بالأمس كنت أقرأ نص لكاتب يتحدث عن الصراعات الداخلية التي يعيشها الكثير من الكتّاب عندما يتعلق الأمر بفهم ما إذا كانوا كتّابًا أم لا. البعض لا يشعر بالثقة الكافية لأن يعرف بنفسه على أنه كاتب، والبعض الآخر لا يعتقد أن ما لديه يخوله لأن يكون كاتبًا، وآخرون لا يعلمون أساسًا ما الذي يجعل الشخص كاتبًا. ومن باب الفضول، طرحت السؤال التالي في تويتر لأرى آراء الناس حول تعريف الكاتب، فكانت الإجابات كالتالي:
وفريق من المغردين أضافوا تعريفات مثرية في التعليقات على التغريدة.
في هذه التدوينة، أريد أن أشاركك، عزيزي القارئ، تعريفي الشخصي للكاتب، ولكن قبل ذلك أريد أن أعلق على التعريفات الشائعة، سواء تلك التي وصلتني عبر تويتر أو تلك التي تعرضت إليها من خلال نقاشات خضتها أو سمعتها أو قرأتها.
لماذا يهمني أن أتحدث عن تعريف الكاتب؟
حقيقة أشعر أن الكتّاب مساكين! قلة من يفهمهم أو يفهم ما يفعلونه، وقلة من تعتبر أن الكتابة مهنة قائمة بذاتها، مثل الطب، الهندسة، التدريس..إلخ. وأظن أن الإشكالية تكمن في أن امتهان الكتابة لا يستلزم تخصص دراسي أو شهادات معينة، وبالتالي قد يصعب اعتبارها أنها “مهنة”، لذلك قد نعتبر مسمى كاتب “لقب” نُنعم به على من تعجبنا كتاباتهم، لكننا لا نراه كمسمى وظيفي استحقه حامله بمجرد انه اتخذ الكتابة كمهنة وزاولها. أعتقد أن هذه الاشكالية تنطبق على امتهان الفنون بشكل عام، لكن أشعر أن الكتابة هي أكثر”بطة سوداء” من بينهم، ربما لأن معظمنا يستطيع الكتابة – لأننا تعلمنا الكتابة في المدرسة – فنشعر بـ «أي أحد يقدر يكتب…يعني عادي ليش مسوي أفلام!»، على عكس مجالات الفنون الثانية مثلا الرسم، الغناء والتي تتطلب مهارات محددة لا يملكها الجميع.
الآن، لنأخذ لفة سريعة حول أكثر ٧ تعريفات شائعة لمهنة الكاتب، أو ما يجعل شخص ما كاتب، وسأشاركك تعريفي في نهاية التدوينة.
١: الكاتب هو من يؤلف/ينشر الكتب
ليست مصادفة أو ترفًا لغوي أن نجد تفريقًا بين كلمتي كاتب (Writer) ومؤلف (Author)، والغالب أن هناك خلط بين الإثنين، هناك تقاطع بالتأكيد، لكن هناك فرق. كل مؤلف كاتب لكن ليس كل كاتب مؤلف. باختصار، هناك عاملان يفرقان بين الكاتب والمؤلف: ١) المحتوى الأصيل والمبتكر: المؤلف هو من يخلق ويوجد مفاهيم/محتوى جديد بشكل متعمق، ومن هنا أتى المسمى “تأليف”، في اللغة العربية تعني تجميع أشياء مختلفة لتشكيل شيء جديد، وفي الإنجليزية أصل الكلمة اللاتيني (auctorem) يعني الإيجاد والتصدّر. أما الكاتب لا يخلق مفاهيم جديدة ومبتكرة بشكل متعمق، ٢) الإصدارات: إصدار كتب أو تقارير خاصة أو أوراق البحثية هو ما يرفع الكاتب إلى درجة المؤلف لأن طبيعة عمل التأليف عادة تستلزم قدر كبير من الجهد والتفكير والبحث بشكل يتجاوز ما يمكن لمقالة أو مقالتين تغطيته.
وبذلك نرى أن الكاتب وإن لم تكن له إصدارات فهو لا يزال يعتبر كاتبًا لكنه ليس مؤلفًا. لكن الجدير بالذكر هنا أن ليس كل كتاب منشور يحتوي بالضرورة على محتوى أصيل ومبتكر، هناك الكثير من الأفكار والكلام المجتر في الكتب المنشورة خاصةً مع ظهور دور النشر التجارية ذات المعايير المنخفضة في قبول المسودات، فإن انتفت الأصالة والابتكار اللذان هما أحد شروط تحقيق معنى “مؤلف”، فعندها لا ينتقل الكاتب إلى درجة المؤلف والله أعلم ( نعم أنا في مزاج إفتاء).
٢: الكاتب هو من ينشر في مجلات/منصات
اتفق مع هذه الفكرة إلى حد ما، لكن مجرد النشر لا يكفي لتحقيق مسمى “كاتب” برأيي، أعني لو نشرت مرة أو مرتان، وإن كانت المجلة/المنصة مرموقة، هل يجعلني هذا “كاتبًا؟
٣: الكاتب هو من يكتب محتوى مثير للإعجاب ويلامس المشاعر
أوف أوف! لدي الكثير من الإشكاليات مع هذا التعريف لأننا كأننا نقول: «إذا كان ما تكتبه يعجبني ويلامسني فأنت كاتب، وإن لم يعجبني ويلامسني فأنت لست بكاتب!» أو كأنني أقول أن ذائقتي ومشاعري الشخصية كقارئة هي ما تحدد ما إذا كنتَ كاتبًا أم لا…(هل أنا الوحيدة التي ترى أن هذا المنطق مجحف 🙂 ؟ )
المثير للاهتمام أنني لم أسمع يومًا في حياتي أحدهم يقول على مصور فوتغرافي مثلاً أنه ليس بمصور لمجرد أن تصويره لم يعجبنا بل نقول: « لا تروحي عند دي المصورة تصويرها مو حلو! روحي عند المصورة فلانة تصويرها فنان!»، وبالتالي رداءة جودة التصوير لم تمنعنا من الاعتراف أن شخص ما مصور، الأمر ذاته مع البائع نقول بائع “شاطر” وبائع “مو شاطر” لكن في جميع الأحوال نعتبره بائع، وقس على ذلك الكثير من المهن، لماذا إذن الأمر يختلف عندما نتحدث عن الكتّاب؟
شخصيًا أميل إلى النظر إلى الكتاب باعتبارهم كتّاب ماهرين، غير ماهرين، محترفين، غير محترفين، مبتدئين، لديهم “نَفَس” مميز أو ليس لديهم، كتّاب “حقيقين”، كتّاب مزيفين…إلخ بناء على جودة ما يكتبون، لكنهم في النهاية كلهم كتّاب..وأتمنى ألا أقع يومًا ما في فخ سلب الناس من هوياتهم المهنية لمجرد أن ما ينتجوه لا يروق لي…
٤: الكاتب هو من يعرف بنفسه على أنه كاتب
اتفق ولا اتفق مع هذه الفكرة. اتفق لأنه من حق أي شخص أن يختار مهنته أو مساره وكيف يعرف بنفسه والهوية التي يريد أن يعرف بها. بل أعتقد من الضروري أن نتشجع ونتجرأ ونعرف عن أنفسنا بالطريقة التي نريد. لكن نقطة اختلافي هي إن لم يصاحب هذا التعريف أو هذه الهوية المختارة ممارسة فعلية فلا قيمة لها. كأن تقول عن نفسك طبّاخ لكنك لا تدخل المطبخ إلا مرة كل سنة كبيسة! (هذه أنا بالمناسبة).
٥: الكاتب هو من يكتب موضوعات معينة تعتبر ثقافية/فكرية/محترمة/مرموقة (مثل موضوعات متعلقة بالشأن العام، وليس خواطر أو تجارب شخصية)
أعتقد أن هذه الفكرة هي بنت خالة الفكرة التي تقول: «الأدب/الروايات كلام فاضي، خلونا نقرأ اقتصاد وسياسة وتاريخ». لا أعتقد أن نوعية الموضوعات تحدد ما إذا كان الشخص كاتبًا أم لا، الكاتب كاتب وإن كان كل ما يكتب عنه هو الـ “كب كيك”.
٦:الكاتب هو من يجعل الكتابة مصدر رزقه
صحيح وغير صحيح في الوقت ذاته، الكاتب لا يعني بالضرورة أن يكون شخصًا متفرغ تمامًا للكتابة – أي يمارسها كدوام كامل، فقد يكون الشخص موظف بدوام كامل ولديه مصدر دخل أساسي (راتب الوظيفة)، ومع ذلك يكتب ويؤلف لأنه يحب ويؤمن بذلك بغض النظر إن جلبت له دخل أم لا… رحم الله القصيبي..
٧: الكاتب هو من يكتب بشكل مستمر
الله أكبر كبيرًا، نعم نعم! هذا التعريف هو الأقرب إلى تعريفي الشخصي، وليس تعريفي أنا فقط لكن أيضًا تعريف العديد من الكتّاب الرواد. الكاتب هو من يكتب وينشر بشكل مستمر. الاستمرارية والنشر مرتبطان. فمثلاً إذا كنت أكتب يوميًا في دفتر مذكراتي الخاص ثم عندما أنتهي أضعه في الدرج هذا لا يجعلني كاتبة من وجهة نظر احترافية، وهو سياق الحديث في هذه التدوينة (لكن ربما يجعلني “كاتبة” على المستوى الشخصي)، بيت القصيد: الكتابة كحرفة ترتبط بالاستمرارية والنشر، ليس بالضرورة في كتب، قد يكون في أي منصة، مجالات، صحف..إلخ. لذلك قد يكون الكاتب مؤلفًا، صحفيًا، مدوّنًا، كاتب سيناريو..إلخ.
شخصيًا أعرّف الكاتب كالآتي:
كل شخص شجاع يعمل على كتابة محتوى وينشره للعالم باستمرار
أقول “شجاع” لأن الاستمرار في عملية الكتابة والنشر تتطلب شجاعة وقوة نفسية. أو كما تقول جي كي رولنيج مؤلفة سلسلة هاري بوتر: «الكتابة ليست مهنة لمن يسهل تثبيطهم».
أقول “يعمل على كتابة” وليس ببساطة يكتب لأن الموضوع ليس مجرد كتابة حروف فحسب، هناك تفكير، تخطيط، بحث، مراجعة، تعامل مع صراعات داخلية…عملية طويلة ومجهدة، لذلك كتابة سطرين أو ثلاثة لا أعتبرها كتابة وإن نشرها صاحبها باستمرار.
أخيرًا، كما ترى، تعريفي براغماتي، يُعرف الكاتب من خلال عملية الكتابة (The Writing Process) ولا أحب التعريفات الرومانسية الصراحة! أعني تلك التي من نوع: الكاتب هو الذي يقول الحقيقة.. ويحرك خلجات النفس، ويخرجك من عالمك الضيق إلى الفضاء المتسع…ويلامس القلب ويثير القريحة! حسنًا، هذا ليس شيء خاص بالكاتب، بل ينطبق على أي فنان بل أي شخص لديه القدرة على فعل ذلك. فهل نستطيع أن نعيد النظر في طريقة تعريفنا لمن يكون الكاتب حقًا؟
–انتهى–
مصدر صورة التدوينة: britannica.com
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
فعلًا، الحرفة، حتى تكون حرفة.. يجب أن تستمرّ!
الاستمرار والثبات المتصاعد، هو ما يحدد كونك محترفًا في هذا الشيء أم لا!؟
..
العنود أنتِ كاتبة رائعة.
شكرا لك لمياء على لطفك
هل أنا وحدي من لديه حساسية مع كلمة ” حسناً ..” عندما تأتي كمقدمة لتعليق أو جواب على سؤال؟
لا أدري إن كان لها أصل في الكتابة العربية أم أنها فقط ترجمة لـ Well ..
لا أعلم الصراحة، كل ما أعلمه أن الكتابة وسيلة للتعبير، شخصيًا أختار أن تكون كتاباتي قريبة من الطريقة التي أتحدث وأفكر بها، لذلك مثلاً كتبت في التدوينة “أوف أوف” أو مثلاً في مقالات أخرى أكتب “همممم”. أيضًا لا أعلم ما الذي تعنيه فكرة “أصل في الكتابة العربية” وكأن هناك مرجع أبدي ثابت يحدد ما الذي يكتب أو لا في العربية..اللغة واستخداماتها تتطور مع الزمن ولا يجب أن تكون جامدة.. مثلاً لا أظن أن كتّاب القرن الـ ١٩ كتبوا بنفس الطريقة التي كتب بها كتّاب القرن الـ ١٣، بالتأكيد ابتدعوا أمورًا جديدة لم تعرفها طريقة الكتابة العربية القديمة…
وبالمناسبة لا أدري إن كانت “هل أنا وحدي من لديه…” لا أصل لها في الكتابة العربية أم أنها فقط ترجمة لـ Am I the only one who.. 🙂
الكتابة هي ابداع الكاتب في خلق مساحة شاسعة عبر كلمات تناسقية لإثراء معرفي، ولفت انتباه القارئ تجاه موضوع او قضية معينة، وكما اشرتي بخصوص الكاتب الجيد، والغير الجيد، فهي اختلاف اذواق ليس اكثر، والاستمرارية في أي مجال هو المحفز الأكبر للتطور، والازدهار، قد يستطيع الجميع ان يكتب ولكن ليس الجميع قادر على ان يُعبر وان يقوم بصياغة كلام يخاطب العقل، او يلامس المشاعر، فلولا وجود الكاتب او المؤلف لأصبحت الكتب خاوية على السطور بلا روح تسكن اليه او جسد ترتمي عليه.
المقال جميل، وموضوع مثير لم أفكر فيه من قبل، أشكرك على توسيع آفاق تفكيري.
أنا لا أكتب بصفة منتظمة لكني أكتب أبتعد عن الكتابة وأعود لها كل مرة، على مدار سنين حياتي لي قصص مكتوبة أغلبها غير مكتمل.
نعم الكثير لا يقدرون فكرة الكتابة ومهنة الكاتب، حتى تعود بأثر مادي ملموس من شهرة أو مال.
لكن علينا أن نقدرها نحن وقد طالت رحلتنا معها، ولكم داوت جراحنا، وشهدت على أحوالنا