عندما تفقد الحماس تجاه عملك الذي تحبه، اسأل نفسك هذا السؤال

صورة التدوينة: لوحة للفنان الكولومبي جوهان باريوس

في مراحل ما حياتك لابد وأنك عشت مشاعر فقدان الحماس تجاه عمل ما بالرغم من أنك تحبه كثيرًا، وعلى الأرجح أنك وقتها شعرت بالحيرة، فإن كنت قد فقدت الحماس تجاه عمل لا تحبه أصلا فهذا مفهوم، لكن أن يكون عملاً تحبه ويجلب لك إحساس عميق بالمعنى لكنك تستيقظ ذات صباح وتشعر أنك لا ترغب بالقيام به! فهذا أمر محير ومحبط جدًا.

وهنا توجد عدة احتمالات وراء تلاشي هذا الحماس:

١) التعب أو الإجهاد الناتج عن نمط الحياة أو العمل المستنزف، وهذا مفهوم تمامًا ومعالجته تكون بإستعادة بعض التوازن في نمط الحياة.

٢) ألا يكون حبك لهذا العمل أصلا حقيقيًا، وإنما حماسك له ناتج عن “نشوة البدايات”، فالبدايات دائمًا فاتنة ومغرية لأنها تمثل تحدي ومغامرة جديدة لنا، لكن مع مرور بعض من الوقت وانقضاء “أثر شهر العسل” (The honeymoon effect)، نكتشف أننا لا نكترث حقًا لهذا العمل. فكّر مثلاً، كم شخص أخذ دورة تصوير ودفع آلالاف الريالات في كاميرا لكنه لم يفعل أي شيء بعد عدة شهور أو حتى أسابيع، كم شخص بدأ مدونة لكنه لم يستمر في التدوين ولو بشكل متقطع، الأمثلة لا تنتهي. لدي صديقة تقول أن أي مجال تخوضه ولا تستمر فيه لأكثر من ٦ شهور فهذا يعني أنها غير جادة فيه وغير شغوفة به. وهذا أمر طبيعي ومفهوم، وليس بأمر سيء نجلد أنفسنا عليه، بل بالعكس من الجيد أن نجرب أعمالاً ومجالات لنعرف ما الذي يناسبنا وما الذي لا يناسبنا.

٣) أن كل شيء في حياتك يبدو على ما يرام، وكل شيء يسير حسب “الخطة”، لكنك تستيقظ في يوم ما وتشعر أنك لا تريد القيام بهذا العمل الذي لطالما أحببته وآمنت به، بل وربما قمت ببعض التضحيات لأجله. تحاول أن تقوم بأمور جديدة أو تغييرات في روتينك، أن تأخذ إجازة ربما لتجديد الطاقة، لكن الشعور لازال يتلبسك، لماذا؟ أنت لا تعرف بالضبط..

  فقداني للحماس تجاه الكتابة في الآونة الأخيرة

منذ أكثر من شهر تقريبًا أشعر أني لا أريد أن أكتب، وهذا أمر غير جديد علي، فهذا الشعور موسمي يأتي ويذهب بين الحين والآخر، وفي كل الأحوال، فأنا أستمر في الكتابة والنشر حتى وإن لم أكن متحمسة لذلك، لكن ما أقلقني أني شعرت أن هذه الحالة – أي غياب الحماس تجاه الكتابة – استمرت لمدة طويلة هذه المرة، وهي ليست بحبسة الكاتب (writer’s block)، لأني أعرف بالضبط ما أريد أن أكتب عنه ولدي الكثير من الأفكار التي تنتظر دورها في أن تطأ أرض المسودة، وليست المشكلة أنني منهكة من العمل، بل بالعكس تمامًا، فقد كنت في سفرة استجمام الفترة الماضية، قضيت وقتًا ممتعًا مع العائلة وبعض الأصدقاء خارج مدينتي، وتوقعت أني سأعود بشهية كبيرة للكتابة، لكن ذلك لم يحدث..

لم أفهم ما المشكلة وعدم قدرتي على فهمها يزيد الأمر سوءًا، والمقاومة أو الصراع المزعج ما بين “ما أبغى” و “بس المفروض” كريه جدًا ومعرقل.

محاولة لفهم المشكلة

كنت أتحدث عن المشكلة مع أحد الزملاء، فسألني: «لماذا تلتزمين بالكتابة؟ ما هو هدفك؟» قلت له لدي هدف مهني على المدى القريب وهو أنني أريد أن أكون كاتبة محترفة ومتمكنة، ولذلك آخذ الكتابة في هذه المدونة على محمل الجد، هي ليست هواية أو عمل أقوم به فقط عندما أكون في مزاج جيد، وبالتالي الاستمرارية والانضباط هنا أولوية وإن كان ذلك على حساب جودة المحتوى، فأنا أؤمن أن الجودة لن تتحسن وأن المهارات لن تصقل إلا مع الاستمرارية والانضباط.

كان رد زميلي كالتالي: «حسنًا، كيف يمكنك أن تكوني محترفة ومتمكنة بعيدًا عن الكتابة؟» لم أعرف كيف أجواب، فأعاد السؤال: «كيف يمكنك أن تكوني محترفة ومتمكنة بعيدًا عن السياق المهني تمامًا؟ أي في حياتك الشخصية». الصراحة سؤاله أربكني لوهلة، فكل تفكيري كان متمحورًا حول الأعمال المهنية الأخرى التي أقوم بها إلى جانب الكتابة، حاولت أن أفكر في ماذا يعني أن أكون محترفة ومتمكنة كشخص، كإنسان، لا ككاتبة أو مستشارة إدارية أو صاحبة عمل مستقل، واكتشفت أن هناك فرص كثيرة في الحياة اليومية العادية والتعامل مع الناس يمكن أن أكون فيها محترفة ومتمكنة خارج نطاق هويتي المهنية…أن تكون شخصًا متمكنّا يقتضي هذا مثلاً أن تكون شخص مطلعًا، دائم التعلم والنمو، تفهم الممكنات وكيفية توظيفها..إلخ، وكل هذه أمور ليست مقتصرة على الكتابة…لكن ما دخل هذا في مشكلة فقدان الحماس؟!

كان غرض زميلي من وراء هذا السؤال هو أن أرى أن الكتابة – والتي أنا مهووسة بها تمامًا – هي فقط جزء من كل أكبر. أرادني أن آخذ هدفي المهني إلى سياق أوسع يتجاوز المهنة نفسها، فالمشكلة أحيانًا هي أننا نحصر أنفسنا في زوايا ضيقة نرى الحياة أو ذواتنا من خلالها، وكلما حبسنا أنفسنا في هذه الزوايا الضيقة، شعرنا أننا مكبلين، عالقين، لا نعرف ماذا نفعل، فكلما تحركنا خطوة، نجد حائطًا يمنعنا من التقدم، فنشعر بالأستياء أكثر، وفي الغالب، كلما زاد الشعور بالإستياء، أطبقت علينا الزوايا أكثر وأكثر وخنقتنا.

سؤال زميلي ذكرني أن هناك مساحات شاسعة متاحة فلماذا أحصر نفسي في زاوية ضيقة؟ هذه النظرة المغايرة كانت كفيلة بأن تجعلني أخفف من الشعور بعبء مهمة الكتابة التي اخترتها، بل والأهم من ذلك أن أنظر إليها من وجهة نظر شمولية حياتية ليس فقط من وجهة نظر مهنية. وهذا لا يعني أن أقلل من اجتهادي وسعيي في مهنة الكتابة لكنه يعني ترسيخ هذا السعي في إطار حياتي أوسع يتجاوز المهنة وأحلامها.

أيًا كانت أهدافك المهنية، إذا وجدت نفسك يومًا ما محاصر بشعور فقدان الحماس المحبط تجاه ما تحبه، جرب أن تسأل نفسك: لماذا تفعل ما تفعل؟ وهل هناك طرق أخرى بعيدة عن السياق المهنية تعينك على تحقيق نفس الغاية؟ إدراك هذا الأمر قد يساعدك على أمرين:

١ـ أن تخرج من الزاوية الضيقة وترى الأمور بشمولية وسعة، وبالتالي تشعر أن هناك معنًا متجاوزًا يحركك، وأعتقد أن حاجة الإنسان للشعور بالمعنى في ما يقوم به حاجة متجذرة فيه.

٢- أن تذكر نفسك بالغايات الأكبر، بالنوايا الأولى، بالماذا التي جعلتك تبدأ في المقام الأول. أتذكر هنا محاضرة للفيلسوف آلان دي بوتون، كان يقول أن من أهم الأدوات الخطيرة التي يجب على العلماء الملحدين تعلمها من الدين وتطبيقها في السياق الأكاديمي العلمي هي ممارسة التذكير والتكرار، فإذا نظرنا إلى جميع الأديان نجد أن التذكير المتكرر جزء تكويني في تعاليمها وبنيتها، فمثلاً يقوم المؤمن بتكرار ممارسة الشعائر الدينية في كل يوم، في كل شهر، في أوقات معينة في السنة، لأن في ذلك تذكير له بالغايات الكبرى أو تذكير بالتمسك بالمعاني والممارسات المثلى، ودون هذا التذكير المتكرر، من الطبيعي أن ينزلق الإنسان إلى خارج المسار.

أما الأمر الآخر الذي أؤمن أنه يساعد كثيرًا في معايشة مشاعر فقدان الحماس الموسمية تجاه ما نحب هي أن نلجأ إلى الأشخاص الذين يسندون ظهورنا، أؤلائك الذين لا يطبطبون علينا بحب فحسب بل الذين لا يسمحون لنا أن “نسلّك” لأنفسنا أو أن نختلق الأعذار الواهية ونصدقها.

سؤال المعنى، التذكير المتكرر، والأشخاص الداعمين هي ٣ أسلحة نحتاجها لكي ننجو في هذه الحياة بعد لطف الله وعنايته.

وقفة أخيرة مع انتصارات صغيرة

بالأمس كتبت منشورً “اتحلطم” فيه على حالي مع الكتابة

معظم النصائح التي أتتني دعت لأن أخذ إجازة وأتوقف عن الكتابة حتى أتحسن ومن ثم أعود، وهذا على الأرجح من طيب الناس ولطفهم واشفاقهم على حالي. لكني الصراحة سعيدة جدًا أني لا ولم استمع إلى هذه النصائح..

حقًا لا أصدق في هذه اللحظة أنني أتمم كتابة تدوينة بعد أن كنت أتهرب من الكتابة طيلة هذا الأسبوع! تهمني اللحظات التي ينتصر فيها انضباطي على كسلي وتقاعسي أكثر من اهتمامي بجودة محتوى التدوينات في هذه الحالة، فالجودة تتحسن مع الممارسة المستمرة.

أيضًا أنا أؤمن أنه لا يوجد فن حقيقي يصنع من منطقة الراحة، أيًا من الكتاب العظماء لم يقتصروا على الكتابة وهم في “مزاج جيد” فقط، بل أعظم الكتب كتبها أصحابها وهم حرفيًا في أسوأ وأحلك الظروف التي قد تمر على الإنسان…لو أن كل شخص فنان فكر: «أوه لن أفعل إلا عندما أكون في مزاج/حال جيد» لما شهدنا فنًا “يشقلب” وجداننا ونظرتنا للحياة.

ليس الفن فقط، بل أي شيء ذو قيمة حقيقية لا يخرج من منطقة الراحة، ولا يخرج بشكل فردي، فنحن نحتاج إلى المجاهدة، والرفقاء في هذه المجاهدة.

الساعة الثالثة والربع فجرًا الآن، لا شيء يوصف سعادتي في هذه اللحظة بهذا الانتصار الصغير، هذه التدوينة رقم ٨٦ تمت بفضل الله.

–انتهى–

مقالات ذات صلة:

هل تعيش قصة محمود وأمينة؟ أن تتوقف عما تحب ولا تعرف كيف تعود إليه

أن تقود سيارة في الظلام: عن دورة الضياع ومصاحبة المجهول

أول ٥٠ موعد غرامي: ٤ اقتراحات لبناء علاقة متينة مع أي مهارة جديدة

١٠ أمور تعلمتها من سيث جودين: دروس حول الحياة، العمل، التدوين – مقال مترجم

انضم إلى قائمة القرّاء حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

7 ردود على “عندما تفقد الحماس تجاه عملك الذي تحبه، اسأل نفسك هذا السؤال”

  1. ممارسة الكتابة يومياً ولساعات عديدة ولمدة طويلة سيجعلها جزءاً من كيانك وسلوكك بحال كان لديكِ هدف مهم ذو معنى..

    أعرف أحدهم ممن كان يمسك قلمه بعد الانتهاء من صلاة الفجر، ولا يتركه إلا حين سماع أذان الظهر، ومن ثم يعود ويمسكه إلى حلول أذان المغرب، وقد ألف العديد من الكتب..
    لا أظن أنه استطاع الوصول إلى هذه الانضباطية لولا ربط نفسه بهدف كبير يريد انجازه، وانغماسه اليومي بعمل شاق..

    قد تحتاجين لربط نفسك بمشروع كتابي أكبر، أو بالأحرى تحتاجين لتورّطي نفسك بمشروع كتابي كبير تعطيه جهداً يومياً ثابتاً..

  2. العنود. من جهه أخرى، نحن القرّاء ننتظر يوم السبت للاطلاع على مقالك الثمين، شكراً لعزيمتك التي جعلتك تُكملين التدوينة.

  3. تحية طيبة..
    أشكرك على الاستمرار وأتمنى لك المزيد من العمل والتميز في الكتابة، وتتكرر المشكلة لدى جميع من يكتب وليست هذه المشكلة محصورة لدى الكتاب بل حتى لدى الرياضيين وكل شخص يتطلب عمله ممارسة يومية لنشاط ما قد يوصف بالممل..

    أذكر أني سمعت نصيحة لسث غودين وهو يكتب كل يوم منذ سنوات ولا يتوقف في مدونته أنه لما سئل عن هذه المشكلة قال: “لا يوجد شيء اسمه حبسة الكتابة (writer’s block) وعلى الواحد منا أن يقوم بالعمل وحسب بغض النظر عن المستوى، وقال: “تخيل لو حضر سباك لمنزلك وقال لا أشعر اليوم بالرغبة في انجاز عملك فالأرجح أنه سيفقد عمله وهو أمر لا تسمعه بتاتاً”

    وأخيراً هذا مقال في مدونة المؤلف المميز جيمس كلير وهي التي أخرجتني من توقف طال شهوراً بسبب مشاكل كثيرة أحاطت بي في احدى الفترات من حياتي أتركه لك لقراءته ففيه الكثير من الفائدة

    https://jamesclear.com/daily-routines-writers?__s=iftpgh9ady13fybjbzqs

    كل تمنياتي لك بالتوفيق

    محمد إسحاق
    muhamedishaq.com

  4. نصيحتي لكي على تويتر كانت بأن تستمري بالعمل والاجتهاد على أهدافك الأخرى بجانب الكتابة، بحيث أنه أي تقدم بسيط في تحقيقها سيساعدك على تحقيق هدف الكتابة الأسمى لكي.

    تعلمت منكي في هذا المقال: “نشوة البدايات، وأثر شهر العسل، وحبسة الكاتب”. أبدعتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *