“وإن وافقت [الزيارة التفتيشية] يوم جمعة لا تنبعث من الدور روائح الضأن المتبل والكسكس والفطائر المقلية، لأن أحداً لا يطهو المعتاد من الطعام في يوم الجمعة الفضيل، وقبل هذا وبعده يتوقف كل لقاء لصلاة جماعة أو تشاور في أمور فقه أو دين حتى يأتي الزوار ويذهبوا في سلام” ثلاثية غرناطة – رضوى عاشور
هذا نص من رواية ثلاثية غرناطة التي تتحدث عن أحداث سقوط آخر ممالك الأندلس، الرواية تعرضت للحياة اليومية التي عاشها مسلمو الأندلس تحت حكم القشتاليين، الظلم، التعذيب، الإعدامات، التهجير، القرارات واللحظات الصعبة التي عاشها أهالي غرناطة.
أكثر ما استوقفني في اعتداءات القشتاليين الممنهجة هو تجريمهم لطهي اللحم في يوم الجمعة! والاستحمام في يوم الجمعة! حتى أن إقفال أبواب بيوت المسلمين يوم الجمعة كان محظوراً حتى تتسنى مراقبة المسلمينَ في دُورهم والتأكد من أنهم لا يقومون بأي مظاهر احتفال بهذا اليوم.
لم أفهم وقتها هذا الهوس “باغتيال” يوم الجمعة، لكني استوعبت لاحقاً أن اغتيال القشتاليين لهذا اليوم (وبقية الأيام/المناسبات الخاصة لدى المسلمين) فيه تأكيد على سره وأهميته، وأنّ بخسارته يخسر المسلمون شيئا…
لكن ماهو هذا الشيء؟ أهو مجرد وجود تجمع للمسلمين في صلاة وطقوس خاصة وبالتالي تقوية لُحمتهم؟
هذا ليس بتأويل كاف، لا بد أن هنالك معنى أعمق يجعل هذا اليوم مختلف
لازلت لا أعلم الإجابة، لكن أثناء بحثي وتأملي توصلت إلى فكرة أن يوم الجمعة يأتي كل أسبوع ليذكرنا بأن نفتح صفحة جديدة، أن نبدأ من جديد، فهو يوم اقترن ببدايات وأوائل الأمور العظام في هذا الوجود، إليك ٣ أمور تجعل من هذا اليوم يوم البدايات والصفحات الجديدة:
١- يوم خلق الإنسان الأول: خلق الله آدم في يوم جمعة١، أي بدأت قصة خلقنا أنت وأنا كجنس بشري في مثل هذا اليوم، ونفخ الله في جنسنا البشري من روحه في مثل هذا اليوم ، فكأن الجمعة تأتي لتذكرنا بأصلنا، ابتدائنا، امتدادنا، وسُمونا بعلاقتنا مع الخالق صاحب النفخة جل في علاه، وربما لذلك كان من السُنّة أن تُقرأ سورتي الإنسان والسجدة في صلاة فجر الجمعة، فنقرأ في سورة الإنسان (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) ونقرأ في سورة السجدة (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِين * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ) لنتذكر بداية علاقة الإنسان مع الخالق سبحانه، وربما كان في اختيار سورة السجدة إشارة إلى سجود الملائكة لآدم عندما خُلق…
٢- يوم الصلاة على النبي “الأول“: من المعروف أن يوم الجمعة هو يوم إكثار الصلاة على الحبيب عليه السلام، كيف لا وهو أول من كُتب نبياً٢، وأول من يُبعث، وأول من يَشْفع ويُشَفّع٣، وأول من يطرق باب الجنة ويدخلها٤، وأمته أول أمة تدخل الجنة٥، فكأن الجمعة تأتي لتذكرنا بأن مكاننا يجب أن يكون بين ومع الأوائل، أن نُبقي الهمم عالية، أن يكون سعينا متميزاً يليق بمرتبة الأوائل ليس كأفراد فقط بل أيضاً كجماعة تهتدي بهدي الإمام الأول.
٣- اليوم الأول في عالم الخلود: تقام الساعة في يوم جمعة٦، وبقيام الساعة تبدأ رحلة العرض والحساب في عالم الخلود، فكأن الجمعة تأتي لتذكرنا بأن علينا أن نستعرض ونتأمل أعمالنا خلال الأسبوع السابق وأن نراجع ونقييم أنفسنا، ربما لذلك سُنّت قراءة سورتي الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة لنراجع أنفسنا قبل أن ننتقل إلى عالم الخلود في يومٍ مشابه، فسورة الأعلى تتحدث آياتها الآخيرة عن التذكير ومراجعة النفس، وتتحدث الغاشية عن مشاهد من عالم الخلود، وأذكر ضمن هذا السياق تأملاً جميلاً لأحد الأفاضل والذي رأى فيه أن سورة الكهف تحث الإنسان على مراجعة نفسه في ٤ أمور: الإيمان (قصة الفتية)،والعلم (قصة سيدنا موسى والخضر)، والمال (قصة صاحب الجنتين)، والعمل (قصة ذي القرنين) فكأنك تقرأها كل جمعة لتراجع نفسك في هذه المناحي الأربعة.
هكذا يأتي يوم الجمعة ليذكرنا بفتح صفحة جديدة، نبدأ فيها من أول السطر، وأن نحتفل مع بقية المسلمين بهذه المنحة الإلهية الأسبوعية التي تذكرنا بأننا مهما فعلنا مسبقاً فإننا نستطيع أن نبدأ من جديد.
ولذلك يستحق يوم الجمعة أن نعيشه بشكل مختلف! فهل هو حيٌ أم “مغتال” فينا كما اغتاله القشتالييون في حياة مسلمي الأندلس؟
–انتهى–
المصادر
١و ٦ (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه) صحيح أبي داود
٢ (قالوا : يا رسول الله ! متى وجبت لك النبوة ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد) سنن الترمذي
٣ ، ٤ (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول قارع باب الجنة) صحيح مسلم وحديث (أنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة) سنن الترمذي (آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك) صحيح مسلم
٥ (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة) صحيح مسلم
مصدر الصورة: Sybartica.me
جميل جداً ، بانتظار الجزء الثاني ان شاءالله
شكراً لكِ رشا أسعدني مرورك