مصدر صورة التدوينة: makingstrategyhappen.com
هناك إيميل ينتظر ردك من عدة أيام لكنك لم ترد بعد، هناك فواتير يجب أن تدفعها لكنك لم تدفعها إلى الآن، يفترض بك أن تجدد تأمين السيارة لكنك تظل تقول: «سأقوم بذلك غدًا»، لديك قائمة طويلة عريضة بالمشتريات لكنك لم تحضر منها أي شيء حتى الآن.
أنا من هؤلاء الأشخاص الذين لديهم جبال لامنتهية من المهام اليومية غير المكتملة، أبدأ في شيء ولا أنهيه، أو أنهيه بعد أن يمل التسويف مني ويتركني وشأني. هذا السلوك المتمثل في عدم إنهاء المهام، أو أن تكون المهام مفتوحة دون نهاية واضحة، توجد به مشكلتان رئيسييتان:
– المشكلة الأولى: أن هذا السلوك دلالة على وجود مشكلة أكبر ألا وهي الهروب من الألم، معظم المهام التي لا نريد أن نتمها هي أمور غير مريحة، تخرجنا من منطقة الراحة، إما لأننا نشعر بالكسل، ومحاربة الكسل يصاحبها ألم بالضرورة، أو أننا لا نريد تحمل مسؤولية ما، وأيضًا هذا يأتي معه ألم. والألم هنا كلمة مطاطة تحتمل معاني وأشكال كثيرة، فقد يكون هذا الألم مجرد شعور بالتعب الجسدي جراء القيام بمهمة ما، أو الاضطرار لترك مشاهدة مسلسل، أو لقاء صديق، أو التعامل مع شخص/موقف لا تريد التعامل معه…إلخ.
في الحقيقة النظر إلى هذا السلوك من هذه الزاوية جعلني أتعامل مع الأمر بجدية أكثر، فأنا لا أريد أن أكون هذا الشخص صاحب المهام غير المكتملة والنهايات المفتوحة، لا أريد أن أكون الشخص الذي يتهرب من الألم بدلاً من أن يواجهه مهما بدا صغيرًا وتافهًا.
– المشكلة الثانية: أن المهام غير المكتلمة ذات النهايات المفتوحة تتحول إلى أشباح تطاردنا طوال اليوم، أعني كم مرة كان لديك أمر مهم كان يفترض أن تتمه في الصباح أو الظهر لكنك لم تفعل، فتجد نفسك طوال اليوم توبخ نفسك مع شيء من تأنيب الضمير: «أوه! لازم أخلص الشغلة الفلانية، للآن ما سويتها»، والأسوأ أنها تظل عالقة في ذهنك، تلاحقك طول اليوم مثل الشبح، فلا أنت أتممتها وتخلصت منها، ولا أنت استطعت أن تنساها وتمحوها من ذهنك، فتظل طوال اليوم مشوش الذهن.
يتطرق الكاتب كال نيوبورت في كتابه «العمل العميق» إلى المهام ذات النهايات المفتوحة وغير المحددة كأحد أهم الأمور التي تجعل ذهن الشخص مشتت، وبالتالي تأثر قدرة الدماغ على أخذ الراحة الكافية للقيام بعمل عميق يستدعي التركيز. وهناك عدة استراتيجيات للتعامل مع هذه المشكلة، من بينها: ١) تدوين قائمة المهام، ٢) الانقطاع.
١) تدوين قائمة المهام: اجمع الأشباح في قفص واحد واحبسهم
الفكرة هنا أنه عندما تقوم بحصر جميع المهام التي يفترض أن تتمها في فترة زمنية معينة في ورقة أو تطبيق ما أمامك، وتضع لكل مهمه موعد نهائي فأنت بذلك تلملم هذه الأفكار المتطايرة كالأشباح من حولك، تضعها نصب عينيك، ترسم حدود واضحة لهذه المهام، وتخبرك عقلك – وضميرك – أنه سيتم التعامل معها في الوقت الفلاني (يجب أن يكون هناك وقت محدد). وبذلك يستطيع أن يركز عقلك على الأمور التي يمكنك أن تنجزها اليوم أو على المدى القريب.
في سياق العمل تحديدًا، وجدتُ أن هذه الاستراتيجية فعالة جدًا عند نهاية وقت الدوام، فبطبيعة الحال ستأتي الساعة الخامسة أو السادسة مساءً وهناك الكثير من الأمور التي لم أنتهي منها بعد، فبدلاً من مغادرة العمل وترك هذه الأمور تطير حول ذهني مثل الأشباح، أصبحت في نهاية وقت الدوام أدون كل المهام غير المكتملة أو التي يجب أن أبدأ بها في اليوم التالي، هكذا أشعر أني وضعت خاتمة محكمة ليوم العمل، يستطيع ذهني بعدها التفرغ لأفكار أخرى ليس لها علاقة بهذه المهام.
ويوصي كال نيوبورت هنا أنه إذا احتجت لوقت أطول لإتمام المهام، إذن زد ساعات العمل، فمثلًا بدلاً من أن تغادر في الساعة الخامسة، أضف ساعة أو ساعتين حسب الحاجة حتى تنتي من الأمور العاجلة التي لا تحتمل التأجيل إلى اليوم التالي، هذا أفضل لذهنك وطاقتك من أن تتوقف عند الساعة الخامسة، ثم تعود إلى المهام غير المنتهية في وقت لاحق في المساء، مثلاً الساعة الثامنة أو بعد وقت العشاء، حتى لو كانت المهام بسيطة مثل تفقد البريد الإلكتروني، أو قيام ببعض اتصالات العمل، أو حتى التفكير في محادثة جرت مع أحد زملاء العمل: ضع نهاية محكمة ليوم العمل، انقطع تمامًا عنه، استئنف في اليوم التالي. قد لا يكون التطبيق بهذه السهولة، لكن نحاول قدر الإمكان.
٢) الانقطاع، أو ما يعرف بالـ «Shut Down».
المقصود بالانقطاع هنا عندما يكون الشخص منخرطًا في عمل/مهمة ما، ثم يقرر أن ينقطع عنها كليًا لفترة معينة، إما أن يتوقف ولا يفعل شيء على الإطلاق، أو أنه يقوم بعمل آخر ذي طبيعة مختلفة تمامًا، مثلاً أن يتوقف عن العمل على تقرير، ويقرر أن يقضي ٢ -٣ ساعات في المطبخ ليعد طبخة ما.
تظهر الكثير من الأبحاث أن ممارسة الانقطاع تقود إلى وظائف ذهنية أفضل، وبالتالي خيارات وأداء أفضل، وأورد من ذلك مسألتين:
- الانقطاع يساعد على استخلاص الأفكار والمرئيات [١]
وجدت إحدى الدراسات التي أجراها عالم النفس الهولندي ديكسترهس (Dijksterhuis) أنه من الأفضل ترك بعض القرارات للعقل الباطن ليفككها، بدلاً من أن يحاول الشخص التفكير فيها مليًا. ففي إحدى التجارب، أعطى الباحثون المشاركين بالبحث معلومات معينة لاتخاذ قرار معقد يتعلق بشراء سيارة، وطُلب من نصف المشاركين أن يفكروا مليًا بالمعلومات ثم يتخذوا أفضل قرار ممكن، بينما تم إلهاء المجموعة الثانية بلعبة قطع البزل (puzzle) بعدما أعطيت لهم المعلومات، ولم تعطى هذه المجموعة الثانية أي وقت للتفكير بقرار شراء السيارة. فكانت النتيجة أن المجموعة الثانية – التي لم تفكر جاهدًا – أحرزت أداء أفضل في صنع القرار.
هذه التجربة وتجارب أخرى مشابهة قادت الباحث ديكسترهس وزملائه إلى طرح نظرية الفكر اللاواعي (Unconcosious Thought Theory: UTT) وهي «محاولة لفهم الدور المختلف الذي يلعبه كلاً من العقل الواعي والباطن في عملية صنع القرار»، وتقتضي النظرية أن القرارات القائمة على تطبيق قواعد محددة وصارمة، تحتاج إلى أن تؤدى من قبل العقل الواعي، مثلاً إذا احتجت أن تقوم بحسبة رياضية، فإنك تحتاج إلى عقلك الواعي القادر على اتباع القواعد بدقة للوصول إلى نتيجة صائبة، بينما القرارات القائمة على معطيات متعددة ومتداخلة ومبهمة وقد تكون بها معلومات متضاربة أو تحد خيارات الشخص، فإن العقل الباطن مهيأ للعمل على هذا النوع من القرارات. لكن هذا لا يعني ألا نفكر نهائيًا عند صنع القرارات! بل بيت القصيد هنا أنه عندما تعطي عقلك الواعي استراحة لفترة زمنية معينة عبر الانقطاع، فإنك تدع المجال لعقلك الباطن بالتدخل والعمل على تفكيك المعلومات المعقدة، بحيث يستطيع عقلك الواعي استخدامها لاحقًا لصنع قرار أفضل.
- الانقطاع يساعد على إعادة شحذ القدرات الذهنية [٢]
في إحدى التجارب، طلب باحثون من المشاركين بالبحث الذهاب إلى مقر إجراء التجربة في الجامعة، لكنهم قسموا المشاركين إلى مجموعتين، كل مجموعة طلب منها أن تسلك طريقًا مختلفًا. طلب من المجموعة الأولى (أ) أن تسلك طريق مليء بالأشجار، محاذٍ للغابة، أما المجموعة الثانية (ب) فطلب منها أن تسلك طريقًا مزدحمًا وسط شوارع المدينة. وحالما وصلت المجموعتان إلى المقر، طلب منهما العمل على مهمة تستدعي جهدًا ذهنيًا، فكانت النتيجة أن المجموعة الأولى كان أداؤها أعلى بنسبة ٢٠٪ مقارنة بالمجموعة الثانية.
وليتم التأكد أن هذه النتائج لم تكن بسبب السمات الشخصية للمشاركين، فقد تم إعادة التجربة في الأسبوع التالي، لكن هذه المرة طلب من المجموعة (أ) أن تتخذ طريق وسط المدينة المزحم، ومجموعة (ب) أن تتخذ طريق الأشجار الهادئ، فكانت النتيجة أن المجموعة (ب) أدت أداء أفضل، بالرغم من أن أدائها كان أسوأ عندما سلكت طريق المدينة في الأسبوع السابق.
هذه التجربة وغيرها تؤكد على ما يدعى بـ نظرية استعادة الانتباه ( Attention Restoration Theory: ART) والتي تقول أن قضاء بعض الوقت في الطبيعة كفيل بأن يحسن قدرة الشخص على التركيز. وتقوم النظرية على فكرة «إجهاد الانتباه»، والتي تعني أن أي عملية تركيز تتطلب إلى انتباه مباشر من الإنسان، إلا أن انتباه الإنسان عبارة عن مصدر محدود، إذا استنزفه كله في فترة زمنية معينة، فسيصعب عليه التركيز فيما بعد.
هذه النظرية تفسر نتائج تجربة طريق وسط المدينة وطريق الأشجار، فالسير في طريق المدينة المزدحم مهمة صعبة تستدعي استخدام انتباه مباشر ومكرس، فالشخص هنا يفكر بالمارة، والسيارات، وتقاطعات الشوارع، والإشارات، وأي الطرق ستكون أسرع…إلخ. وبالتالي عندما يصل إلى الجامعة ويبدأ في العمل على المهمة الذهنية التي أعطيت له، يكون قد استنزف جزءً من انتباهه، وبالتالي قدرته على التركيز تأثرت.
أما الأشخاص الذي سلكوا طريق الأشجار لم يكونوا محاطين بتلك المشتتات والتحديات التي تتطلب بذل انتباه مباشر، وبالتالي استطاعوا أن يحافظوا على قدر أكبر من انتباههم وتركيزهم الذين وظفوه في المهمة الذهنية، فكان اداؤهم أفضل. وبيت القصيد هنا أن الهدف هو قضاء بعض الوقت في بيئة هادئة تقل فيها المشتتات والتحديات بشكل دوري، سواء كانت مكان ما في الطبيعة، أو غرفة منعزلة، أو أيا كان حتى تسمح لذهنك بأخذ استراحة ليعيد بناء مخزون الانتباه لديك.
الانقطاع والمناطق الزرقاء
من المثير للاهتمام أن أهالي المناطق الزرقاء، أي المدن التي يسودها أناس معمّرون – فوق المائة سنة – يتمتعون بعافية جسدية ونفسية وذهنية، يجمعهم سلوك مشترك ألا وهو الانقطاع، فإلى جانب وجود نظام غذائي معين يتبعه هؤلاء الأشخاص، وبجانب وجود علاقات اجتماعية قوية في حياتهم، وجد الباحثون أن أهالي المناطق الزرقاء يقومون يوميًا بإيجاد مساحة للانقطاع؛ الانقطاع عن العمل وعن ضغوطات الحياة بشكل عام، إما يكون ذلك بالمشي/التنزه في الطبيعة، أو بممارسات التأمل المتعددة، أو غيرها من السبل والأنشطة التي تساعد على تفريغ الذهن وتصفيته.
أخيرًا، لا أعتقد أن أحدًا منا لا يريد أن يكون مرتاح البال وصافي الذهن حتى يتسنى له أن يكون حاضرًا بكله في حياته، ومع من يحب، وأثناء عمله على ما يهمه، لذلك من المهم ألا نستسلم للأشباح الذهنية التي تطاردنا طوال اليوم، أيًا كانت الاستراتيجيات – أو حتى التعويذات! – التي نقرر اتباعها.
– انتهى –
المصادر:
[١]، [٢] Deep Work: Rules for Focused Success in a Distracted World, Cal Newport, 2016
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
مقالة رائعة، التقطت مني أحد الأشباح
شكراً
حميل ماخطت يداك دمتي بخير
حبيت المقاله جداً و خاصه اني احد اللي يأجلوا مهامهم اليوميه.. و اعتقد مشكلتي تكمن في انه مو حابه اخرج من منطقه الراحه
نبض قلمك يخاطب الروح المتعبة لقد هرمنا نحتاج الى من يطارد الاشباح وارهقنا الجهد المهدر الانقطاع يوم الجمعه في مكان خالي لمدة ساعة الى ساعتين مع ذاتي ملاذي من تخطف الاشباح
رائعة وواقعية وتلامسنا كثيرا
مقال رائع سلمت يمينك
بالإضافة لقيمة ما تكتبين، المصادر التي تشيرين إليها خلال النصّ دائمًا تقول لي: “أينكِ عن هذا الكنز!”
شكرًا العنود.
قراءة المقال كانت احد هذه الاشباح..
من باب إفادة الجميع، انا في آخر فترة استخدم طريقة جديدة لتخلص من تراكم المهام والتشتت السريع
وهو ان انهي اسخف وابسط المهام والكماليات كي لا افكر بها عندما انجز المهام الضرورية.