٤ حِيَل للتعامل مع الحزن من وجهة نظر الفيلسوف الكِندي

صورة المقالة: لوحة للفنان السعودي ضياء عزيز ضياء

في الفترة الماضية وقعت على رسالة للفيلسوف يعقوب الكِندي (185 هـ/805 م – 256 هـ/873 م) عنوانها «في الحيلة لدفع الأحزان»، وللوهلة الأولى شعرت أنني وقعت على كنز لأن الرسالة تتحدث عن كيفية التعامل مع الحزن، وهو ما يشكل موضوع مناسب للمرحلة التي نعيشها..

أعتقد أن ما فعله الكندي في هذه الرسالة هو وضع أساسيات لـتكوين “عقلية التعامل مع الحزن”، والجدير بالذكر أن جزءً كبير من هذه العقلية تتقاطع مع مفهوم ما نعرفه اليوم بالتخفف أو الـ Minimalism إذا ما عرفناه على أنه التركيز على الجوهر، على ما هو مهم.

لكن أول ما لفت انتباهي واستوقفني كثيرًا هو عنوان الرسالة نفسها «في الحيلة لدفع الأحزان». أعني لماذا اختار أن يسمي طريقة تعاملنا مع الحزن “حيلة”؟ لماذا لم يسميها طريقة أو وسيلة مثلاً؟ عندما بحثت في المعجم، وجدت أن معنى كلمة الحيلة هو «الحِذْقُ، وجودة النظر، والقدرة على دقَّة التصرف في الأُمور» ومعنى أن يكون الشخص «واسع الحيلة» هو أن يكون «بارع في الخروج من المآزق، ماهر في تدبُّر أموره»، حتى لو آخذناها بأحد المعاني السلبية التي تعني “المحتال = المخادع”، فالخداع هنا نتيجة لمهارات المحتال في التعامل مع مأزق ما والخروج منه. أو قدرته على تدبير أمر ما بمهارة وذكاء.

وبذلك نرى أن الاختيار وحده لمسمى الحيلة يرسي فكرة أساسية في عقلية التعامل مع الحزن ألا وهي أن الحزن يتطلب تصرفًا واعيًا يصاحبه قدر من المهارة للخروج منه. وكما نعرف، المهارة تقتضي أنه يبذل الشخص جهدًا ويستمر في المحاولة والتكرار بشكل يخرجه من منطقة راحته ويجعله يتعامل مع مشاعر لا يريد التعامل معها عادةً.

وفكرة أساسية أخرى ترسم الإطار المعرفي الذي يتعامل من خلاله الكندي مع الحزن هي أن «المصائب في أصل التكوين»، أي «إذا أردنا أن لا تكون [هناك] مصائب ، فإنما أردنا أن لا نكون [كبشر] البتة»، لأن المصائب تعني أن يفسد ما هو قابل للفساد/التلف، وكل شيء كائن هو قابل للفساد، فإن لم يكن قابلاً للفساد، فهو ليس بكائن، «فإذن إن أردنا أن لا تكون مصائب، فقد أردنا أن لا يكون الكون»، وبيت القصيد هنا: تقبل حقيقة وجود الألم كجزء تكويني من التجربة البشرية هو أحد أساسيات تبني عقلية التعامل مع الحزن.

لكن، ماذا يعني الحزن عند الكندي؟

يعرف الفيلسوف الكندي الحزن على أنه «ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات وفوت المطلوبات» أي أن الحزن ينشأ من شيئين: إن فقدنا ما نريد، أو إن لم نحصل على ما نريد، سواء كان ذلك أشخاص، أشياء، ممتلكات، تجارب، حالات…إلخ. وفهم مصادر الحزن جزء أساسي للتعامل معه فكما يقول: «إن كل ألم غير معروف الأسباب غير موجود الشفاء» لذلك إذا أردنا أن نتشافى منه علينا أن نفهم جذوره. ويضيف أن «الحزن وضع وليس طبع»، وبالتالي هو حالة مؤقتة يمكن الخروج والعودة إليها، وليست حالة تكوينية دائمة لا يمكن الخروج منها.

الصراحة لم تكن مهمة قراءة رسالة الكندي سهلة، لا من ناحية اللغة ولا الأسلوب، أعتقد أني قرأتها ٣ أو ٤ مرات، وبالتالي الكتابة عنها ليس أيضًا بالأمر السهل لأني أخشى تبسيط بعض المفاهيم إلى حد التسطيح الذي يفقدها عمقها، لكن يهمني جدًا أن أشاركك، عزيزي القارئ، في هذه التدوينة أهم النقاط التي تشكل عقلية التعامل مع الحزن من وجهة نظر الكندي، وسأقسمها إلى ٤ حِيَل. أردت أيضًا أن أحافظ على نَفَس الرسالة الأصلية، لذلك أبقيت على بعض المصطلحات اللغوية وإن لم نكن نستخدمها اليوم، آملة بذلك خلق شعور بالتواصل النفسي مع كاتب الرسالة الأصلي، رحمه الله.

«الحزن يتطلب تصرفًا واعيًا يصاحبه قدر من المهارة للخروج منه»

١) القُنية: حيلة فهم ما نمتلكه حقًا

يدعو الكندي إلى «أن يكون على بال كل منا أن جميع الأشياء التي تصل إليها الأيدي مشتركة لجميع الناس»، وبالتالي هي موجودة ومتاحة في الحيز/الفضاء العام ولسنا بأحق بها من غيرنا، إنما هي لمن غلب عليها فتصبح له. وكلمة “أشياء” لا تعني فقط الممتلكات المادية مثل المال أو المنزل، بل يمتد معناها لما هو أوسع مثل النجاح، أو الحب، أو مكانة اجتماعية، أو أيًا من الأمور الأخرى التي قد نحزن إن فقدناها أو إن لم نمتلكها أساسًا. لذلك مالا يمكننا الحصول عليه إلا بالتغلب، لا يصح بناء حزن عليه، بل وإن من يحزن على امتلاك الناس لما امتلكوه فهو حسود، بحسب تعبير الكندي. «أما الأشياء التي هي لنا وغير مشاركة لغيرنا فهي التي لا تصل إليها الأيدي ولا يملكها علينا غيرنا» وهذا النوع من الأشياء يدعوها الكندي بـ «قُنيَة أنفسنا» – من كلمة اقتناء – أي ما نملكه من «الخيرات النفسانية» التي وضعها الله فينا، ونحن معذورون إن حزنا على فقدان هذه القنية من أنفسنا، لأنها ما يمزنا وما يجعلنا نحن.

٢) الإعارة: حيلة فهم مبدأ العطاء والإرجاع

كل الأشياء المشتركة والمتاحة في الحيز العام لنا نحن البشر ما هي إلا «عارية» أي شيء أعارنا هو الله، جل ثناؤه، وهو قادر على أن يستعيد مننا عاريته متى شاء ويعطيها إلى شخص آخر، ويشرح الكندي هنا أنه لولا دفع الله تعالى العارية من شخص لآخر لما كانت وصلت إلينا من الأساس، لذلك من الطبيعي أن نفقد، لأن الفقد جزء لا يتجزأ من عملية الاقتناء، ولأن لله المشيئة المطلقة فله أن يعير ويرتجع متى وكيفما شاء. وأنه ليس من سلوك الشكر أن نُعار شيئًا ونظن أنه ملكنا، «لأن أقل الشكر رد العارية إذا أراد ارتجاعها عن طبية نفس وبهج بالاسراء والتلبية». ويختم الكندي هذه النقطة بفكرة جميلة ألا وهي إن كان الله تعالى أخذ منا أيًا من الأشياء (مادية أو غير مادية) التي كانت لدينا، فهو بذلك ارتجع «الأقل الأخس» لأنه بإبقائنا على قيد الحياة قد أبقى لنا «الأكثر الأفضل» وهي الخيرات النفسانية التي نمتلكها بكوننا نحن وما يميز جوهرنا عن كل شي آخر.

٣) التخفف: حيلة العيش بدون أثقال

يقارن الكندي الحيوان والإنسان من حيث رغبة التملك ويقول: «كل [الحيوانات] طيبة العيش، رخية البال، مالم يمسها محسوس مؤلم، – غير الإنسان: فإنه لما زيد الفضيلة التي ملك بها على جميع الحيوان وصير بها له سائسًا مدبرًا، جهل تدبير نفسه، فإنه ما زيد في التمييز العقلي أراد أن يقتني أشياء كثيرة لا حاجة له إليها في إقامة ذاته وصلاح عيشه» ومشكلة الكندي مع اقتناء الأشياء الكثيرة التي لا نحتاجها هي أنها تكسبنا الهم عندما نسعى ورائها، والألم عندما نفقدها، والحسرة عندما نفوتها. وقد نعيش أيامنا في قلق أو خوف من فقدانها، وفي ذلك يقول الكندي: «من شغلته نفسه بتزييد الخارجات عنه، عدِمَ حياته الدائمة، تكدر عليه عيشه في حياته الزائلة، كثرت أسقامه، ولم تتصرم آلامه» وفي هذا قد قيل أن سقراط سُئل مرة: «ما بالك لا تحزن؟ فقال: لأني لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه».

٤) الموت: حيلة كره الرديء

يوصي الكندي بأنه علينا أن نكره الرديء وألا نكره ما ليس برديء، بديهي جدًا، أليس كذلك؟ لكن الفكرة هنا أننا كبشر عادة ننظر إلى الموت على أنه أردأ شيء في الحياة، لكن من وجهة نظر الكندي، الموت ليس برديء، إنما الخوف من الموت هو الرديء. ويعلل ذلك بقوله أن الموت هو من «تمام طباعنا» أي داخل في أصل تكويننا كبشر، فإن لم يكن هناك موت لم يكن هناك إنسان، لأن إن لم يكن ميتًا فهو ليس بإنسان، أو بتعبير آخر، الموت ما يجعلنا بشر، وأن نكون ما نحن (أي كائن حي ناطق مائت) ليس أمرًا رديئًا، إنما الرديء ألا نكون ما نحن. وبالتالي إن كان الموت هو الأمر الذي يعتقد معظم الناس أنه أردأ الأشياء، وهو في حقيقته ليس رديء كما رأينا، فكل شي دون الموت من المفقودات الحسية ليس برديء. بيت القصيد هنا: لا يوجد أمر حقيقي رديء سوا الخوف من الموت بحسب منطق الكندي. والجدير بالذكر أن الكندي ينظر للموت بنظرة إيجابية جدًا فهو بالنسبة إليه أشبه بالترقية والانتقال إلى حال أو مرحلة أفضل من سابقتها.

«تقبل حقيقة وجود الألم كجزء تكويني من التجربة البشرية هو أحد أساسيات تبني عقلية التعامل مع الحزن»

أخيرًا، قد تبدو هذه النقاط بديهية، لكن كوننا نعرف شيء وأن نستطيع تطبيقه هو شيء آخر تمامًا، وأعتقد أن هذه أحد مشكلات الإنسان الكبرى، معظمنا يعرف ما الذي يجب عليه فعله لكننا لا نفعله. وبشكل عام أتفق كثيرًا مع فلسفة الكندي التي تقول بـ “أن نكون سعداء أي أن تكون إرادتنا ومحبوباتنا ما تهيأ لنا، ولا نأسى على فائتة ولا نتطلب غير المتهيء من المحسوسة”. وأعتقد أن هذا لا يتعارض مع فكرة الطموح أو السعي لما هو أفضل. لكني الصراحة وجدت صعوبة في تقبل فكرة تناول الكندي للتعامل مع مشاعر الحزن بشكل منطقي وعقلاني بحت يصل إلى حد القسوة في بعض تعبيرات الرسالة الأصلية والتي لم أعكسها في هذه التدوينة، أعني هذا أمر مفهوم لأنه فيلسوف أولاً وأخيرًا، لكني أؤمن أن مشاعر الإنسان أحيانًا تكون أكثر تعقيدًا من أن يتم معالجتها بحجج منطقية ومنهجيات عقلانية، وإن كانوا جزء أساسي ومهم في التعامل مع هذه المشاعر معالجتها.

«أن نكون سعداء أي أن تكون إرادتنا ومحبوباتنا ما تهيأ لنا، ولا نأسى على فائتة ولا نتطلب غير المتهيء من المحسوسة»

–انتهى–

مقالات ذات صلة:

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

14 ردّ على “٤ حِيَل للتعامل مع الحزن من وجهة نظر الفيلسوف الكِندي”

    1. الله ألهمني اقرأ المقال في وقت الحزن؛ وقد كانت الاسقاطات على الواقع والفهم اعمق 🌻، شكرًا لكِ العنود، أنتِ رائعة 🙏🌸.

  1. رسالة ملهمه بلا شك ولكن ثمة شعور مفاجئ و غامض يداهم الإنسان وهذا ما يتعدى فكرة الموجود والمفقود ولان الفلسفة أمثلها بالغرق نحو الأعلى يظل هنالك حزن لا تصل إليه اللغة كما قال زكي مبارك أو قريبا منه ” ما ينتابنا من شعور مؤلم وحزين ما هو إلا آثار خروج أبينا آدم من الجنة ”
    دمتم بود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *