عن مأزق الإيجابية السامة وكيف يمكن “للسلبية” أن تكون سبيلاً إلى صحة نفسية أفضل

Alanoud
العنود الزهراني

 مصدر صورة المقالة: drugs.trendolizer.com

هل مرت عليك لحظات شعرت فيها أنه عليك أن “تغصب” نفسك على أن تكون إيجابيًا، وتضع قناعًا من ابتسامات مزفية حتى لا تكون الشخص الكئيب، صاحب الدم الثقيل في الجلسة؟ أو هل سمعت مرة أحدهم يعبر عن مشاعره “السلبية” فوجدت نفسك تقفز في وجهه – حتى قبل أن يتم كلامه – قائلاً: «ياخي لا تكون سلبي، خليك إيجابي!»؟.

إن كنت أحد هؤلاء، فأهلاً بك في نادي “الإيجابية السامة”.

 

أظن أننا من أكثر وقتى مضى مدعوون، أو بالأحرى مدفوعون، لأن نكون أكثر إيجابية، لأن ننظر إلى الجانب المشرق، لأن نركز على نصف الكوب الممتلئ، لأن نركز على الإيجابي حتى يظهر في حياتنا وألا نفكر في السلبي كي يختفي منها، كل الشكر لكليشيهات التنمية الذاتية أحادية التوجه، وأفواج المتحدثين التحفيزيين الذين يمطرون على الناس بنصائح التفكير الإيجابي والذي يفترض أنه قادر على انتشالنا من التعاسة ورمينا في أحضان السعادة..

للأمانة هذا الكلام يبدو رائعًا في ظاهره، يرفع المعنويات، يجعلنا نحترز من اليأس والنظرة السوداوية، لكنه في جوهره قد يسقطنا في أخدود نفسي عميق من المشاعر والأفكار المكبِّلة. هذا الخطر وارد إذا ما وقعنا في فخ ما يدعى بـ “الإيجابية السامة”، وهي الحالة التي يقنع فيها المرء نفسه أو يتظاهر بأن كل شي على ما يرام، في حين أن واقعه وما يشعر به داخليًا عكس ذلك تمامًا، هي الحالة التي يهرع فيها من مواجهة الأحاسيس التي تجلب له شعورًا بالألم إلى أحاسيس مستعارة تصنف على أنها إيجابية، وأقول هنا أنها مستعارة لأنها غير نابعة من احساس وجداني، بل تأتي كفرة ملقنة من العقل الذي يقول لحظتها: لابد أن أشعر بالمتعة، السعادة، التفاؤل، أو أيا كان، بغض النظر عما يحدث حقًا في الدهاليز الوجدانية.

الإيجابية السامة في جوهرها قمع للحقيقة.

محاولة مستميتة للإبقاء على مشاعر “السعادة” الزائفة واللهث خلفها، هذه الظاهرة التي تعلق عليها المعالجة النفسية «توري رودريجز» قائلة:

«في السنوات الأخيرة لاحظت زيادة عدد الأشخاص الذين يشعرون بالذنب أو العار بسبب ما يتصورونه من مشاعر سلبية، إن هذا التفكير – من غير شك – نتاج ثقافتنا التي تنحاز بشكل مفرط إلى التفكير الإيجابي، صحيح أن المشاعر الإيجابية تستحق أن نشجعها، لكن المشكلات تنشأ عندما يميل الناس إلى الإيمان بأنهم يجب أن يكونوا سعداء دائمًا» [١].

وتتعجب «توري» كيف أن المريض الذي يأتيها طالبًا للمساعدة في حل مشكلته وتفكيك عُقَد علاقاته، أصبح يتوقف عن استرساله في وصف خبراته المؤلمة، لكي يعتذر قائلًا: «آسف لكوني سلبيًّا لهذه الدرجة!»، بالرغم من أن «الهدف الأساسي للعلاج النفسي هو تعليم المريض الإقرار بكافة أنواع المشاعر التي تعتمل في صدره، والتعبير عنها بغير حساسية» لكن ها هو المريض يعتذر عن سرد بعض مشاعره! [١].

«من حفرة لدحديرة»

هناك مثل حجازي يقول: «من حفرة لدحديرة»، ويقال عندما يتحول الوضع من سيء إلى أسوأ. يذكرني هذا المثل بدوامة الإيجابية السامة، فبالرغم من أنها تستخدم كاستراتيجية للهروب من السلبية، إلا أنها في الحقيقة تُغرق صاحبها في سلبية داخلية أعمق، حتى وإن بدا ظاهره إيجابيًا، والمشكلة هنا بحسب استنتاجات بعض الباحثين هي أن قمع المشاعر له تداعيات على صحتنا النفسية والعقلية.

وعلى سبيل المثال، في دراسة أجراها باحثون من جامعة ستانفورد وكاليفورنيا عام ١٩٩٧، عُرضت مقاطع فيديو لعمليات جراحية طبية صعبة على العينة المشاركة في البحث، وقد تم قياس ردود أفعال المشاركين الفيسيولوجية (نبضات القلب، تغير حجم بؤبؤة العين، افرازات العرق..إلخ) أثناء مشاهدتهم للمقاطع، وقد قسمت العينة إلى مجموعتين: المجموعة الأولى طلب منها مشاهدة المقاطع مع السماح لهم بالتعبير عن مشاعرهم كما أرادوا، بينما طلب من المجموعة الثانية أن تكبت مشاعرها وتتظاهر أن كل شيء على ما يرام، فكانت نتائج الدراسة أن المجموعة التي كبتت مشاعرها، كانت درجات الضغط العصبي والإجهاد الداخلي لديها أعلى بالرغم من أنهم بدوا هادئين وغير متأثرين من الخارج [٢].

«المشكلات تنشأ عندما يميل الناس إلى الإيمان بأنهم يجب أن يكونوا سعداء دائمًا»

إنهيار السياق وعبادة المشاعر كمسببات

أعتقد أن الإيجابية السامة مأزق حقيقي، خاصة في ظل ظاهرة إنهيار السياق (Context Collapse) التي نشهدها على منصات التواصل الإجتماعي، فمعظم الذي نراه صور غير واقعية لحياة تبدو مثالية، نحن نرى جزء صغير لا يعكس السياق الكامل، ومع ذلك تجعلنا هذه الصور نشعر وكأننا بحاجة إلى أن نكون سعداء وإيجابيين طوال الوقت حتى نحظى بحياة ممتعة كحيوات أولائك الذين نتابعهم.

وفي كتابه «عبادة المشاعر»، يعزي الفيلسوف والكاتب الفرنسي «ميشيل لكروا» ظاهرة المبالغة في تقديس المتعة والمشاعر الجيدة إلى ولوج الإنسان الحديث في عصر أصبحت فيه المشاعر تلعب دورًا هامًا ومركزيًا في حياته، فهذا الإنسان الشعوري الجديد، الأمو سنتيانس (homo sentiens)، قد حل محل الإنسان المعاصر، الأمو سيبيانس (homo sapiens)، الذي كان يقدم العقل والتفكير المنطقي والتحليلي، ويفسر «لكروا» نزعة الإنسان الشعوري الحديث إلى البحث المسعور عن المشاعر والمواقف التي تتميز بالانفعالية وتبعث على الانتشاء، فيقول:

«…أنه [أي الإنسان الشعوري الحديث] داخل ميدان المشاعر، يهمل تلك التي يمكن أن تثري روحه، ويُؤثر تلك التي تحقق له أنواعًا من الإهاجات المبتذلة، إنه يفضل المشاعر القوية التي تدخله في حالة إنفعالية، على مشاعر التأمل التي تدخله في حالة التنهد، إنه يبحث عن مواقف تبعث فيه الأحاسيس الوقتية، هو بحاجة إلى ارتجاجات تهزه، ونشاطات هستيرية تذهله، وانطباعات غير عادية وقويه تبهره، حياته العاطفية مبينة على الحركية، لا على الخشوع، على الفعل، لا على التأمل». [٣]

ومن وجهة نظر لكروا فإن تقديس المشاعر المتمثل  في اللهث وراء المتعة والمشاعر الجيدة هو التعبيير الأقصى عن الفردانية وتمثل تقديس الأنا [٣].

لكن بعيدًا عن نموذجي الإنسان المعاصر والشعوري الذي يتناولهما «لكروا»، فكلاهما نموذجين متطرفين ومعطوبين من وجهة نظر إسلامية، يبقى سؤال مهم جدًا؛ لماذا أصبحنا نصنف المشاعر إلى سلبي وإيجابي؟ فهذه ظاهرة حديثة تمامًا.

عن فخ تصنيف المشاعر

من أهم التساؤلات التي تطرحها «سوزان ديفيد»، محاضرة علم النفس بجامعة هارفرد ومؤسسة مركز التدريب في مستشفى ماكلين بكلية الطب بجامعة هارفارد، هو: لماذا نصنف المشاعر إلى سلبي وإيجابي أساسًا؟ فهذا – كما تشرح – يجعلنا نحكم على أنفسنا ومشاعرنا، لذلك فهي تدعو إلى النظر إلى المشاعر على أنها مجرد مشاعر طبيعية نعيشها كبشر، بمجرد أننا نعتبر مشاعر ما “جيدة” وأخرى “سيئة”، فإننا بذلك نسخّف ونسطّح المسألة بشكل يضرنا ويدخلنا في ما يمكن تسميته بالـ”الأمية العاطفية” (Emotional illiteracy)، أي جهلنا لماهية هذه المشاعر، وبالتالي عدم قدرتنا على التعامل معها بشكل صحيح.

وقبل التطرق إلى بعض الاستراتيجيات المقترحة للتعامل مع المشاعر والأفكار التي تعتبر سلبية دون الوقوع في مأزق الإيجابية السامة، أريد أن أتناول ٥ إشكاليات رئيسة تخلقها أو على الأقل تعززها الإيجابية السامة.

Swiss psychiatrist Carl Gustav Jung (1875 – 1961), the founder of analytical psychology, 1960. (Photo by Douglas Glass/Paul Popper)

التجارب والمشاعر التي تبدو قاسية هي ما يعطي الشق “الإيجابي” معنًا وقيمة

الإشكالية الأولى: بشريّة مشوّهة

أؤمن أن التجربة البشرية تقتضي أن نعيش أطيافًا مختلفة من المشاعر، منها “السلبي” و”الإيجابي” كما ندعوهما، من الطبيعي أن أعيش وأمر بكل هذه المشاعر كإنسان، لذلك عندما يطلب مني أن أترك “السلبي” وأركز على “الإيجابي” أشعر أني أحرم من عيش التجربة البشرية بكليتها، أشعر أني أنتشل منها، لا أعتقد أنه من الطبيعي أن يخوض الإنسان الحياة بنوع واحد من المشاعر فقط، فيما يحاول قمع ومحاربة النوع الثاني.

بالنسبة لكلٍ من «جيمي لونج»، عالمة النفس الإكلينيكي، و«سامارا كوينتيرو»، أخصائية علاج العلاقات الزوجية والأسرية، اللتان تعرفّان الإيجابية السامة على أنها «التعميم المفرط وغير الفعال لحالة من السعادة والتفاؤل في جميع المواقف»، فإنهما تران أنها عملية تؤدي إلى إنكار وإبطال أو حتى التقليل من التجربة الشعورية الإنسانية الأصيلة [٤].

وإذا أخذنا قاعدة «بِأَضْدَادِهَا تُعْرَفُ الأَشْيَاءُ» بعين الاعتبار، فكيف سنعيش ونقدّر معنى البهجة دون الهم، أو السعادة دون الحزن، أوالمتعة دون الملل، أو الرضا دون الألم، أو النصر دون الهزيمة..هذه التجارب والمشاعر التي تبدو قاسية هي ما يعطي الشق “الإيجابي” معنًا وقيمة. شخصيًا أختار أن أعيش حياة غنية بجميع المشاعر المختلفة، “السيء” و”الجيد” منها، على أن أعيش حياة عرجاء، مشوهة، تخضع فيها المشاعر “السلبية” لعملية استصئال مستمرة.

الإشكالية الثانية: فقدان مهارة مهمة

في سياق الصحة العقلية، يرى علماء النفس أهمية وجود توازن في الطريقة التي ننظر بها إلى العالم، بمعنى ألا تكون إيجابية فقط أو سلبية فقط، بل أن بعضهم يدعون إلى أهمية الموازنة بين التفاؤل والتشاؤم [٥]، وتعليلهم لذلك هو أننا عندما نركز على التفكير الإيجابي وتجاهل السلبي طيلة الوقت، فإننا نفقد القدرة على تقييم المخاطر والتهديدات المحتملة التي قد تواجهنا في حياتنا، كما نفقد القدرة على التفكير بشكل متوازن في المواقف الصعبة.

هذا يذكرني بالأهالي الذين يخافون على مشاعر أبنائهم لدرجة أنهم يزوّرون لهم حقائق التجربة البشرية، كالموت، الفقد، المعاناة، الظلم، حيث تُلبّس هذه المفاهيم بأغطية وقصص مختلقة بهدف تعزيز الشعور الجيد لدى الأبناء وإبعاد مشاعر الألم عنهم، حبًا فيهم وحماية لهم. لكن ماذا يحدث لهؤلاء الأبناء حينما يخوضون مضمار الحياة ويصطدمون بالواقع، مقارنة بالأبناء الذين تعرضوا لهذه المفاهيم والحقائق القاسية منذ وقت مبكر؟

الأمر ذاته مع الذين يبرمجون أنفسهم على الإيجابي فقط، فهم مع الوقت يفقدون القدرة والمهارة على التعامل مع المشاعر والمواقف الصعبة التي ستواجههم في هذه الحياة لا محالة، وبالتالي هم أكثر معاناة وأكثر عرضة للاكتئاب إثر تعرضهم للمواقف الحياتية القاسية.

ومن الجدير بالذكر أن بعض الدراسات تشير إلى أن الأشخاص المعتادين على تقبل مشاعرهم السلبية يعانون منها بشكل أقل مقارنة بمن يحاولون قمعها أو استبدالها بأخرى إيجابية، بتعبير آخر، يحقق هؤلاء المتقبلون للمشاعر السلبية صحة نفسية أفضل بشكل عام [٦]. ويؤكد على هذه الفكرة «بريت فورد» الأستاذ المساعد في علم النفس بجامعة تورنتو قائلاً: «إن الأشخاص الذين يقبلون هذه المشاعر [السلبية] دون الحكم عليها أو محاولة تغييرها، قادرون على التعامل مع ضغوطاتهم بنجاح أكبر» [٦].

الإشكالية الثالثة: علاقات سطحية

عندما نتغافل عن حقيقة ما نشعر به، فإننا نكوّن علاقة مشوهة مع أنفسنا أولاً، ومن ثم العالم من حولنا، وبذلك نصعّب على أنفسنا وعلى الآخرين من حولنا مهمة بناء علاقات حقيقة ومتينة. تخيل أنك بحضرة شخص تريد أن تبني معه تواصلاً عميقًا لكنك تعلم أنه من دعاة الإيجابية السامة وبالتالي لسان حاله يقول: لا يسمح إلا بالمشاعر “الجيدة” هنا، لن تستطيع أن تفتح قلبك لهذا الإنسان، لأنك تخشى أن بعض الأفكار والمشاعر التي تعتبر سلبية – والتي تمثل جزءً من حقيقة واقعك – قد تعكر مزاجه أو تجعله غير مرتاح أثناء الحديث أو قضاء الوقت معك، بطبيعة الحال، ستظل هذه العلاقة سطحية هشة وتفتقر إلى الحميمية.

وعلى صعيد العلاقة مع الذات، إن لم نستطع أن نكون صادقين مع أنفسنا ونواجه مشاعرنا كما هي، فكيف إذن سنكون صادقين مع الآخرين؟ هل علاقة مزيفة مع الذات ستقود إلى علاقات صادقة مع الآخرين؟

الإشكالية الرابعة: تضييع فرصة فهم القيم الشخصية

أؤمن أن المشاعر التي ندعوها سلبية هي بمثابة الكنز، كونها مصدر يعلمنا الكثير عن أنفسنا، مثلاً عندما أشعر بتأنيب ضمير شديد لأنني “خبصت” في الأكل، فبدلاً من أن أقنع نفسي”أهم شيء استمتعت”، ربما من الأفضل محاولة فهم مصدر شعور تأنيب الضمير هذا، وما الذي يعنيه، في حالتي، قيمة الصحة والعافية مهمة جدًا جدًا بالنسبة لي، احترام الجسد والعناية به والتعامل معه على أنه أمانة ورفيق في رحلة الحياة هي فكرة محورة عندي، لذلك أشعر بتأنيب الضمير عندما أتخذ قرارات أعتقد أنها تؤذي هذا الجسد، شخصيًا أجد أن هذا التفكّر في المشاعر “السلبية” – أي تأنيب الضمير – مثمر أكثر من المحاولة السريعة لقمعها والتخلص منها بأقوال مثل: “لا تجلدي ذاتك”، “لا تقاومي”، “لا تفكري بشكل سلبي”، “فكري في الإيجابي”..”لا تفكري كثير استمتعي وخلاص”.

الإشكالية الخامسة: غياب الحساسية تجاه طبيعة الشخصيات المختلفة

في مجال علم النفس يوجد مفهوم يعرف بـ “التشاؤم الدفاعي” (Defensive Pessimism)، وهو استراتيجية يستخدمها الأشخاص القلوقين لمساعدتهم على إدارة قلقهم وإعادة توظيفه للخروج بجودة عمل أفضل [٧]، ينزع “المتشائمون الدفاعيون” إلى خفض توقعاتهم حتى يعِدّوا أنفسهم للأسوأ، ويعملوا من هذا المنطلق [٨]. فمثلاً قلقهم الشديد من مقابلة شخصية أو اختبار ما – لأنهم يتوقعون الأسوأ – يقودهم إلى بذل جهد أكبر لتجنب الفشل، وبالتالي يبلون بلاءً حسنا. المثير للاهتمام أن هذا النوع من الناس لا يفيده التفكير الإيجابي بل يضره!

في دراسة أجرتها الباحثة في علم النفس، جولي وريم، أشارت النتائج إلى أن حرمان المتشائمين الدفاعيين من استخدام استراتيجية التأقلم هذه ودفعهم إلى النظر للأمور بإيجابية، قادهم إلى تحقيق مستوى أداء أسوأ [٨]، وفي دراسة أخرى أجريت على مجموعة من كبار السن، وُجد أن المتشائمين كانوا أقل عرضة للاكتئاب من المتفائلين بعد تعرضهم لأحداث صعبة في الحياة، مثل وفاة صديق، إحدى التفسيرات لهذه النتيجة هي أن المتشائمين قد أمضوا وقتًا أطول في الاستعداد عقليًا لاحتمالات غير سارة [٨].

حتى فكرة التوكيدات من نوع «أنا رائع»، «أنا أستطيع» التي تقتضي ترديد عبارات إيجابية بهدف تحفيز الذات وتغيير نظرتك لنفسك، وجدت بعض الدراسات أنها تؤدي إلى تحسن مزاج مردديها ممن يتمتعون بتقدير عالٍ للذات، أما الذين يملكون تقدير ذاتي منخفض، فإن هذه التوكيدات الإيجابية لها تأثير سلبي عليهم، لأنها تذكرهم بما يفتقرون إليه بدلاً من أن تجعلهم يتبنون نظرة مغايرة عن ذواتهم [٨].

هل يعني هذا أنه يفترض أن نكون “سلبيين” ؟

حسنًا، إذا صمدتَ حتى هذه الفقرة، فنستطيع أن نتجاوز ضرورة تصنيف المشاعر إلى سلبي وإيجابي قليلاً.

لكننا لا نستطيع أن ننكر حقيقة أن هناك مشاعر صعبة على النفس، ثقيلة ومُثقلة، قد تؤدي بنا إلى تكوين خريطة إدراكية مشوهة تزيد شقائنا في الحياة بدلاً من أن تخففه، كاليأس، والحزن، والخوف، والغضب، وتأنيب الضمير على سبيل المثال.

لذلك، هذه ٦ استراتيجيات مقترحة للتعامل مع هذا النوع من المشاعر الصعبة.

١- اكتشف النمط [٩] [١٠]

عندما يحزنك أمر ما، أو يشعرك بالقلق أو الغضب، لاحظ، هل يحدث ذلك بشكل متكرر؟ هل هو نمط؟ أم أنه شعور عابر؟ هل توجد مواقف، أو سلوكيات، أو أشخاص معيينين يثيرون فيك مشاعر صعبة أو ردات فعل محددة بشكل متكرر؟ إذا كانت الإجابة نعم، فالجدير بنا هنا أن توقف ونحاول أن فهم لماذا.

مثال شخصي: استوعبت مؤخرًا أنني استشيط غضبًا إذا أحسست أن شخصًا ما يتعامل معي بشفقة، هذا نمط شعوري لدي، وبما أنه نمط، فهو نتاج مسألة نفسية عميقة، لذلك التعامل مع الغضب في هذه الحالة بشريط لاصق مهترىء من نوع: “خليكِ إيجابية، فكري في الجانب المشرق” لن يفيد. الأمر يحتاج إلى تعامل خاص. لكن في حالة أخرى مثلاً، أن يسكب أحدهم على ثيابي طعام/شراب بالخطأ، قد أغضب إن كنت قد حذرته، لكن في الغالب أمر كهذا لا يغضبني، قد أضحك، قد أعصب، قد أكمل وجبتي كأن شيئًا لم يكن، قد أقلق، بشكل عام لا يوجد نمط هنا، فإن شعرت بغضب في هذه الحالة، فهذا أمر طبيعي، لأن مشاعر الغضب هنا غير متكررة بالرغم من تكرر الموقف.

وليس بالضرورة أن يكون نمط المشاعر دلالة على “مشكلة” نفسية ما، بل قد تكون دلالة على قيمة/قيم مهمة لدينا، المهم أن نكتشف النمط ويصبح واضحًا أمامنا.

٢- سمِّ المشاعر بأسمائها الصحيحة [٩] [١٠]

توضح الباحثة «سوزان ديفيد» أن معظمنا يميل إلى استخدام توصيفات غير دقيقة للتعبير عن مشاعره، مثلاً، عندما لا نشعر بأننا على ما يرام، فإننا نقول: «أنا بس مضغوط»، لكن المشاعر التي تختلج صدرنا حقًا قد تكون مشاعر قلق، أو إحباط، أو خوف وليس شعورًا بالضغط. عندما نسمي مشاعرنا بالاسم الصحيح، فإن ذلك يساعدنا على فهم ماهيتها، وبالتالي إمكانية فهم مسبباتها وكيفية التعامل معها. لكن عندما نستخدم مسميات غير صحيحة، أو عامة، أو مبهمة مثل “متضايق”، فإننا لا نساعد أنفسنا على الوصول إلى جذر هذا الشعور.

٣ – تذكر أنك لست مشاعرك [١٠]

عندما نتحدث عن مشاعرنا، فإن الباحثة «سوزان ديفيد» توصي بألا نقول أشياء مثل: «أنا حزين»، «أنا غاضب»، ولكن أن نقول: «ألاحظ أني أشعر بالحزن..بالغضب»، وهي بذلك تؤكد على أهمية فصل الشخص ما بين كينونته ومشاعره، أنت لست مجرد مشاعر، عندما تقول أنك حزين، هل هذا يعني أنك أنت بكل مافيك من قناعات، واعتقادات، وتجارب، وخلايا تعانون من الحزن؟! هل تعني أن ١٠٠٪ من كينونتك/وجودك حزين؟ بالطبع، لا. الحزن هو حالة شعورية تمر بها حاليًا، وأنت ككائن بشري أكبر وأعقد وأوسع من حالة شعورية واحدة.

٤- تعامل مع المشاعر على أنها بيانات [٩] [١٠]

هذه من أكثر النصائح التي أحبها في سياق ما تسميه «سوزان ديفيد» بالمرونة العاطفية أو (Emotional Agility) [الترجمة غير دقيقة]، وهي أي نفكك، نحلل، نتفكر، نتأمل، نقلب في هذه المشاعر الصعبة، نحاول أن نفهم ما الذي تريد قوله لنا ثم نعود لنعدل في سلوكنا بناء على هذا الفهم الجديد، عندما تحزن الأم على عدم قضائها وقت كاف مع أبنائها فقد يكون هذا الحزن دلالة على أن قيمة “قضاء وقت ذي جودة نوعية” مهم لها في تلك المرحلة، عندما يشعر شخص ما بالأسى بسبب أدائه في عمله فقد يعني ذلك أن قيمة الإحسان مهمة عنده، أو قد يعني أن قيمة التميز أو الحصول على مكانة معينة هي إحدى احتياجاته النفسية حاليًا، لذلك تقول «سوزان» تعامل مع المشاعر الصعبة على أنها بيانات، تستقي منها معلومات عن نفسك وعما يهمك بدلاً من الفزع منها ومحاولة استبدالها بالمشاعر الإيجابية.

٥- التقبل

هذه الاستراتيجية الأولى التي يدفع إليها علماء النفس، الإقرار، الاعتراف، التقبل. سواء تقبل للمشاعر التي نعيشها، أو للأحداث، أو الحقيقة من حولنا.

عندما أسس الفيلسوف الكِندي لعقلية التعامل مع الحزن في رسالته «في الحيلة لدفع الأحزان»، بدأ قبل كل شيء بالتأكيد على فكرة أساسية تقول: «المصائب في أصل التكوين»، والمقصود بـ “مصيبة” هنا ليس بمعنى “كارثة” بالضرورة، ولكنها جاءت كأحدى معاني الألم، الذي لا ولن ينفك وجوده عن حياتنا الدنيوية. هذا ليس تشاؤمًا وإنما تقبل لحقيقة الحياة والتجربة البشرية، وإدراك مهم يثبتنا في وجه موجة البحث المسعور عن السعادة وتوقعات أن نعيش ببهجة واستمتاع طوال الوقت.

٦- اسمح لنفسك أن ترى التجربة البشرية باختلافاتها واتساعها

إن اخترتَ أن ترى الحياة بعدسة وردية؛ لا تسمح إلا بتواجد الإيجابي، فالله يوفقك ويسدد خطاك. لكن لا تنس أن الناس يخوضون حيوات وتجارب بشرية مختلفة قد لا تمت لعدستك الوردية بصِلة، لذلك عندما يأتي أحدهم إليك، وقد رأى فيك ما جعله يطمأن إلى الإفضاء إليك، حاول أن ترى العالم بعدسته لا بعدستك. في الجدول التالي، بعض الأمثلة على العبارات التي تظهر إحتواءً وتقبل وتعاطف مع الشخص الذي يعبر عن ويمر بمشاعر صعبة، كبديل للعبارات الإيجابية السامة. هذه العبارات من إعداد «جيمي لونج»، عالمة النفس الإكلينيكي، و«سامارا كوينتيرو»، أخصائية علاج علاقات زوجية وأسرية [٤].

عبارات تنم عن إيجابية سامة عبارات تنم عن إحتواء وتقبل
لا تفكر في الموضوع، كن إيجابيًا صف ما تشعر به / حدثني عن هذه المشاعر، أنا أسمعك
لا تقلق، [لا تشيل هم] ، كن سعيدًا أرى أنك متوتر حقًا، أي شيء يمكنني فعله؟
الفشل ليس خيارًا الفشل جزء من عملية النمو/التطور والنجاح
كل شيء سينجح في النهاية هذا صعب حقًا، أنا أفكر فيك [أنا أدعو لك]
نريد مشاعر [فايبز] إيجابية فقط أنا معك في الحلوة والمُّرة/ أنا بجانبك في الرخاء والشدة
إذا أنا استطعت فعلها، فأنت تسطيع
[إذا أنا قدرت، إنت كمان تقدر]
قصة، وقدرات، وحدود كل إنسان تختلف من شخص لآخر، ولا بأس في ذلك
إمحِ السلبية! المعاناة جزء من الحياة، أنت لست وحدك
انظر إلى الجانب المشرق أشعر بك، أنا هنا من أجلك
كان من الممكن أن يكون
الوضع أسوأ
[أعانك الله] يؤسفني / [يزعلني] أنك تمر بظروف صعبة كهذه، كيف أستطيع أن أدعمك؟
(ملاحظة: ربما، ربما – ولا أزعم ذلك – هذه العبارات الإيجابية المذكورة على اليمين قد تفيد أو تحفز في مواضع أخرى، مثلاً مع أشخاص لا يعانون من أو لا يمرون بمشاعر صعبة)

وقفة أخيرة مع بعض البديهيات

سياق المقالة غير معني بالمشاعر المرَضية الناتجة عن حالات خطيرة كالإكتئاب الإكلينيكي وغيره. وإنما بالمشاعر الطبيعية التي تعترينا كبشر.

كما أن هذه المقالة لا تدعو لترك العنان للمشاعر والأفكار الصعبة لتسيطر علينا وتجهض سعينا في الحياة، الحزن طبيعي، لكنه لا يصبح طبيعيًا عندما يصل به الحد لأن يعطلنا عن ممارسة الحياة، أو العمل، أو التواصل مع الآخرين، مشاعر الإحباط واردة، لكن عندما تتحول إلى يأس يجعل أرواحنا تتآكل، فهنالك مشكلة حقيقية.

التطرف بكل أشكاله شر، لذلك الإيجابية المفرطة ما هي إلا الوجه الآخر من السلبية المفرطة (إذا سلمنا بهذه التصنيفات).

في سياق المشاعر في الخطاب القرآني نجد أن بعض الآيات يعلمنا الله تعالى فيها ألا نحزن وألا نقنط من رحمته سبحانه، ويقدم لنا الأسباب التي تجعلنا نؤمن ونرتاح لهذه الطمأَنة، لكنه في آيات أخرى يقص علينا قصص عن حزن الرسول عليه السلام (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)، وحزن سيدنا يعقوب عليه السلام (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)، ويأس أم موسى عليه السلام (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا)، وكأن الله تعالى يقول لنا أن هذه مشاعر طبيعية يمر بها الإنسان، حتى في سنّة الحبيب عليه السلام، هو الذي دعى (اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ) لكنه في موضع آخر يقر: (إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ).

وفي كل ذلك اعتراف بمشروعية وجود هذه المشاعر الصعبة بدلاً من إنكارها..

–انتهى–

مقالات ذات صلة:

ما لا يفيد في الاكتئاب: الشبكات الاجتماعية والاكتئاب للطبيب النفسي همام يحي

المواعظ آخر ما يودّ المكتئب سماعه للطبيب النفسي همام يحي

لماذا لا يُساعدُ التذكير بالله في التخفيف من الاكتئاب؟ للطبيب النفسي همام يحي

٤ حِيَل للتعامل مع الحزن من وجهة نظر الفيلسوف الكِندي

المصادر:

[١] Negative Emotions Are Key to Well-Being; By Tori Rodriguez, 2013

[٢] Hiding Feelings: The Acute Effect of Inhibiting Negative and Positive Emotions, Stanford University and University of California, 1997

[٣] كتاب «عبادة المشاعر»، ميشيل لكروا، ٢٠٠١

[٤] Toxic Positivity: The Dark Side of Positive Vibes: Samara Quintero and Jamie Long, 2019

[٥] 2020 ,What is toxic positivity? The Lighthouse, Macquarie University

[٦] Toxic positivity: ‘Cheer up’ and other wishes that make things worse: Monika Warzecha, 2020

[٧] Are you Defensive Pessimist? Wellesley College

[٨] Can Positive Thinking Be Negative? By Scott O. Lilienfeld, Hal Arkowitz, 2011

[٩] Harvard Business Review: Emotional Agility: By Suzan David and Christina Congleton, 2013

[١٠] What’s toxic about negativity? With Suzan David. Terrible, Thanks for Asking

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!









انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

أهم المــــــقالات

متابعة قراءة

ماذا يعني أن يكون لديك "قصة مهنية"؟ وكيف تساعدك سيرتك الذاتية في روايتها؟

متابعة قراءة

عصرية في إحدى كافياهات جدة

متابعة قراءة
Subscribe
نبّهني عن
guest

1 Comment
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Amal Alhartani

مقال رائع كالعادة! 👏🏼
أضِف إلى ذلك مفهُوم حسن الظن بالله وفكرة “الله أرحم من أن يجعلك حزينًا و…الخ” لابُد نعلم أن الله الّذي خلَق وأوجد هذا الكون وهذه الحياة، أوجد فيها الحزن كما أوجد فيها السعادة، بل جعلها دار ابتلاء وجعل أكثر الناس بلاءً أحبهم إليه؛ الأنبياء! وحدّثنا عنه في مواضع كثيرة في كتابه؛ القرآن.. ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَموالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرينَ﴾ [البقرة: ١٥٥] ..الخ من الآيات.

وكما تفضّلتِ، المهم أن نعرف كيف نتعامل مع مشاعرنا الايجابية والسلبية، فدلّنا عليها.. في الحزن قال اصبروا، في السعادة قال اشكروا، وهكذا يجب أن تكون الحياة الطّيبة بين صبر وشكر.

ويجدر بالذّكر أنه جعل الجنة -أثمن مطلوب- جزاء الصابرين.. قال ﴿وَجَزاهُم بِما صَبَروا جَنَّةً وَحَريرًا﴾ [الإنسان: ١٢] وقال ﴿إِنّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بِما صَبَروا أَنَّهُم هُمُ الفائِزونَ﴾ [المؤمنون: ١١١]

تقبّلنا لهذه الحقائق يجعلنا نتعامل مع مشاعرنا بوعي واطمئنان وهذا -حسب ظنّي- ما يمنحنا الحياة الطّيبة♥️

شكرًا العنود! مقال يستحق القراءة👏🏼🌟