كلمة راس مع «المزز»: تأملات حول الهوس بالتجميل عند النساء والرجال

«إحدى أهم الإحصائيات عالميًا تقول أن نسبة الانتحار بين السيدات اللاتي أجرين عمليات لتكبير صدورهن أعلى بكثير من نسبة الانتحار عند السيدات الأخريات [اللواتي لم يقمن بذلك]، ليس لأن العملية بذاتها هي السبب، بل لأن هؤلاء السيدات لم يلجأن لهذه العملية إلا لأسباب نفسية عميقة جدًا لم يعالجنها»[١]، كانت هذه مداخلة للدكتور «محمد الحاجي» في إحدى الجلسات النقاشية التي جمعت بينه وبين دكتور التجميل الأشهر في السعودية «يزيد الغنيم» بمعرض الكتاب الدولي بالرياض ٢٠٢٢.

شخصيًا لم أتفاجأ من استنتاج كهذا، فلطالما آمنت أن هناك علاقة طردية بين الهوس بالتجميل ووجود اضطراب داخلي نفسي عميق، ولم تقنعني يومًا محاولات تغليف هذا الهوس بدعاوي حب الذات والاهتمام بها، أو حب التغيير والتجديد، أو بناء الثقة بالنفس، فتحقيق هذه الأمور يتطلب أكثر بكثير من مجرد زيارة أو عدة زيارات لعيادة التجميل.

و أنا لا أتحدث هنا عن الإجراءات التجميلية التي تعالج تشوهات خَلقية أو تشوهات ناجمة عن حوادث أو أمراض خطرة كالسمنة وغيرها.

ولا أتحدث عن الميل الفطري للتزيّن والتجمّل، خاصة عند الإناث.

بل أتحدث تحديدًا عن تحول هذه النزعة الفطرية إلى نمط مضطرب في العلاقة بين الذات والمظهر، واللهث حول تحقيق شكل يرقى لذائقة مؤقتة ودائمة التغير، لهث ناتج في الغالب عن ضغوطات عصر الصورة الذي نعيشه ومحاولاتنا لإيجاد أنفسنا واحتياجاتنا العاطفية فيه، نساءً ورجالاً، صحيح أن النساء يشكلن الغالبية كمستهلكين للإجراءات التجميلية (سواء جراحية أو لا)، إلا أن أعداد الرجال الذين يقومون بذلك أيضًا في تزايد.

أعلم أن الحديث عن المظهر وعلاقتنا به شائك وحساس جدًا، ودائمًا ما يثير الانفعال والحنق غير الضروري..

وأفهم أن الإجراءات التجميلية أصبحت جزء لا ينفك عن نمط الحياة الحديثة.

لذلك ليس هدف هذه المقالة أن تدعو لمحاربة الإجراءات التجميلية أو مقاطعتها، وليس هدفها أن تقول “من يقومون بإجراءات تجميلية هم مرضى نفسيين”، هذا استنتاج غبي.

إنما ما أريد قوله أنها ليست الحل للمشاكل التي نعتقد أن هذه الإجراءات ستحلها.

إليك 3 “لنّات” (جمع لن)، تلخص بعض تأملاتي حول هذا الموضوع.

1- الأنف الصغير لن يصلح ما أفسده الزمن

في جميع النقاشات التي خضتها مع من أجروا أو يخططون للقيام بإجراءات تجميلية، كان هناك أمر مشترك وهو الرغبة في الوصول لهدف شعوري معين، دائمًا ما يبدو أن هنالك “عقدة” ما لن تنحل إلا بهذا الإجراء التجميلي، وعليه سيتحقق حصول السعادة، أو الراحة النفسية، أو الشعور بالثقة، لا أحصي عدد المرات التي سمعت فيها عبارات مثل: “لو عدلت خشمي بس بحس اني بكون مبسوطة”، “لو نحت خصري شوية بس رح ارتاح نفسيًا”، “لو كبرت صدري شويتين بتنحل كل مشاكل حياتي”.

إلا أن المشكلة – كما نعرف جميعًا – ليست في الأنف، ولا الخصر، ولا الصدر، المشكلة تكمن في تصورات ذهنية مشوهة تجاه الذات، وهي في الغالب تصورات ناتجة عن خيبات أمل وجروح نفسية عميقة متراكمة على مدى سنوات طوال، لذلك الكثير ممن قالوا “فقط احتاج اظبط هذا”، فقط أحتاج أنفخ هذاك”، يعودون بعدها ليقولوا “هذه المرة سأقوم بهذا أو هذاك”، ليجدوا أنفسهم متورطين في دائرة منهكة من التعديلات اللامنتهية، والسبب هو أن الشعور الذي نعتقد أننا سنحصل عليه بعد التعديل الأول لم يتحقق أو تحقق بشكل مؤقت، فأصبحنا نبحث عنه في تعديل لمكان آخر في الوجه أو الجسم.

المثير للاهتمام أن بعض أطباء التجميل في الغرب أصبحوا يجرون مسح نفسي عندما يأتيهم شخص يطلب إجراءات تجميلية، فهذا المسح يساعدهم على تقييم دوافع الشخص ووفهم ما إذا كانت نابعة عن اضطرابات نفسية تحتاج إلى معالج نفسي بدلاً من طبيب التجميل.

الشفط والتنفيخ لن يجلب الحب..ولن يبقيه

أعلم جيدًا – وأنت أيضًا – أن الغرض الحقيقي وراء هذا الهوس بالتجميل هو البحث عن الحب، فجميعنا في النهاية نريد أن نكون محبوبين، أو نحصل على مكانة تشعرنا بالتقدير والاهتمام، إلا أن الشفط والتنفيخ لن يجلبون الحب الذي تحتاجه روحي وروحك، نعم قد يجلب الانتباه، ربما الكثيييير من الانتباه، لكن الانتباه لا يساوي الحب.

كنت أتحدث مرة إلى سيدة متزوجة لأكثر من ١٠ سنوات أجرت عملية تكبير صدر في رغبة صادقة منها لإنقاذ زواجها، حيث اعتقدت أن المشكلة تتمحور حول عدم انجذاب زوجها لها، إلا أنه بطبيعة الحال التحول من مقاس B34 إلى D34 لن ينقذ زواجًا يكاد ينعدم فيه التواصل والتفاهم والتقدير المتبادل والشعور بالأمان مع الطرف الآخر، وهو ما يتطلب الكثير من الجهود والمواجهة والحوار الذي سيكون مؤلمًا في الغالب، ناهيك عن ضرورة مواجهة الذات ومخاوفها ورغباتها قبل كل شيء. عرفت لاحقًا أنهما تطلقا، جبر الله قلوبهما وعوضهما خيرًا، قصتهما ليست فريدة ولا استثنائية، معظمنا يلجأ إلى الإصلاحات السطحية إما جهلًا بجذور المشكلات أو هروبًا من مواجهتها.

المؤخرة البرازيلية لن تجعل حياتنا الجنسية أفضل

يشرح الفيلسوف آلان دو بوتون في إحدى مقاطعه كيف أن العلاقة الحميمة في أصلها تجلي لأعلى مستويات التكشّف النفسي (highest form of vulnerability)، وبطبيعة الحال التكشّف النفسي يتطلب درجة عالية من الشعور بالأمان مع الطرف الأخر ، والتمكن من منح النفس والطرف الآخر قدرًا جيدًا من الثقة.

وفي هذا السياق أتذكر أني سمعت مرة الدكتور «خالد سندي» – وهو مستشار نفس زواجي ومتخصص في العلاج النفس جنسي – يستشهد بعبارة تقول (Foreplay starts with washing the dishes) أي التقرّب الجسدي يبدأ بغسيل الصحون، إشارة منه إلى أن العلاقة الحميمة تعتمد بشكل أساسي على الجانب النفساني، وغسيل الصحون هنا مجرد مثال رمزي بسيط على مساندة الرجل لزوجته، مما يعطيها الاحساس بالأمان الذي يمكّنها من التكشّف النفسي معه.

لذلك حتى لو نفخت المرأة الفاضلة مؤخرتها لتصبح أكبر من كفرات ميشلان، وحتى إن بنى الرجل الفاضل “سيكس باكس” تبدأ عند حنجرته وتنتهي عند ركبته، لن يضمن ذلك نجاح العلاقة الحميمة إن لم يُلتفت إلى الجانب النفساني منها ويُعالج.

بالمناسبة، اكتشفت أن هناك مصطلحًا لظاهرة انتشار عمليات تكبير المؤخرة: (BBL Epidemic or Brazilian Butt Left Epidemic) أي وباء رفع المؤخرة البرازلية، فعلاً هو وباء، أؤمن أن هذا الاهتمام غير المسبوق بالأماكن الحميمية في الجسد هو نتيجة للسُعار الجنسي المرتفع الذي تؤججه وسائل التواصل الاجتماعي، أستحضر مقطعًا لجوردان بيترسون يقول فيه أن مراهقًا في هذا العصر يشاهد في ١٥ دقيقة عدد من النساء العاريات يتجاوز ما كان يراه امبراطور في كامل حياته.

بغض النظر عن استمرار هذا السعار أو تمدده، تبقى الحقيقة: لا فائدة من أجساد تبدو مثالية إن كانت الأرواح والنفسيات مشوهة.

كلمة رأس أخيرة معكَ ومعكِ..

عزيزي الرجل:

إن كنت من المهوسين بمظهرهم وبروفايلاتك تعج بصور استعراضية لك، أريد أن أقول لك أن هوسك بجسدك ومظهرك مقزز جدًا، أتفهم هوس المرأة بشكلها، لكن أنت؟؟ سلامات؟؟ بدلاً من أن تشغل بالك باكتشاف أفضل الزوايا والوضعيات التي تبرز عضلاتك وتقاسيم وجهك الذي تغطيه الفلاتر، الأولى أن تشغل بالك ببناء شخصيتك، وتطوير نفسك مهنيًا، وقدرتك على تحمل المسؤولية، هذا ما سيجعلك مرغوبًا وجذابًا ومقدّرًا حقًا في عيون النساء، وليس صورتك بالشورت في مرآة جيم الحارة، حتى وإن جذبت بمظهرك فتيات، تأكد أنه مؤقت ولن يجلب لك إلا الدراما التي تدّعي أنك لا تريدها في حياتك.

أما إن كنت معافًا من هذا الهوس، فأدعوك أن تتذكر أن العديد من النساء حولك (أختك، زوجتك، ابنتك، وربما والدتك) قد يعشن صراعات داخلية حول ثقتهن بمظهرهن، أنت كرجل تلعب دورًا مهمًا في مساعدتهن بحب ورحمة على تعزيز ثقتهن بأنفسهن، خاصة إن كنت أبًا، أرجوك أغرق ابنتك بعبارات تمدح جمالها الطبيعي، لا تتخيل حجم الفارق الذي سيشكله ذلك في نفسيتها، خاصة عندما تكبر.

عزيزتي المرأة:

كان – وسيزال – حُسن المظهر جزء كبير من هوية الأنثى، خاصة في عين الرجل، هذه حقيقة، سواء رضينا بها أم لا، لذلك لن أضحك عليكِ وأقول لك أن الجوهر هو كل ما يهم…أؤمن أن الاهتمام بالمظهر يجب أن يكون أولوية عند النساء، لكن هذا لا يعني الهوس بالتجميل واتخاذه بديلاً عن الاهتمام بالجانب النفسي وبناء الشخصية وتغذيتهما بأساليب صحية.

الصراحة أحب كثيرًا ارتباط هوية الأنثى بالجمال، ولا يزعجني ذلك أبدًا، فنزعتنا لتجميل كل شيء يقع في أيدينا هو ما يجمّل هذه الحياة ويصنع لها أبعاد ومستويات متعددة من الجمال، احتفِ بهذه الملَكة التي مُنحتيها ولا تحصيرها في زاوية ضيقة.

أحد أهم الأمور التي ساعدتني شخصيًا على عدم الوقوع في فخ الهوس بالتجميل هو أنني في مرحلة ما في حياتي أعدت تعريف جمال المظهر بالنسبة إلي، ليصبح: بشرة صحية + شعر صحي + جسم متناسق ذو وزن يقع في نطاق الوزن الصحي + اختيار ملابس تلائم شكل الجسم وذو ألوان تلائم اللون الداخلي للبشرة (skin undertone).

حررني هذا التعريف كثيرًا من ضغوطات اللهث خلف ترندات الجمال، أولاً لأن الأهداف أعلاه قابلة للتحقيق بطريقة سليمة تسمح لي أن أبني ثقتي ونفسيتي بشكل سليم ومستدام، ثانيًا – والأهم – سمح لي هذا التحرر أن أكون “أنا” لا نسخة مكررة ومعلبّة، و أن أكون أقرب لروحي التي تحتفي بالأصالة والتفرّد والصدق.

أعرف أن لعنة بنو آدم هي دائمًا البحث عن طرق مختصرة خادعة (shortcuts) بدلاً من سلك الطريق الصحيح الذي في الغالب يتطلب وقتًا وجهدًا وشجاعة، لذلك من الجيد أن نسأل بصدق: هل فعلاً هذا هو الحل السويّ لما أظن أنه مشكلة؟ وهل المشكلة هي فعلاً المشكلة؟

— انتهى —

مصادر:

صورة المقالة: jessicabennettart.com

[١]، لا أعلم تحديدًا ما هي الدراسة التي كان يشير إليها الدكتور الحاجي، لكن وجدت هذه عندما بحثت على الانترنت.

انضم إلى قائمة القرّاء حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

19 ردّ على “كلمة راس مع «المزز»: تأملات حول الهوس بالتجميل عند النساء والرجال”

  1. تذكرت كيف أن تعليقات أخي على مظهر شعري أو ملابسي يشعرني بالكمال، وحقيقة أقول الكمال لأني لا أرى أي دافع يدفع الأخ لمدح أخته عدا المحبة الأخوية والترابط الأخوي منذ الصغر.
    كذلك المديح من أبناء أخوتي الذكور فعلياً (ينفخ راسي) وأصير أحلق في السماء من الفرحة 😂🙏🏻

    عنوده دائماً مقالاتك مميزة 🤍

    1. رائعه انتي تبارك الله حسيت وانا اقرأ المقاله أهميه الأمان النفسي والحب اللامشروط شكرًا من أعماق القلب على هذا الجمال اللي تكتبينه

  2. العملية التجميلية الوحيدة التي أعتقد أنها ضرورية هي الأسنان وهذا إن كانت بحاجة ماسة جداً، أما غير ذلك فهو هراء حقيقي.
    أما حل هكذا مشكلة عالمية فيتوقف على فهم النظام الحياتي والاستهلاكي الكامل في تحويل الوعي الإنساني إلى المظهرية.
    حتى دول العالم الأول يعانون نفس الظاهرة.. إنها بحاجة لتدمير نظم المؤسسات من جذورها لإنقاذ وعي البشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *