كيف حل الحب محل الدين؟ عن تغير معادلة «الإله هو الحب» إلى «الحب هو الإله»

صورة المقالة: لوحة للفنانة سارة العبدلي

من المفارقات المثيرة للاهتمام في الحياة أن الحب – بجميع أشكاله – من أكثر التجارب التي يسعى خلفها الانسان المعاصر، بالرغم من أنها من أكثر التجارب التي تجلب له البؤس وخيبات الأمل، مع ذلك فهو لايزال في بحث حثيث عن هذه التجربة. فلماذا يا ترى، عن ماذا يبحث الإنسان في الحب؟

على مر العصور، لطالما شكل الدين – أو بالأحرى وجود علاقة مقدسة تربط الإنسان بشيء أكبر منه، شيء يتجاوز طبيعته البشرية – مصدرًا أساسيًا لتلبية حاجة فطرية عند الإنسان تجعله يبحث عن «الشعور بأن لديه مأوى في هذا العالم، أن لوجوده عمقًا ومعنًا، أنه يمكنه أن يعيش واقع حياته وكأنه أبدي حتى وإن كان متقبلًا لفكرة أن حياته مؤقتة وستنتهي بالموت»[١].

هذه العلاقة تتجلى فيما يعرف في بعض الأدبيات الفلسفية والأدبية والاجتماعية بـ «الحب الإلهي» (Divine love) أو حب الإله للإنسان والذي من أهم سماته كما تشرح هذه الأدبيات أنه حب غير مشروط، أبدي، يقبل الإنسان بخيره وسوءه. وإلى جانب كون هذا الحب «مصدر مطلق للمعنى والسعادة والقوة في وجه المعاناة وخيبات الأمل»[٢]، يسعى المؤمن به إلى الحصول عليه من خلال الدين الذي لا يريه الطريق لتحقيقه فحسب، بل يساعده أيضًا على فهم أكثر الأسئلة صعوبة، تلك الأسئلة الكبرى التي تتعلق بالوجود وطبيعة الحياة والغاية منها.

لكن في القرني السابع عشر والثامن عشر، حدثت تغيرات جذرية غيرت شكل هذه العلاقة، فمع بداية عصر التنوير وظهور الحركة الرومانسية، بدأ الناس في الحضارة الغربية بفقد الثقة بالإله والدين، وتبعًا لذلك انحسر دور الكنيسة التي تم استبدال مكانتها المقدسة بالعقل البشري. ومنذ ذلك الزمن ظل الإنسان الغربي – تحديدًا – في محاولات لسد الفراغ القيمي الذي خلفه تراجع المسيحية. في هذا السياق يقول سايمون ماي، أستاذ الفلسفة ومؤلف كتاب (Love: A History) أن الحب هو الدين الجديد في العالم الغربي العلماني، ولكنه دين فرضه الإنسان على نفسه لا أنه مفروض عليه من قبل منظومة أو مؤسسة دينية.

ومنذ ذلك الوقت ظهرت العديد من البدائل كموضوعات كانت محط تقديس، مثل المنطق، التقدم، الحرية، الفن، الوطن، الدولة، الشيوعية، وغيرها من المثل العليا والحركات المختلفة التي ارتقت إلى مكانة الأديان المخلصة لتملأ الفراغ الذي تركه «الموت البطئ» للإله، لكنها بحسب تعبير سايمون ماهي إلا نذائر بالتمجيد البشري والخلاص البشري الذي جاء كبديل للخلاص السماوي الذي أتت به الأديان.

وبالرغم من كل الدلالات الروحية والأخلاقية المرتبطة بهذه البدائل، إلا أنها فشلت، كما يعبر سايمون، في تقديم حالة من الرضا التام للإنسان، إلا بديل واحد وهو الحب، الذي استطاع أن يحافظ على رؤية المخيلة الغربية التي لا زالت متعلقة بفكرة المصدر المطلق للمعنى والسعادة التي كان يقدمها الحب الإلهي من خلال الدين. وبالتالي تغيرت المعادلة من “الإله هو الحب” لتصبح “الحب هو الإله”.

كلما زادت التوقعات، زادت خيبات الأمل والبؤس

الدين الجديد وتوأم الروح (Soulmate)

نتيجة للتراكم التاريخي الديني الطويل الذي اعتبر الحب الإلهي هو النموذج المثالي الذي يحتذى به، أتت مفاهيم الحب في العالم المعاصر لتعكس هذا النموذج على الحب البشري، فأصبح الإنسان يطلب من المحب أو “توأم الروح” ما كان يطلبه من الإله. أي أنه يريد من خلال هذا الحب البشري أن يوفر مصدر مطلق للمعنى والسعادة والقوه في وجه المعاناة وخيبات الأمل في الحياة. وهذا بحسب رأي سايمون يقودنا إلى تزوير طبيعة الحب البشري كون ماهيته الفانية المرتبطة بالزمان والمكان والمشاعر البشرية مختلفة تمامًا عن الحب الإلهي ذو الماهية المطلقة المتجاوزة للطبيعة البشرية. ومحاولة تأليه الحب البشري هذه يراها سايمون على أنها «آخر فصل في السعي البشري المتهور لسرقة إحدى قوى الآلة كمحاولة لتجاوز بشريتنا». لكن النتيجة الملموسة جراء تزوير الحب البشري ليصبح إلهي، يدفع الإنسان لوضع توقعات أكبر للحب، وكلما زادت التوقعات، زادت خيبات الأمل والبؤس.

في حديثها الشهير (Rethinking Infidelity) على منصة تيد، تؤيد المعالجة النفسية والمؤلفة البلجيكية، إستير بيريل هذه الفكرة وتقول:

في عالم علماني، الرومانسية – ممزوجة مع الاستهلاكية لتحقيقها – هي الدين الجديد. لكننا نبحث عن توأم الروح، وما هو توأم الروح؟ إنه الشخص الذي سأشعر معه بشعور الانتماء الذي كنت [كإنسان على مر العصور] أحصل عليه من المجتمع، أشعر معه أن لي جذور، أشعر معه بالاعتراف، والتجاوز الروحي، والمعنى، والكمال، وكل الأشياء التي كنا نبحث عنها في العالم الإلهي، توأم الروح كان يعني الإله، [الآن] أصبح توأم الروح شخصًا 

ومن وجهة نظر بيريل، فإن هذه الفكرة – أي نتوقع من شخص ما أن يكون كل شيء لنا – هي فكرة في غاية الخطورة ومدمرة للعلاقات، لأنها تضع توقعات غير منطقية: «أريدك أن تكون شريك حياتي، وأعز أصدقائي، وكاتم أسراري الموثوق به، وعشيقي، ونظيري على المستوى الفكري، ووالد/ة أبنائي، وأريد أن تكون لعلاقتنا القدرة على تحويلي/تحويل حياتي، ذات تجاوز روحاني، ذات مغزى، روحية، هادفة، ومثيرة جنسيًا»! في العصور السابقة، كل هذه الأمور كانت توفرها قرية بأكملها للفرد، كما تشرح بيريل، أما الآن «نتوقع أن يقدم لنا الحب والعمل ما كان يقدمه لنا الدين والمجتمع»[٣].

عبء الذات والفردانية

نظرًا لانحسار الدين الذي كان يشكل مصدرًا لتنظيم علاقات أفراد المجتمع، ونظرًا لتصدر ثقافة تأليه الإنسان والعقل البشري، وجد الإنسان نفسه تحت وطأة ما يسمى بـ «عبء الذات»، أي أصبح لدى الإنسان الكثير من الحرية والخيارات ليقرر تفصيلات حياته التي كانت تقررها عنه المؤسسات الدينية أو التقاليد الاجتماعية، بشكل يضع عليه ضغوطات نفسية كبيرة. فبحسب تحليل بيريل «لدينا ريبة غير مسبوقة وشك في الذات مع صوت مستبد في رأسنا يضايقنا بأسئلة مثل: كيف أعرف؟ كيف أعرف أن هذا هو الشيء الصحيح؟ كيف أعرف أن هذا هو الاختيار الصحيح؟ كيف أعرف أنها هذه هي؟».

وإن لم يكن هناك دين لينظم حياتنا، فعلينا أن نقوم نحن بالتنظيم. بالنسبة لبيريل، هذا هو الوعد الخطر للفردانية، فتشرح: «لا يوجد أحد فوقنا يخبرنا بكيفية القيام بكل ذلك، لا توجد أجراس كنيسة توقظنا أو تخبرنا متى يجدر بنا التوقف عن العمل لنولي اهتمامًا لعائلاتنا وأطفالنا؛ كل شيء أصبح على عاتقنا، لم تكن الأعباء على الذات أثقل في أي وقت مضى». ويوضح سايمون ماي: «كلما أصبحت مجتمعاتنا أكثر فردانية، كلما توقعنا من قيمة الحب أن تكون مصدر مطلق للانتماء والخلاص»[٤] الذي يسعى له الإنسان.

أضف إلى هذه الكمية الهائلة من الاختيارات والقدرة غير المسبوقة على أخذ القرار بحرية، حدوث تغيرات اجتماعية في القرن الأخير، مثل ظهور وسائل منع الحمل، القدرة على الطلاق، الحركة النسوية، كل هذه الأمور لم تغير طريقة الحياة فحسب، بل غيرت أيضًا طبيعة العلاقات بين الرجال والنساء، فلم تعد تربطهم علاقة قائمة على الحاجة إلى الإنجاب أو العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التقليدية (مثلا الرجل يجلب المال، المرأة في المنزل تربي الأبناء، أو يتزوج هذا من تلك لنضم مزرعة عائلته وعائلتها، أو لنكبر العائلة لتستطيع حماية نفسها ضد العدو)، وبالتالي أصبح الإنسان – الغربي تحديدًا – حرًا لأن يذهب ويبحث عن الشخص “الصحيح” والحب “الصحيح”، إضافة إلى عوامل الحياة المعاصرة من زيادة الدخل، الرفاهية، زيادة متوسط عمر الإنسان، تحسن الصحة، تراجع الفقر والحروب، كلها أمور ساعدت على خلق حرية أكبر وراحة معيشية للناس، وبالتالي أصبح لديهم الآن – أكثر من أي وقت مضى – الوقت والاهتمام بالسعي خلف الحب [٥].

«كلما أصبحت مجتمعاتنا أكثر فردانية، كلما توقعنا من قيمة الحب أن تكون مصدر مطلق للانتماء والخلاص»

عقلية «أريد الأفضل» وثقافة الاستهلاكية

من الأمور التي ساعدت على تعزيز هذا البحث الحثيث عن الحب اليوم، هو ثقافة الاستهلاكية التي أثرت بدورها على مفاهيم الحب المعاصرة، ويتجلى ذلك في وجود طلب عالٍ على إشباع الرغبات/الحاجات بشكل سريع، ووجود رغبة في التنقل باستمرار من شخص لآخر؛ من علاقة لأخرى، وهذا سلوك ساعدت على تفاقمه التكنولوجيا التي أوجدت كم لامحدود من الاختيارات وساهمت في تشكيل عقلية “أريد الأفضل” هذه، ومشكلة هذه العقلية أنها قد تسبب في حرماننا من الاستمتاع بما هو متوفر أمامنا وتقديره لأننا نعلم أنه في مكان ما، هناك خيار أفضل مما نملك الآن، حتى «أصبحنا [كما تقول بيريل] الآن لا نطلب الطلاق لأننا بائسين أو غير سعداء، بل لأننا نسعى لأن نكون أكثر سعادة»، «و عندما يتحوّل احساسنا باستحقاق النِعم إلى توقعات كبيرة، تكون النتيجة هي القلق وعدم القدرة على المضي قدمًا في أي شيء». وفي سياق الحديث عن الحب تحديدًا، تؤدي هذه العقلية إلى تصعيب وإثقال عملية البحث عن الحب بشكل يمنع الوصول إليه، لأننا في كل مرة نلهث خلف احتمالية أنه يوجد أشخاص أفضل من الذين وجدناهم، وعلاقات أفضل من تلك التي وجدناها وإن كانت بالفعل جيدة.

كلاً من استير بيريل وسايمون ماي يؤكدان على أن الحب يلعب دورًا هام في محاولة إشباع احتياجات الإنسان الدينية التي لا مفر منها، لكن كيف هو الحال المجتمعات التي لم يختفي منها الطابع الديني بعد؟

الحب في السياق العربي

حسنًا، كل ما كتبته بالأعلى هو نتاج تناول وتحليل الباحثين لسياق الحضارة الغربية، وبالتالي قد لا ينطبق كل شيء على السياق العربي. أنا لم اكتشف بعد كيف تناول الفلاسفة، والمفكرين، والباحثين العرب مسألة الحب على مر العصور (هذه مهمتي في المرحلة المقبلة).

لكن

لكن

وإن اختلفت السياقات، أنا مؤمنة أننا نعيش كبشر تجارب متشابهة أكثر من أي وقت مضى، شكرًا للتكنولوجيا التي سمحت بخلق ثقافات متماهية بين الشعوب وتغيير سلوك الإنسان. كما أن أحدًا لا يستطيع أن ينكر هيمنة الثقافة الغربية ومساهمتها في تشكيل نظرتنا للحياة، خذ كأبسط مثال أفلام هوليوود التي تحمل في طياتها فلسفة الرومانسية التي تبشر بالحب كمصدر مطلق للسعادة والخلاص من كل الآلام عندما نجد “The One & Only”. الروايات لا تختلف عن ذلك، لا الغربية فقط بل حتى العربية – سواء الكلاسيكية أو المعاصرة – نظرًا لوجود كتّاب متأثرين بهذه الفلسفة ابتداءً. وطبعًا لا ننسى الأغاني الرومانسية التي تعكس نفس الثقافة.

إضافة إلى ذلك، ظاهرة تراجع قيمة الدين وفقدان الثقة بالدين وبالإله ليست ظاهرة مقتصرة على العالم الغربي، اضف إلى ذلك تفشي قيم الفردانية. لذلك أجد أنه من المثير للاهتمام جدًا التأمل في السياق الغربي ومحاولة فهم وتفكيك تبعات هكذا تغيرات على الإنسان والمجتمع.

أما على المستوى الشخصي، أي أنا وأنت عزيزي القارئ، فأحد دوافعي خلف كتابة هذه المقالة هو أن أوضح أن تعريفنا للحب وماهيته وشكله و يقيننا المطلق أنه “هو كذلك” منذ الأزل قد لا يكون صحيحًا إذا نظرنا إلى السياق التاريخي للبشر. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن هنالك دائمًا فرصة للتأمل فيما نعتقد وأثر ذلك على قراراتنا الشخصية. وهذا هدفي من وراء كتابة هذه المقالة، ليس هدفي أن نَعلَق في ضرورة أخذ موقف مما إذا كان تناول الحب في العالم المعاصر صائب أم خطأ.

–انتهى–

اقرأ أيضًا: ماذا يحدث عندما نقع في الحب؟ تفسير سيكولوجي

مصادر ومراجع:

[١]، [٢]، [٤]، [٥] Love: A History, by Simon May, Yale University Press, 2011

[٣] Rethinking Infidelity, by Esther Perel

How Relationships Have Become Chaotic | Esther Perel | Google Zeitgeist

The Quality of Your Relationships Determines the Quality of Your Life | Esther Perel

Why You Will Marry the Wrong Person | Alain De Botton

Alain de Botton: On Love | Sydney Opera House

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

9 ردود على “كيف حل الحب محل الدين؟ عن تغير معادلة «الإله هو الحب» إلى «الحب هو الإله»”

  1. حقيقة، اكتشفتُ هذا مبكرًا.. ولايقتصر على الحب فقط، هذا “السيلان” بدأ يسري في كل القيم والمبادئ!
    ..
    وللاستزادة أكثر، طُلّي على كتب باومان المتعلقة بالسيولة.
    ..
    تدوينة ماتعة كعادتك العنود، شكرًا لك.

  2. أجابت مقالتك ونظمت العديد من الافكار والتجارب السابقة والحالية لدي عن الحب. السياق التاريخي مهم لفهم الواقع الفكري. تشرفت بالقراءة لك

  3. من أجمل ومن أمتع ما قرأت .. بأمانة أنا في غاية الدهشة والذهول … كيف تستطيعين إبهارنا بكل تدوينة وتدوينة … كل تدوينة نقرأها لحضرتك .. لا نريدها أن تنتهي أو ننتهي من قراءتها ..
    سبحان الله.. وبالتوفيق ..

    شكرا لك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *