا الزخم في اللقاءات الاجتماعية جعلني أكوّن قناعة أن الكثير منا لا يعرف كيف يفك هروج عندما يقابل أشخاصًا للمرة/المرات الأولى، والأمر لا يختلف كثيرًا عندما يكون التواصل أون لاين.

ولأن خوض محادثة ماتعة، مثرية، لذيذة مع شخص تعرفه أو لا تعرفه هي أحد مباهج هذه الحياة، والتي تقود إلى فرص حياتية رائعة في أحيان كثيرة، أشعر أنه من واجبي تبنّي هذه القضية الاجتماعية والتصدّر لها، وما يخولني لهذه المهمة النبيلة التي نصّبت نفسي عليها هو أني شخص اجتماعي حد التطرف؛ لا يجد غضاضة بأن يفك هروج مع أناس لا يعرفهم.

في أول تدوينة في هذه السلسلة (أوه ورطت نفسي في سلسلة!)، أريد أن أطلب منك أن تبتعد عن المحادثات الصغيرة إن أردت خوض محادثة ذات معنى، تساعدك على التعرف إلى الشخص الذي أمامك بشكل أفضل وتكوين تواصل ودّي معه.

هل المشكلة في الأسئلة؟

لا يُقصد بالمحادثات الصغيرة تلك القصيرة أو الخفيفة أو الظريفة، بل يقصد بها تلك المحادثات المستهلكة التي تدور حول أمور غير مهمة، فتجد نفسك تسأل وتجاوب بطريقة أوتوماتيكية محبطة، لا تساعد الأطراف المتحاورة في أن يشكّلوا فهم أعمق عن بعضهم البعض.

تعرف نوعية الأسئلة المملة التي نتبادلها عادة في محادثات اللقاء الأول؟ مثل:

  • نوع الأغاني الذي تحبه؟
  • أكثر أكل تحبه؟
  • برجك؟
  • أكثر مدينة تحبها؟
  • تحب السفر؟
  • تحب البحر؟
  • تحب تنط من الشجر؟؟

إجابات الشخص على هذه الأسئلة ربما ستساعدك على إيجاد أرضية مشتركة أو تشكيل انطباع عنه وعن مزاجه، إلا أنها بطبيعة الحال ستبقي وتيرة المحادثة سطحية وفاترة، ذات نهايات مسدودة، يتبعها صمت وصوت صرصار ليل في الخلفية وقدر لا بأس به من الـ (social awkardness).

إلا أن موازين المحادثة تنقلب إذا استخدمت الكلمة السحرية…

السر الذي يحول المحادثات الصغيرة إلى كبيرة..

ليس السر أن تسأل الطرف الآخر – والذي تحادثه للمرة الأولى في سياق اجتماعي عادي، ولا تعرف أي شيء عن خبراته أو اهتمامته – عن رأيه في حرب فيتنام مثلاً أو وجهة نظره حول تناقص أعداد سمك السالمون في ألاسكا…(بالمناسبة أجد أن أي محاولة للتذاكي أو التظاهر بمظهر المثقف يجعلنا فورًا أغبى خلق الله على أرضه).

والسر لا يكمن في طرح أسئلة شخصية جدًا من نوع “حدثني عن أسوأ لحظات حياتك”..

ولا يكمن أصلاً في ضرورة استبدال الأسئلة المملة أعلاه.

إنما السر يتواجد في سؤال لماذا.

“لماذا” تصنع كل الفرق لأنها علامة فضول، والفضول سر الوصل والوصول.

تخيل أن أحدهم قال لك: أحب السفر إلى مصر، هنا لديك عدة خيارات..

١) أن تقول “همم انتريستنق”، وهي الشفرة العالمية للتسليك كما نعرف جميعًا، ثم تنتقل إلى السؤال التالي وكأنك موظف في هيئة الإحصاء يحاول أن ينهي الاستبيان قبل أن يُقفل الباب في وجهه.

٢) أن تدلي بدلوك الذي لم يطلبه أحد بعد، وتشارك قائمة الدول التي تحبها أنت.

٣) أن تسحب السجاد من تحت المتحدث وتحكي له عن صولاتك وجولاتك في مصر للثلاث ساعات التالية.

٤) أن تسأل باهتمام حقيقي، لماذا تحب مصر؟ وتنصت…

لماذا تحب مصر؟ ما الذي يشدّك فيها؟ احكي لي عن بعض الأمور التي تعجبك فيها؟ كلها تنم عن رغبة في فهم الـ لماذا.

وأنا أؤمن أن محاولة فهم الـ لماذا أهم بكثير من معرفة الـ ماذا..أي ماذا تحب، ماذا تكره، ماذا يلفتك، ماذا يضحك..إلخ.

سؤال اللماذا عقلية وليس مجرد كلمة

عندما يشاركك أحدًا معلومة شخصية مهما كانت بسيطة، بمجرد أن تسأله “لماذا”، أنت بذلك تأخذ بيده من الضيق إلى الوسع، تعطيه أرض شاسعة ليعبر عن وجوده فيها، وتعطي نفسك أعيُنًا متعددة ترى بها جوانبًا جديدة سواء في الشخص الذي تحاوره أو في الحياة بشكل عام.

ومن سحر سؤال اللماذا أنها تجعل الطرف الآخر يستشعر اهتمامك، يستشعر أنك “مصحصح” معه، أنك مستأنس بالحديث، أنك مهتم بالتعرف على وجهات نظر مختلفة، هذه الديناميكية تخلق في الغالب تواصلاً ومحادثات ذات معنى، تضيف إلى أرواحنا وقلوبنا وعقولنا الكثير.

لكن

لكن

شتان الفرق بين لماذا استنكارية تنم عن اعتراض، أو تهكم، أو انتقاد مبطن، ولماذا استفسارية تنم عن استعداد صادق للإنصات بنية تعلم أو اكتشاف شيء جديد، وأعتقد أن هذا، عزيزي القارئ، هو سر السر في قدرتك على فك هروج رهيبة.

–انتهى–

مصدر صورة التدوينة: gailah.xyz

مقالات ذات صلة:

ليلة مع ليلى: عن المحادثات الساحرة والقواعد الـ ١٠ لخوض محادثة مثيرة وذات معنى

انضم إلى قائمة القرّاء حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

14 ردّ على “كيف تِفُكْ هُروج رهيبة ١٠١: ابتعد عن المحادثات الصغيرة”

  1. أنا لست اجتماعية ولا أحب حين يقتحم أحدهم فجأة وبدون مقدمات مساحتي الهادئة في أي مكان عام أو خاص لذلك اختلف معك جدا في كونها احدى متع الحياة.. لكنني اتفق معك في تأثير سؤال ” لماذا ” المندهش ثم الانصات ..

  2. تحفة، كالعادة 🎉
    بالمناسبة “لماذا” تِفُك بكسر التاء ؟ أنا من الحجاز بس تِفُك مو راضية تركب على لساني، ننطقها تُفُك أو تْفُك ..
    وفكك الله من الأسئلة اللي زي كذا والله 😁

    1. هههههه أحمد الله يسعدك ضحكتني! ايوا قيد سمعتها تتنطق “تُفك” بس برضه في الغالب سمعتها “تِ” ..أظن أميل للكسرة لانه عادة في العامي نكسر التاء في الضمير المخاطب أنت لما يبدأ بحرف التاء، زي “تِفتح”، “تِبدأ”، “تِهرج”، “تِتفلسف”، “تِنتقم” هل تِقدر تِبدأ بضمة على أي من الأفعال السابقة ؟ ما أظن..أميل إن الأصل كسرة بس عشان الحرف اللي بعدها مضموم فينسمع الصوت وكأننا نضم التاء مع السرعة في النطق/الكلام
      فكك الله إنت من الاجابات اللي زي كدا 😂

      1. صح، أتوقع السبب على قولك هو إن الحرف الثاني هنا مضموم فيتهيئ لي إن التاء ساكن أو مضموم والله أعلم 👌
        ننتظر باقي السلسلة وباقي إبداعاتك، كشخص إنطوائي حد التطرف مثل هالسلسلة مهمة جداً تخفف من حدة “الأكوردنيس” اللي نعيشها مع كل طلعة من البيت 😁

        1. هههههه لا ما عليك، عندك حس فكاهة ذكي ما شاء الله.. متأكدة إنك تعرف تفك هروج رهيبة، بس عاد سيكولوجية الإنطوائين دي خارج نطاق التغطية

  3. هناك دروب يمكن أن نجد الإنسان حقيقة فيها … في سر انهماكه ….في أسباب انصرافه … ما الذي يعز عليه فقده … مالذي يتوق إلى حمله …

  4. اسستمتعتت كثير بالمقاله ومن فترررة اتأمل بموضوع السواليف فجاء في وقته… وبالنسبه لسؤال لماذا فعلا الاهتمام بشكل عام ينقل الحوار لمستوى أبعد، بس في مره عدى علي شخص كان يستخدم السؤال عشان يجنب نفسه المشاركة بالحديث مو عشانه مهتم بالفعل كان يستمر يسأل لماذا إلى الا نهائية وما بعدها😮‍💨

  5. تمنيت لو كانت المقالة اطول !
    كم هو صعب التحدث لشخص لا يجيد سرد الحكايات الطويلة ..
    واحاديث البدايات دوما صعبه (عند التعرف على شخص جديد) فلا شي مشترك يجمعكم للحديث حوله .. وغالبا ما تنتهي جميع الاجابات بكلام مغلق
    كيف حالك .. الحمد لله بخير .. انتهى 🙂

    1. أهلاً رامي، هذه هي فكرة سؤال لماذا…إنه تفتح الإجابات المغلقة، مثال سريع، لو قابلت شخص ما في مكان عام أو إيفينت مثلاً، وسألته هل عجبك المكان، وقالك إي والله مرا حلو / أو لا..إسأل “ليش عجبك؟”، حيشاركك وجهة نظره، وغالبًا حيقول شي في إجابته تستدعي إنك تسأل لماذا أخرى أو تعلق تعليق آخر..وحتى انت لما تشارك رأيك، شارك ليش انت عجبك المكان أو لا، كدا المحادثة تمتد
      هناك مقالة أطول في نفس الموضوع، إقرأ “ليلة مع ليلى” رابطها موجود في نهاية هذه المقالة

  6. أحببت المقاله جدًا، بالشرقيه وتحديدًا بالاحساء وممكن بس بالقرى تسمعي الكلمة العامية “وش معنى”؟ وش معنى مصر؟ يعني ليه بذات مصر ؟ لماذا مصر؟ أو بنستخدم ليش؟

    أحب كسر الحواجز وفتح الهروج الزينة علني ألقاك يومًا ما ونفك هروج من النوع الزين 🌱

  7. تدوينة جميلة ومفيدة، وكشخص اندفاعي ومتحمس في كثير من الأحيان تعلمت أن أدرب نفسي على الإنصات وعدم القفز للاستنتاجات وتجنب الخيارات الثلاثة الأولى التي قمتي بسردها…

    “لماذا” هي الكلمة السحرية إذن! 😅✨

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *