ما بين بول جارفيس وعمر عاشور: ماذا يعني أن تختار الاكتفاء على النمو الإمبراطوري في الأعمال؟

في ٢٠١٨ وقعت بالصدفة على مقابلة رائعة لبول جارفيس يتحدث فيها عن فلسفته في العمل وبناء المشاريع التجارية والتي تقوم في جوهرها على التشكيك في ضرورة الاستمرارية في توسيع وتنمية النشاط التجاري لمجرد التوسع والنمو. بل ويسحب جارفيس هذا التشكيك على قرارتنا في الحياة بشكل عام فيطرح أسئلة من نوع: هل فعلاً كل شيء أكبر وأكثر هو بالضرورة أفضل؟ أو هو ما نحتاجه حقًا؟

بعد الاستماع إلى مقابلة جارفيس، بدأت في تتبع أعماله وكتاباته، فوجدت أنه شخصية مثيرة للاهتمام جدًا، فبالرغم من شهرته، إلا أن يمتنع عن إلقاء الخطب في اللقاءات الجماهرية، انتقل مع عائلته إلى بيت في الأرياف بعيدًا عن صخب المدينة، عمله التجاري قائم على تصميم البرمجيات لكنه لم يكبر شركته لأنه لا يحب إدارة الناس ولا يحب التعقيدات البيروقراطية التي يجلبها التوسع، إضافة إلى ذلك، يكتب مقالات رائعة منذ ٢٠١٢، ويقدم دورات إلكترونية عديدة، وله عدة برامج بودكاست وكتب أهمها كتاب: شركة الشخص الواحد الذي ترجم إلى ١٦ لغة حتى الآن.

أكثر ما يعجبني في جارفيس أن حياته ومعتقداته كرجل أعمال تضرب بثقافة العمل والنجاح السائدة عرض الحائط، والأهم من ذلك أن كتاباته وأفكاره دائمًا ما تشكل فرصة لمساءلة تلك النزعة فينا كبشر والتي ترغب في المزيد والمزيد دون حتى أن نعلم في أحيان كثيرة لماذا نريد هذا “المزيد”!

في عالم الأعمال، عُلّمت أن السوق مثل البيتزا الكبيرة، وعلينا كشركات أو أصحاب مشاريع تجارية أن نتنافس – بل نتقاتل – حتى نحصل على الحصة الأكبر لأن هذا التطور “الطبيعي” للأعمال، أيضًا عُلّمت أن المشروع/الشركة لابد أن تنمو وتنمو حتى تتغلغل فروعها في كل مدينة، في كل مكان لأن ذلك علامة النجاح، وأننا في كل مرة نحقق فيها أرباح حتى وإن كانت مرتفعة جدًا وتفيض عن حد توفير حياة كريمة هانئة، فعلينا أن نجني أرباح أكبر وأكثر في المرة المقبلة.

ومشكلتي الكبرى مع هذا النوع من المعتقدات أنها تُقَدم على أنها النموذج “الوحيد” في عالم الأعمال، لذلك ليس لديك خيار إلا أن تسلك هذا السبيل. لكني أؤمن من كل قلبي أن هناك سيناريوهات مختلفة، خاصة لمن هم مثلي، أولئك الذين يريدون حياة بسيطة، شيقة، صحية، دون احتراق وظيفي، دون أن يلتهم العمل الجزء الأكبر من حياتهم، أو بتعبير جارفيس البليغ:

عند الحديث عن سيناريوهات العمل المختلفة، أؤمن كثيرًا بما أسميه مفهوم “الاكتفاء” أي أننا نكبّر مشروع تجاري ما وننميه إلى حد الاكتفاء، الحد الذي يحقق لنا حياة كريمة (طبعًا تختلف التعريفات من شخص لآخر)، على عكس مفهوم النمو “الإمبراطوري” الذي أفرزه عصر الثورة الصناعية، والذي يحثنا على اللهث خلف النمو والتوسع التجاري كغاية في حد ذاتها لا كوسيلة.

لكن جارفيس، الكندي صاحب الذراعين الممتلئين بالوشم، ليس الشخص الوحيد الذي جعلني أؤمن بجدوى مفهوم المحدودية في عالم الأعمال، بل هناك عمر عاشور أيضًا، صاحب تسريحة الشعر المرفوعة..

عن عمر عاشور: المعماري الذي يصنع الثياب

مصدر الصورة: حساب عمر عاشور على انستقرام

كان يطبخ الباستا وهو يرتدي ثوب شديد الأناقة وحذاء أسود ملفت رُسِمت على مقدمته وردة ذات لون زهري. تلك المرة الأولى التي شاهدت فيها عمر عاشور من خلال الانستقرام ستوري في حساب صديق مشترك. علمت وقتها أن وراء هذا الرجل قصة مختلفة. اطلعت على حسابه فوجدت أنه صاحب المشروع التجاري: دار عمر عاشور، لصناعة الثياب الرجالية. أول ما لفتني في الجزء التعريفي في الصفحة هي عبارة: «لتحديد موعد، By appointment only».

هذه العبارة قالت لي الكثير عن طبيعة عمل عمر في ثواني! فهي توضح أنه لا يبيع قطع جاهزة على عكس جميع محلات الثياب الأخرى، كل قطعة تفصّل بحسب الطلب، والأهم من ذلك أن دار عمر عاشور ليس بمحل ثياب تزوره في أي وقت، بل هو مكان مغلق، خاص، لا يتاح لك إلى عن طريق ترتيب موعد، وبالتالي طبيعة العمل قائمة على علاقة قوية مع العملاء.

تحمست كثيرًا عندما رأيت نموذج دار عمر عاشور هذا، لأنه ببساطة يسبح عكس التيار. فمن جهة، هو لا يتبنى فلسفة النمو الإمبراطوري السائدة، أي فتح فروع في كل منطقة ومدينة. لحسن الحظ، تمكنت من التواصل مع عمر ولقائه حتى أتعرف أكثر على طبيعة عمله.

المثير للاهتمام أن عمر درس التصميم المعماري بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وعمل في هذا المجال لعدة سنوات، لكنه منذ عمر مبكر، تحديدًا عندما كان عمره ١٣ عامًا، بدأ يلاحظ جودة ملابس الماركات العالمية ويقارنها بمستوى جودة الزي السعودي التي لم ترضيه. لذلك، في ٢٠٠٨ فتح محل ثياب رجالية مع شريك لكن الأمر لم يستمر. وفي ٢٠١٧ عاد إلى فكرة صناعة الثياب لكنه هذه المرة بشكل مختلف..

أحد تصاميم دار عمر عاشور معروضة على مجلة Vogue

يعتمد نموذج العمل في دار عمر عاشور على خلق تجربة فريدة للعميل، تبدأ بجلسة تعارفيه وضيافة كريمة في أستوديو مجهز بأثاث وقطع فنية بقيمة تتجاوز المليون ريال سعودي، إضافة إلى اختيار التصاميم والأقمشة، ومن ثم زيارة ليجرب العميل فيها الثوب حتى يتأكد الفريق أن القياسات مثالية وتليق به، وتنتهي باستلام الثياب وخدمات مميزة لما بعد عملية الشراء. ولتقريب الصورة أكثر، تخيل أنك تريد شراء ثوب رجالي، يمكنك ببساطة الوقوف عند أي محل وشراء ثوب جديد في غضون ربع أو نصف ساعة. حسنًا، في دار عمر عاشور سيستغرق الأمر حوالي أسبوع إلى ١٠ أيام لتحصل على ثوبك الجديد!

بالطبع نموذج عمل كهذا مكلف ويستغرق الكثير من الوقت والجهد، وهو بالضرورة يقتضي محدودية نمو المشروع نظرًا لعدم قابلية تطبيقه على عدد هائل من العملاء، لذلك سألت عمر: لماذا اخترت نموذج عمل كهذا؟ في حين أنه يمكن أن تختار الطريقة الشائعة والأسهل: الإنتاج بكميات كبيرة وبيعها في السوق؟

كان رده: «أردت أن أقوم بـ (one-to-one business) عمل قائم على العلاقة المباشرة مع العملاء، البيع من خلال الانترنت لن يعطيني هذه التجربة التي تحتوي على البعد الإنساني، كما أن الإنتاج الضخم يتطلب عدد كبير من الموظفين وبالتالي بيروقراطية وفقدان العلاقة القريبة من العميل التي تجعله يشعر وكأنه العميل الوحيد لدينا. في دار عمر عاشور توجد تجربة خاصة وحميمية، حتى أن العملاء أحيانًا يحضرون زوجاتهم أو عائلاتهم أو أصدقائهم أثناء البروفات، وبذلك نقدم للعملاء تجربة لا يجدونها في أي مكان آخر.

سألت عمر أيضًا عن تعريفه للنجاح والنمو، فأجابني: «النجاح أمر نسبي من شخص لآخر، بالنسبة لي النجاح يعني أن أترك أثرًا. حاليًا أرى أن هناك ثغرة في السوق لتوفير الزي السعودي الوطني بجودة عالية تليق به وفي الوقت ذاته خلق تجربة مميزة للعميل. أما بالنسبة للنمو، فبالطبع كل صاحب مشروع تجاري يريد أن يتوسع ويزيد أرباحه. بالنسبة لي، التوسع يعني أن أحصل على مكان أكبر من الأستوديو الحالي، فذلك سيتيح فرص للقيام بأمور كثيرة، لكن أريد الحفاظ على نموذج العمل الحالي، لا أسعى إلى تأسيس فروع من دار عمر عاشور في مدن أخرى أو البلدان الخليجية المجاورة».

ربما يتساءل القارئ هنا، لكن أوليس هذا النوع من نماذج العمل مليء بالتحديات؟

نعم، أنت محق، لذلك دعنا نستعرض بعض أهم هذه التحديات:

١) العمل يعتمد بشكل رئيسي على تواجد صاحب المشروع: في حالتي جارفيس وعمر، تواجدهما في عملهما أمر ضروري، وهو ما يجعل أمور مثل أخذ اجازة والتنحي عن العمل لفترة أمر صعب. لكن صاحب المشروع بإمكانه دومًا أنو يوجد آليات تترك له مساحة للراحة والتنحي. مثلاً في حالة جارفيس، فلديه شبكة من المحترفين المستقلين الذين يوظفهم بعقود مؤقته في المشاريع الكبيرة التي يقودها، وبذلك يخفف عن نفسه حجم المسؤوليات والمهام. أما في حالة عمر عاشور، فلديه نموذج ذكي بحيث يأخذ مشاريع تصميم وإنتاج ألبسة موحدة لشركات/جهات معينة في المواسم التي لا يكثر فيها الطلب على الثياب الرجالية، وهذا يترك له مساحة لأخذ إجازات لأن طبيعة هذه المشاريع لا تتطلب تواجده المستمر كما في حالة التعامل مع العملاء الأفراد. بيت القصيد: هناك دائمًا طريقة لتصمم مشروعك بشكل يلبي احتياجاتك حتى وإن كانت طبيعة هذا المشروع تعتمد على وجودك بشكل أساسي.

٢) عدد محدود من العملاء يعني أرباح محدودة: هذا أمر غير صحيح بالضرورة، مثلاً في حالة جارفيس، لا يأخذ عدد كبير من العملاء لكنه يأخذ مشاريع كبيرة تعود عليه بأرباح عالية، كما أن لديه مصادر دخل متعددة تجلب له أرباح دون بذل مجهود مستمر مثل الدورات الإلكترونية التي يقدمها، إضافة إلى أنه يستثمر جزء من أرباحه في شركات أخرى وبذلك يقوم بخلق مصدر دخل إضافي مستمر ومتضاعف. أما بالنسبة لعمر، فالبرغم من أن نموذج عمله يسمح بعدد محدود من العملاء مقارنة مع منافسيه في السوق، إلا أن أسعار خدماته تعوّض هذا الفارق، لا سيما أنه يقدم خدمات ومنتجات ذات جودة تفوق تلك الموجودة في السوق، وبالتالي عملاؤه لا يمانعون هذه الأسعار المرتفعة لأنهم يحصلون على جودة لا يجدونها في مكان آخر. بيت القصيد: عملاء أقل لا يعني بالضرورة ربح قليل، عليك فقط أن تجد المعادلة المناسبة المربحة.

٣) التوسع المحدود يقتضي تحجيم الطموح: أؤمن أن هذه فكرة خاطئة تمامًا. فالمحدودية في توسع حجم الشركة لا يعني بالضرورة التوقف في التطور والنمو بشكل مختلف، فمثًلا قد تختار أن تكون شركتك ذات ١٠ موظفين فقط، لكنك في كل عام تطور في منتجاتك/خدماتك/مشاريعك، تطور في الطرق التي تحصل بها على أرباح، تطور في إمكانيات ومؤهلات الموظفين، النمو والتطور أكبر وأعمق من مجرد تكبير حجم الشركة من ٥ موظفين إلى ٥٠ أو ١٠٠ موظف!

شخصيات كعمر وجارفيس تلهمني كثيرًا، فهي تشكل نموذج من أصاحب الأعمال الذين لا يكترثون لما يقوم به الآخرون أو ما تمليه عليهم الثقافة السائدة، هم يتبعون ما يؤمنون به ويشقون طريقهم الخاص بهم. من البديهي أن طبيعة العمل القائم على الاكتفاء أو شركة الرجل الواحد ليست نموذجًا يناسب الجميع، فكما يقول كلا من عمر وجارفيس: «لا يوجد نموذج صح ونموذج خطأ». وهنا تكمن الفكرة: لا توجد طريقة “واحدة” أو تعريف “واحد”، أو منهجية “واحدة” في بناء المشاريع التجارية، الحياة مليئة بالخيارات. ففي نهاية المطاف يعود الأمر إلى ماذا نريد أن نفعل نحن لا الآخرين من حولنا؟ ما العمل الذي نريد أن نؤديه؟ كيف نريد أن نقضي حياتنا؟ كل هذه الأسئلة وغيرها ستساعدنا على معرفة الخيار الأنسب لنا، سواءً كان الاكتفاء أم النمو الإمبراطوري أو شي آخر. المهم، ألا نقع في فخ: هناك طريقة واحدة فقط!

–انتهى–

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

ردّين على “ما بين بول جارفيس وعمر عاشور: ماذا يعني أن تختار الاكتفاء على النمو الإمبراطوري في الأعمال؟”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *