كيف يكون «الانضباط» أداة أساسية لحل مشكلات الحياة؟ الجزء الثالث: الموت والولادة

في الأسابيع الماضية، بدأت سلسلة تدوينات الانضباط، والتي تناولت فيها مفاهيم – أو تقنيات – لتكوين/تعزيز سلوك الانضباط الذاتي بحسب تعريف وتفنيد المعالج النفسي إم سكوت بيك.

في هذا الجزء – ما قبل الأخير – استعرض مفهوم إدراك التوازن ما بين الموت والولادة، وعلاقة ذلك بالانضباط.

يشرح إم سكوت أن الثقافة الغربية الحديثة تنظر إلى الموت على أنه “نكتة سيئة”، فمن منظورهم، الذات الإنسانية مقدسة جدًا لدرجة أن الموت يعتبر “إهانة” للوجود الإنساني، إلا أن الحقيقة – كما يوضح – هي العكس تمامًا: الموت هو ما يعطي الحياة كل المعاني.

وجزء من مفهوم الموت يتجلى من خلال عملية الترك – أي أنك تملك شيء – مادي أو غير مادي – وتقرر أن تتركه أو تتنازل عنه، وربط الترك بمفهوم الموت هنا ينبع من فكرتين:

الفكرة الأولى: ألم الترك يحاكي ألم الموت (بشكل أو بآخر)

عندما نختار أن نترك شيئًا نمتلكه، ويكون هذا الشيء جزء منا (بحسب نظرتنا إلى ذواتنا)، ستصاحب عملية الترك هذه الكثير من الألم. تذكرني هذه النقطة بحديث الصديقة رفاه سحاب في إحدى مقابلاتها عندما قالت أن ألم الفقد ليس مقتصرًا على الموت، عندما نفقد فكرة/مفهوم كنا نؤمن به طيلة حياتنا، أو حلمًا كنا نعيش لأجله، أو مشروعًا سكبنا أرواحنا فيه، أو أرضًا اضطررنا لمغادرتها، كل هذه الأمور تجلب ألم فقد يحاكي ألم وفاة شخص عزيز علينا [١]. (الفرق بين الترك والفقد أن الأول قرار اختياري، أم الثاني حدث إجباري).

الفكرة الثانية: إيجاد مساحة لأمر جديد

في كل مره نترك فيها أمر ما، هناك شيء جديد يحل محل القديم. مثل الموت والحياة، في كل مرة يموت فيها شيء، هناك شيء جديد يولد في اللحظة ذاتها. استحضر هنا تعبير الدكتور مصطفى محمود رحمه الله في كتابه لغز الموت عندما يقول:

…الموت يحدث في داخلنا في كل لحظة حتى ونحن أحياء. ملايين الكرات الحمر تولد وتعيش وتموت في دمنا، تدفن جثثها في الغدد وتطرد في الإفرازات في هدوء وصمت..

حتى الأفكار تولد وتورق وتزدهر في رؤسنا ثم تذبل وتسقط..حتى العواطف تشتعل وتتوهج في قلوبنا ثم تبرد، حتى الشخصية تحطم شرنقتها مرة بعد مرة..وتتحول من شكل إلى شكل

إننا معنويًا نموت وأدبيًا نموت وماديًا نموت في كل لحظة، وأصدق من هذا أن نقول إننا نعيش ماديًا وأدبيًا ومعنويًا، لأنه لا فرق يذكر بين الموت والحياة، لأن الحياة هي عملية الموت..لأن ما نحسه ونحياه هو محصلة بين القوتين معًا..الوجود والعدم.. 

لكن ما علاقة كل ذلك بالانضباط؟

في كل مرة نقرر فيها ترك أمر ما، فإننا بذلك نضع ذاتنا جانبًا، أو نتنازل عن جزء مما يشكل هذه الذات، وهذه العملية فيها الكثير من التحدي والصعوبة لأننا كبشر ننزع إلى الحاجة إلى الاستقرار وتوطيد الذات على ما تألفه، فكيف نتنازل عن هذه الحاجة لنخلق مساحة لأمر جديد مجهول؟

وإذا لم نسمح ونستقبل الجديد المجهول، كيف لذواتنا أن تنمو وتطور؟

ودون هذا النمو والتطور كيف سنتعامل مع مشكلات الحياة وتحدياتها؟

الالتزام بخلق مساحة للنمو والتطور هما أساس عملية الانضباط الذي يمكننا بدوره من التعامل مع مشكلات الحياة.

لذلك، يشرح إم سكوت أنه حتى يتسنى لنا أن نكون فكرة جديدة، مفهوم جديد، معرفة جديدة، نظرية جديدة، هناك فكرة قديمة، مفهوم قديم، معرفة قديمة، نظرية قديمة لا بد أن تموت، ليحل محلها هذا الجديد.

لكن الشرط هنا هو أن الترك لا يمكن إلا إذا كنت تملك الشيء الذي تركته في الأساس، مثلاً لا يمكنك أن تترك انتصار في موقف ما، إلا إذا كنت منتصرًا – أو في موضع انتصار – أساسًا، أما إذا كنت خسران وقلت سأتنازل عن حقي في الفوز، فهذا لن يشكل أي فارق لأنك أساسًا خسران.

يقول الفيلسوف وعالم اللاهوت سام كين معلقًا على هذه المفهوم في إحدى كتبه [٢]:

ينطوي الوعي بكل ما يُقدّم إلي على حركة مزدوجة من الانتباه: إسكات المألوف، والترحيب بالغريب. في كل مرة أقترب من أمر، شخص، أو حدث غريب، تكون لدي نزعة لجعل كل من احتياجات الحاضر، وخبرة الماضي، وتوقعات المستقبل تقرر عني ما الذي سأراه في هذا الأمر/الشخص/الحدث الجديد. لكن إن أردت فعلاً أن أرى وأقدر تفرّد الحقائق كما هي، فلا بد أن أكون واعيًا بأفكاري المسبقة وعواطفي المتشوهة حتى أضعهم جانبًا وأرحب بالغريب والجديد في عالمي الإدراكي. 

هذا الانضباط في إسكات أو التنازل عما نألفه يتطلب مستوًا عالٍ في معرفة الذات والشجاعة على الصدق مع الذات. من دون هذا الانضباط، كل لحظة نعيشها ما هي إلى تكرار لشيء رأيناها وعشناه من قبل.  

لا أستطيع إلا وأن أسقط هذه الأفكار على ما نمر به من أحداث عالمية حاليًا، فكيف يا ترى نتعامل مع المجهول الجديد؟ وهل نحن قادرين على إدراك أنه مع كل قديم يولد، هناك جديد يولد؟

حفظ الله الجميع

–انتهى–

مقالات ذات صلة:

كيف يكون «الانضباط» أداة أساسية لحل مشكلات الحياة؟ الجزء الأول: تأخير المتعة واختيار الألم

كيف يكون «الانضباط» أداة أساسية لحل مشكلات الحياة؟ الجزء الثاني: المسؤولية والهروب من الحرية

ماذا يعني أن تضع جمجمة على طاولتك؟ «قُصر الأمل» كأسلوب حياةٍ حكيم

المصادر والمراجع:

[١] حلقة ألم الفقد من بودكاست اقلب الصفحة

[٢] To a Dancing God, 1990

The Road Less Traveled

لغز الموت، مصطفى محمود

ردّين على “كيف يكون «الانضباط» أداة أساسية لحل مشكلات الحياة؟ الجزء الثالث: الموت والولادة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *