يحكي المعالج النفسي إم سكوت بيك قصة أحد مرضاه الذي كان يعاني من مشكلة إدمان الكحول، أنه كان يعزي مشكلة إدمانه لكونه يعيش في جزيرة أوكيناوا النائية، فيقول: «ليس هناك شيء آخر يمكن فعله في المساء في أوكيناوا سوا الشرب».
إم سكوت يسأله: «هل تحب القراءة؟»
«أوه نعم، أحب القراءة بالطبع»
«إذن لماذا لا تقرأ في المساء بدلاً من الشرب؟»
«المكان الذي أعيش في مزعج جدًا وبالتالي غير مناسب للقراءة»
«حسنًا، لماذا إذن لا تذهب إلى المكتب العامة؟»
«المكتبة بعيدة»
«هل المكتبة أبعد من مكان الشرب الذي تذهب له؟»
«حسنًا، أنا لست قارئًا، القراءة ليست من اهتماماتي»
«هل تحب صيد السمك؟»
«بالطبع أحب صيد السمك!»
«إذن لماذا لا تذهب إلى صيد السمك بدلاً من الشرب؟»
«لأني أعمل طوال اليوم»
«ألا تستطيع أن تذهب لصيد السمك في المساء؟»
«لا، لايوجد صيد للسمك في المساء»
«بلى يوجد، أعرف بعض الأندية التي تقوم بذلك، هل تريدني أن أقدمك إليهم؟»
«حسنًا، أنا لا أحب صيد السمك»
«حسنًا، ما أسمعه منك هو أنه هناك أمور أخرى يمكنك القيام بها في أوكيناوا عدا الشرب، بالرغم من ذلك، أكثر شي تحب القيام به في أوكيناوا هو الشرب؟»
«نعم، أظن ذلك»
«ولكن إفراطك في الشرب يسبب لك مشكلة حقيقية، أليس كذلك؟»
«هذه الجزيرة اللعينة تجعل أي شخص يدمن الشرب!»
قد لا تمت مشكلة إدمان الشرب بصلة لسياقنا الظرفي، لكن أعتقد أننا جميعنا عايشنا هذا النمط في التعامل مع المشكلات بشكل أو آخر، سواء كنا نحن من يحاول إلقاء اللوم على العوامل الخارجية ولعب دور الضحية بدلاً من تقبل المسؤولية، أو أن من نحبهم ونكترث لأمرهم مارسوا معنا هذه الدور بالرغم من محاولاتنا العديدة لجعلهم يرون أنهم مخطئون.
الأمر بسيط وبديهي (إلى حد السذاجة!): دون تقبل حقيقة أننا مسؤولون عن مشكلات حياتنا، فإننا لن نستطيع حلها. المدهش في الموضوع أنه بالرغم من بديهية هذه الحقيقة، إلا أنها تبقى إحدى أصعب التحديات التي يواجهها الإنسان.
تحدثت مسبقًا كيف أن الانضباط الذاتي (self discipline) هو أحد الأدوات التي نتعامل بها مع مشكلات الحياة، وقد قسم المعالج وعالم النفس إم سكوت بيك مسألة الانضباط إلى ٤ أمور رئيسة، أولهم كان «تأخير المتعة» (موضوع التدوينة السابقة)، وثانيهم «تقبل المسؤولية» وهو ما ستتناوله هذه التدوينة.
Neuroses vs. Character Disorders
يقسم إم سكوت أنماط تحمل وتقبل المسؤولية إلى ٣ أنواع رئيسة:
- العُصاب (Neuroses)، وهذا يعني أن الأشخاص من أصحاب هذا النمط يتحملون المسؤولية أكثر مما يجب، يلومون أنفسهم على كل خطأ يحدث حولهم، يعتقدون أنهم بسلوكهم أو قراراتهم أو سماتهم الشخصية قد تسببوا في وجود جميع المشكلات في حياتهم أو حتى حياة من حولهم. التعابيير اللفظية التي يتسخدمها هذا الفريق بكثرة هي: “يجب علي”، “ينبغي علي”، “لازم” ” I should”، وهذه اللغة تنطوي على احساس بشيء من الدونية أو النقص، لأنهم يعتقدون أنهم مقصرون على الدوام. وقد قيل أن هذا النوع من الأشخاص عادة ما يجعلون أنفسهم بؤساء.
- الاضطراب الشخصي (Character-disorderd) وهذا عكس النمط السابق، فهنا الأشخاص يعتقدون أنهم دومًا الضحية في كل مشكلة، دائمًا يلقون اللوم على الآخرين، على الظروف، على العالم من حولهم (كما في مثال مدمن الكحول الذي يلوم جزيرة أوكيناوا على إدمانه!)، هؤلاء لا يعترفون بأي مسؤولية تجاه مشكلاتهم، ولغتهم مليئة بمفردات من نوع: “لا أستطيع”، “لا أقدر”، “لم أستطع”، “اضطررت إلى فعل ذلك”، وهي لغة تقترح أن هذا الشخص لا يملك قوة الاختيار، وأن سلوكه يُدار كليًا من قبل العوامل الخارجية بشكل يجعله لا يملك أي سيطرة على حياته. وهذا النوع من الأشخاص عادة يجعلون الآخرين من حولهم بؤساء لا أنفسهم، كما في الفريق الأول.
- أما الفريق الثالث – أقلية – هو الذي لديه القدرة في معظم الأحيان على الفهم والتفريق بين ما يقع ضمن مسؤوليته وما يقع ضمن مسؤولية الآخرين. ويُعتقد بأنهم أقلية لأن مسألة التفريق بين الأمرين من أصعب الأمور في التجربة البشرية بحسب تعبير إم سكوت.
عملية التفريق بين ما نحن مسؤولون عنه حقًا وما يقع خارج نطاق مسؤوليتنا تتطلب إرادة ومقدرة على تحمل المشقة المصاحبة لخوض مساءلة ذاتية (صراحة مع الذات) باستمرار، وهذه الإرادة والمقدرة ليست سلوكًا تلقيائيًا أو فطريًا فينا، كما يشرح إم سكوت، إنما أمر نكتسبه مع خوض الكثير من التجارب التي من شأنها أن تجعلنا ناضجين، وقتها فقط نستطيع أن نرى العالم وموقعنا فيه بطريقة واقعية.
الهروب من الحرية
من وجهة نظر سيكولوجية، معظمنا يتجنب ألم تقبل المسؤولية تجاه مشكلاتنا بين الحين والآخر – سواء كان ذلك ناتجًا عن اختيار واعي أم لا، ببساطة نحن نريد تجنب الألم الناتج عن تباعات تقبل المسؤولية، وهنا تكمن الصعوبة والتحدي.
في كل مرة نتخلى فيها عن المسؤولية تجاه سلوكنا، فإننا بذلك نعطي هذه المسؤولية لشخص آخر، أيًا كان، مديرنا في العمل، الأهل، المجتمع..إلخ. وفي كل مرة نعطي أحدًا هذه المسؤولية وفي كل مرة نلعب فيها دور الضحية، فإننا بذلك نتخلى عن جزء من حريتنا وجزء من قوتنا.
الحرية تحتوي جانبًا مؤلمًا شئنا أم أبينا، لأن الحرية تقتضي أنك تملك خيارًا، وإذا كنت تملك الخيار، فهذا يعني أنك مسؤول عن سلوكك/قراراتك، وبالتالي لا نستغرب عندما يهرب الكثير منا من هذه الحرية.
تقبل المسؤولية جزء لا يتجزء من الانضباط الذاتي الذي يساعدنا على مواجهة وحل مشكلات حياتنا، فأي حياة هانئة نسعى إليها دون تقبل للمسؤولية أو عدم القدرة على التفريق بين ما يجب ولا يجب تحمل مسؤوليته؟
–انتهى–
المرجع:
مصدر الصورة: https://sandratrappen.com/
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
مبدعة كالعادة…. انتظر المقالين القادمين بفارغ الصبر.
تحياتي
برأيي ان النمط الثالث يتحلون بقوة الادارة و مدراء جيدين
طرح جميل شكرا لك
بات السبت يوم تدوينة العنود اختياراتك للمواضيع رائعة كل الحب لك
شكرا لك
شُكراً لك العنود على هذه التدوينة الرائعة.. مُجرد قراءتها أثرت فيني جداً
مقال مثري جدًا. أعتقد أنني كنت بحاجة ماسة له, شكرًا لك على كل حرف تكتبين
دمت بصحة وسعادة
على فكرة دائمًا ما أعيد تلخيص المقالات التي تروق لي, مقالاتك تملئ صفحات دفتري, ممتنة لكبسة الزر الأول التي أخذتني لهذه المدونة.