ماذا يعني أن تكون بطلاً للخارج vs. أن تكون بطلاً للداخل؟

مصدر صورة التدوينة: Destination KSA

معظمنا – إن لم يكن جميعنا – لديه رغبة أن يكون بطلاً بالمعنى النبيل للكلمة، أي أن يساعد الآخرين ويضيف قيمة ما إلى حياتهم، سواء كان عن طريق تقديم فزعة أو عون في موقف صعب، أو بتقديم النصائح، أو الدعم النفسي في الأزمات، أو حتى من خلال بعض المشاريع التي يؤسسها أصحابها بهدف حل مشاكل الناس، وتسهيلاً لحياتهم، أو لخلق فرص من شأنها أن تجعل حياتهم أفضل.

أنا مؤمنة أن معظمنا – حتى أكثرنا أنانية – لدينا هذه الحاجة الدفينة للعطاء بشكل أو بآخر، لا سيما أن هذه الحاجة تصاحبها الحاجة إلى ايجاد معنى للحياة، الحاجة إلى الاحساس بحب وتقدير الآخرين، الحاجة إلى تحقيق الذات من خلال ما نفعله للآخرين.

لكن أعتقد أننا أحيانًا ننزع لأن نكون أبطال للخارج قبل – أو حتى بدلاً من – أن نكون أبطال للداخل. والذي أقصده بـ “أبطال للخارج”، أي أن يكرس الشخص كل جهوده النبيلة البطولية للعالم الذي يقع خارج منزله، خارج عائلته، في حين قد تكون عائلته أشد الحاجة إلى وجوده وجهوده هذه. وحين أقول هم في “أشد الحاجة” هذا لا يعني بالضرورة أنهم يقولون «أرجوك ساعدنا، نحنا بحاجة إليك»، بالعكس تمامًا، قد لا تبدي العائلة أي احتياج أو تقدير لما يمكن أن يقدمه البطل، بل وقد يكون ردة فعلها تهكمية، فيها استهزاء أو انتقاص أو ربما انتقاد حاد في كل مرة يحاول البطل أن يقدم مساعدة لحل مشاكل العائلة. أو في حالة أخرى تكون العائلة مقدرة لجهود البطل ومحاولاته، لكن الديناميكية بين أفراد العائلة أو مشاكلها فيها من الألم الكثير الذي يصعب التعامل معه أو تحمله.

لذلك من الطبيعي والمنطقي جدًا، أن يأخذ هذا البطل قلبه المفطور ويحاول أن يرممه بعيدًا من خلال إيجاد ساحة أخرى – خارج نطاق العائلة – بعيدة عن الألم قدر المستطاع، يمارس من خلالها نزعته للعب دور البطل المنقذ. عادة ما تكون هذه الساحة هي العمل أو العلاقة مع الأصدقاء أو المشاركة المجتمعية بشكل عام.

إذا نظرنا إلى أعمالنا/وظائفنا/مشاريعنا فهي أكثر شيء يمكننا السيطرة عليه والتحكم به (طبعا دائما يوجد المغلوبون على أمرهم)، وبالتالي لدينا مساحة كبيرة أن نُفعّل من خلالها هذه الحاجة للعطاء، وتحقيق الذات وتلقي الحب والاحترام في المقابل، وبذلك قد تكون أعمالنا هي المنصة التي نحقق من خلالها ما لا نستيطع تحقيقه أو إيجاده في علاقاتنا الشخصية.

بينما الوضع في العلاقات الأسرية أو الزوجية شائك جدًا لأنه ليس لدينا هذه القدرة على التحكم والسيطرة على الوضع وتطويعه وفق ما نريد، والسبب أن هناك أطراف أخرى لا نستطيع أن نتحكم بها أو نغير ردة فعلها، وبالتالي في أحيان كثيرة نشعر بالعجز وربما نفكر «لا جدوى، ربما من الأفضل أن استثمر جهدي في مكان آخر، أشخاص آخرين يحتاجون إلي أو يرغبون فيما يمكنني أن أقدمه». وما يجعل الوضع أكثر سوء في العلاقات الشخصية هو أن هناك تاريخ متراكم، مشاعر متراكمة، ترابط وجداني عميق حتى وإن لم يتسم بالحب بين هذه الأطراف. فمثلاً قد تكون محاولة خوض محادثة شخصية صادقة وصريحة بهدف حل مشكلة ما مع شخص غريب أسهل بكثير من أن تفعل ذلك مع أخاك أو أختك مثلاً، أو أن تُقابل محاولاتك للمساعدة بالرفض من شخص غريب هو أمر أقل ألمًا من أن تقابل بالرفض من شخص قريب.

طبعًا هناك أمور أخرى تزيد الطين بلة وتوجد فجوات كبيرة في العلاقات الشخصية، تجعلنا نهرب إلى الخارج وتجعل تواجدنا أقرب إلى كونه صوري في الداخل – أي العائلة، مثلاً تغير نمط الحياة وتوفر حرية أكبر، صراع الأجيال الأزلي المؤلم ما بين الآباء والأبناء، خاصة في ظل تبدل الثقافات والمنظومة القيمية بشكل سريع، أيضًا انتشار ثقافة الفردانية والتي اتفهم تمامًا إذا ما قوبلت بتشرّب كبير وسريع كردة فعل لثقافة جمعية متطرفة عانى منها الكثيرون (التطرف لا يولد إلا تطرفًا)، يصاحب كل ذلك ما تسميه إستير بيريل بـ اقتصاد الذات (The Economy of Self)، أي الكم الهائل من المنتجات والخدمات والكتب والمحتوى الذي يكرس فكرة التمحور حول الذات؛ أن تتقدم لوحدك، تشكل عالمك بنفسك ولوحدك، تنجو بنفسك، أنت أنت والطوفان من بعدك.

بطلة الداخل

قبل عدة سنوات تعرفت على فتاة كانت ولا زالت تذهلني جدًا، فهي ليست بطلة للخارج فقط بل أيضًا بطلة للداخل، هذه الفتاة تأتي من عائلة سعودية تقليدية محافظة إلى حد كبير، لديها الكثير من المشاكل والتشنج والمشاعر المشحونة بين أفراد العائلة الممتدة، مثل أي عائلة أخرى. لكن صديقتي هذه، ذات النزعة النبوية. ركزت جميع طاقتها وجهدها لترميم منزل العائلة معنويًا. في الوقت التي كانت فيه قريناتها يكرسن كل وقتهن للأصدقاء والعمل، كانت هي تخترع أنشطة للعائلة ولقاءات وذكريات جميلة وحتى تقاليد وطقوس جديدة تمامًا لم تعرفها العائلة من قبل، تحاول أن تصلح من هنا ومن هناك، وفي الوقت ذاته تتمتع بشبكة علاقات اجتماعية رائعة وأصدقاء يكنون لها الكثير من الحب والاحترام، إلى جانب مشروعها وعملها الذي تنشر من خلاله الكثير من الجمال للناس وتحقق من خلاله ذاتها وتشكل من خلاله هويتها.

الصراحة لطالما غبطت صديقتي على قدرتها أن تكون بطلة للداخل، لأهلها، عائلتها الممتدة الذين – بالمناسبة – قابلوا العديد من جهودها بالرفض والانتقاد والتوبيخ وإصدار الأحكام القاسية عليها. أجدها شجاعة جدًا، ألهمتني هذه الفتاة في مواقف عدة. وتلهمني لأن أحاول أن أكون شخص شجاع بما فيه الكفاية لأن أكون حاضرة وصانعة بهجة وداعمة لأولائك الذين يحتاجونني في الداخل قبل الخارج، حتى وإن كانت تربطني بهم علاقة شائكة والتعامل معهم يفتح ملفات لا أريدها أن تفتح، أو تجلب مشاعر مؤلمة لا أريد التعامل معها، لكن الصراحة، لا يمكنني القول أني أستطيع فعل ذلك دائمًا، أنا أحاول، اتقبل بكل صدر رحب المحاولات الكثيرة التي لا تنجح، ثم أعود لأحاول مرة أخرى.

في السابق كانت توجد في سوق العمل السعودي ظاهرة – ربما لا تزال موجودة حتى الآن إلى حد ما – وهي أن معظم الموظفين الممتازين ذوي الكفاءة العالية يتوجهون إلى القطاع الخاص، فلا يبقى في القطاع الحكومي إلا الموظفين ذوي الكفاءات المنخفضة، وبالتالي جودة القطاع وخدماته ككل تنخفض.

الأمر ذاته آراه في سياق بطل الخارج وبطل الداخل، إذا استسلم كل شخص وقرر أن يكرس جهوده لاصلاح الخارج تحاشيًا للألم الذي يجده في الداخل، من سيبقى في الداخل ويحاول أن يرمم ما يمكن ترميمه؟

–انتهى–

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

12 ردّ على “ماذا يعني أن تكون بطلاً للخارج vs. أن تكون بطلاً للداخل؟”

  1. تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : “خَيرُكم خَيرُكم لِأهله، وأنا خَيرُكم لِأهلي” بيان موجز ومعنى عميق يمكن شرحه بمقالتك الرائعة✨

  2. فعلًا العنود، أن تكون بطلًا في الداخل أشقّ بكثير من أن تكون بطلًا للخارج.
    لذلك نجد الكثير من الأبطال الهاربين !
    تدوينة رائعة كعادتك.

    1. ماننسى ان كوني بطل في الداخل هذا سحب طاقه وجهد عميق مني في فتره معينه كنت فيها بطله من الداخل والخارج ومع نفسي في جميع الاتجاهات الموضوع سبب ليا انتكاسه صحيه الحمدلله صحيت منها ممكن كنت استنزف داخاليا لاشعوري مع اني كنت اللي اقدمه بمحبه

  3. رائعة التدوينة
    دائماً يلفت انتباهي هذا الشيء شخصيات في عملهم ناجحين لكن عائلياً فاشلين
    لكن مثل ماذكرتِ “من سيبقى في الداخل ويحاول أن يرمم ما يمكن ترميمه؟”

  4. “أحيان كثيرة نشعر بالعجز وربما نفكر «لا جدوى، ربما من الأفضل أن استثمر جهدي في مكان آخر، أشخاص آخرين يحتاجون إلي أو يرغبون فيما يمكنني أن أقدمه». وما يجعل الوضع أكثر سوء في العلاقات الشخصية هو أن هناك تاريخ متراكم، مشاعر متراكمة، ترابط وجداني عميق حتى وإن لم يتسم بالحب بين هذه الأطراف. ”

    مقالتك .. أصابت (ما أُفكر به) في مقتل .. دائماً ما أحادث ذاتي عن الأفكار التي تم ذكرها لكن بطريقة عشوائيه وكأن مقالتك شرحت وعبرت عما يجول في خاطري .. وكأنها أغنية استمع إليها شخص وشعر أنها تعنيه

    ممتنه جداً لمقالاتك وطرحك واسلوبك أشعر اني اخاطب ذاتي 3>

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *