قبل فترة شاهدت محاضرة بديعة للمؤلف والمفكر السويسري آلان دي بوتون، يتحدث فيها عن *التشاؤم* كطريقة حكيمة لعيش الحياة، لأن الحياة من وجهة نظره هو وفلاسفة عديدين – ما هي إلا سلسلة من الأزمات، والآلام، والاضطرابات العميقة، هذا الأصل فيها، لا السعادة والراحة والهناء.
لكن التشاؤم أو الـ (Pessimism) لا يعني بالضرورة تحجيم قدر الإنجازات أو حتى ترك الحياة بما فيها كما يشرح دي بوتون، بل يعني أن ننطلق دائمًا من فكرة أن الأمور لن تسير على ما يرام. وهو أمر ضروري لأن الحكمة تكمن في أن يخفض الإنسان من سقف توقعاته قدر الإمكان، فهذه أنجع وأضمن طريقة لأن لا تتحول خيبات الأمل إلى قلق يؤدي إلى الفشل.
الهدف من اعتناق التشاؤم، بحسب هذه المدرسة الفلسفية، هو أننا سنكون مستعدين ومتقبلين لأكثر الأمور سوءًا والتي لا تعتبر شيئًا عارضًا أو طارئًا، بل الأصل في هذه الحياة، لذلك تجد فلاسفة المدرسة الرواقية أمثال سينيكا (Seneca) يدعونك لأن تبدأ يومك بتوقع حدوث أسوأ الأمور، فإذا ما حدثت أمور أقل سوءًا ستشعر بالرضا أو ربما حتى بالسعادة!
الجمجمة على طاولة المكتب
من بين النقاط العديدة التي تناولها دي بوتون في محاضرته، هناك نقطة استوقفتني أكثر من سواها، وهي قوله بأنه يجدر بنا وضع جمجمة على مكاتبنا، وهي ممارسة متعارف عليها في العصور الوسطى وحتى بداية عصر الحداثة، حيث كانت تُزيّن طاولات المكاتب بقطع من الجماجم، والغرض من ذلك أن يتذكر الشخص كلما نظر إلى الجمجمة أن هذا ما سيؤل إليه قريبًا. لكن الدعوة هنا، بحسب توضيح دي بوتون، ليست لليأس أو اعتبار أن الحياة عدمية، بقدر ما هي دعوة لتذكر الموت باستمرار بهدف إعادة ترتيب الأولويات والتركيز على ما هو مهم حقًا.
وهذا بالضبط ما يخرج به كل شخص عاش تجربة الاقتراب من الموت (near-death experience)، ستجده في الغالب أعاد النظر في كثير من أمور حياته، بعضها أصبحت أقل أهمية، وبعضها الآخر أكثر أهمية.
شخصيًا لدي تحفظ على مصطلح *تشاؤم* وأُفضّل استخدام ما يُعبر عنه في الموروث العربي الإسلامي بمصطلح «قُصر الأمل»، وهو برأيي تسمية تتفوق على مصطلح التشاؤم – الترجمة الحرفية لكلمة (Pessimism) لسببين رئيسين: ١) أعتقد أن التشاؤم بالمفهوم الغربي قائم على وجود نظرة سوداوية بحتة تقول أن كل شيء سيسير للأسوأ، وهذا برأيي فيه يأس وقنوط من رحمة ولطف الله، ٢) كلمة تشاؤم في الاصطلاح العربي مرتبطة جدًا بفكرة التطيّر وهذا بعيد عن مفهوم الـ Pessimism من المنظور الغربي. لذلك ترجمة تشاؤم غير دقيقة.
مفهوم «قُصر الأمل» كما جاء في الأثر، لا يعني اليأس أو القنوط بل يقتضي درجة من الأمل والتفاؤل لكن على المدى القصير جدًا، وربما أفضل ما يشرح مفهوم قُصر الأمل هو الحديث الشريف الذي يقول «يا عبد الله إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح»[١]، أي لا تتوقع الكثير، وأهم من ذلك، لا تتوقع حتى أن تعيش إلى المساء أو إلى الصباح.
«هي دعوة لتذكر الموت باستمرار بهدف إعادة ترتيب الأولويات والتركيز على ما هو مهم حقًا»
وفقًا لدي بوتون، التفكير في الموت هو جزء أساسي جدًا في أي حياة صحية، وهو يدعو إلى كثرة زيارة الأنقاض في الأماكن التارخية وزيارة القبور، والهدف من ذلك ليس لتذكر الموت فحسب حتى نعيه ونتقبله، بل لأننا نعيش في عصر يضخّم ويقدّس الإنسان وإنجازاته ويجعل منها المحور الذي تدور حياتنا حوله. لذلك من الضروري أن نوازن هذه النزعة باستشعارنا بأننا صغار أمام الأمور أو المفاهيم الكبيرة في الوجود مثل الزمان، والأبدية، والموت. ويذهب دي بوتون إلى أن السبب وراء حبنا لأن ننظر إلى الأرض من نافذة الطائرة مثلاً، أو حبنا لزيارة مساحات الطبيعة الواسعة هي أنها تشعرنا بمدى صغرنا وأن هناك شي أكبر مننا بل ويتجاوزنا، وهذا بدوره يخفف عنا الشعور – أو الهم – المؤلم الناتج عن تقديس الذات والتمحور حولها.
وهذا الموقف من الموت باعتباره «إهانة كبيرة للذات البشرية المقدسة هو أحد سمات الثقافة الغربية الحديثة»[٢] بحسب تعبير الطبيب النفسي إم سكوت بيك. في حين أن الفكرة المحورية في جميع الأديان هي أن الموت -والمعاناة/الألم – هو ما يعطي الحياة معنًا [٣].
جدال مع أستاذة علم النفس
أشعر أننا كمسلمين أصبحنا – أكثر من أي وقت مضى – معتنقين لثقافة “تقديس وتأليه الإنسان” بالرغم من أننا نتاج إرث معرفي قائم بشكل أساسي على محورية الموت والفناء، وهذا أمر مثير للاهتمام للغاية ومدعاة للتأمل. ليس ذلك فحسب، أعتقد أننا نعيش في وقت نرى فيه أن الخطابات القائمة على محورية الموت والفناء تكاد تكون مُحاربة بحجة “عدائها” و”كرهها” للحياة وجمالها…
أتذكر عندما كنت طالبة في الجامعة قبل عدة سنوات، درست مادة علم النفس الاجتماعي (Social Psychology) وبالرغم من أنها كانت إحدى المواد المفضلة لدي، إلا أن مشكلتي الكبرى معها ومع الكثير من العلوم الإنسانية، هى أننا نُسقط/نتبنى نظريتاها “عمياني” دون الأخذ بعين الاعتبار السياق/الإطار المعرفي الذي أفرزها. فمثلاً عند الحديث عن الموت، أتذكر أن الأستاذة المحاضرة أشارت ذات مرة أن أحاديث مثل «أكثروا ذكر هادم اللذات»[٤] من الأفضل أن يمنع تداولها، لأنها من وجهة نظر علم النفس الحديث قد تؤدي إلى إشكاليات نفسية نظرًا للخوف الذي تلقيه في قلب المتلقي، وقد استشهدت بمريضة كانت تتردد على عيادتها، حيث كانت هذه المريضة تعاني من حالة انهيار نفسي بسبب تأثرها بهذا الحديث كما تقول. حدث جدال بيني وبين الأستاذة المحاضرة وقتها لأني أرفض فكرة الهروب من الحقيقة بحجة حماية مشاعرنا. وأعتقد أن محاولات حجب الخطاب أو المفاهيم التي “تُطبّع” (normalize) فكرة الموت ما هي إلا هراء لأنه حقيقة مطلقة شئنا أم أبينا، حتى وإن كان مرعبًا، فالحل لا يكمن في الهروب، بل في المواجه والتقبل، بل واعتناقها والتعايش معها بشكل تام.
صعب؟
أدري.
كيف نتعامل مع الأمر؟
لا أعلم.
«حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير»
مذهل جدًا تعاملنا مع الموت كبشر، هو موجود أمامنا، نصب أعيننا، لكننا لا نراه إلا عندما يأتي لينالنا. أؤمن بدعوة دي بوتون بدوام استحضار فكرة الموت – ليس بالضرورة بوضع جمجمة على طاولاتنا فهذه مبالغة من باب تجسيد الفكرة – وأؤمن قبل ذلك بتبني مفهوم قُصر الأمل كأسلوب حياة، فلقول الحبيب عليه السلام عندما سئل من هم أكيس [أفضل] وأكرم الناس: «أكثرهم ذكرًا للموت وأشدهم استعدادًا له»[٥]، لأن «حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير»[٦] و«لن يتيسر الشيء إلا عند تجدد ذكره في القلب»[٧] بحسب تعبير الإمام الغزالي رحمه الله.
ربما يبدو الموضوع كئيبًا ومثبطًا لكني حقًا أعتقد أن «بقدر ما يقصر الأمل ويتذكر الإنسان الموت يكون عكوفه على القيام بالحقوق أكثر، ويكون اخلاصه في عمله أتم»[٨] وبذلك يكون قُصر الأمل عاملاً فعّالاً في إعمار الدنيا لا أسلوب حياة يحول دون إعمارها..
— انتهى —
ملاحظة: فكرة الموت والجمجمة هي واحدة من الأفكار المثيرة للاهتمام التي تناولها دي بوتون في المحاضرة التي أشرت إليها، لذلك إن كانت لديك ٤٠ دقيقة، أدعوك لمشاهدتها كاملة.
المصادر:
مصدر صورة التدوينة nationalgeographic.com.au
[١] حديث «كن في الدنيا كأنك غريب» أخرجه ابن حبان ورواه البخاري
[٢] [٣] كتاب The Road Less Traveled by M.Scott Peck, 1978
[٤] حديث «أكثروا ذكر هادم اللَّذات: الموت» رواه الترمذي والنَّسائي
[٥] حديث نبوي، أخرجه ابن ماجه بإسناد جيد
[٦] [٧] [٨] كتاب المستخلص في تزكية الأنفس من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، سعيد حوى، ٢٠٠٥
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
رائعة جداً ..حفزتني هذه الفكرة كثيرا
مقال جميل كالعادة .. يعجبني ربطك للأمور بطريقة ساحرة .. نرجو منك الاستمرار دائما
شكرًا لك واثق، كلامك يعني لي الكثير!
اختي العنود
اسلوب راقي في الطرح وفكر نير اتفق معك على الحضور للحقائق يجعلنا اكثر واقعية واكثر فعالية ، الغياب والهروب ما هو الا محاولة خلق عالم مختلف لما خلق الله
تحياتي
اتطلع لقراءة المزيد
شكرًا لك نورا
قال علي – رضي الله عنه -: “إنَّ أَخْوَفَ ما أخاف عليكم: اتّباع الهوى؛ وطول الأمل، فأمَّا اتّباع الهوى فإنه يصدُّ عن الحق، وأمَّا طول الأمل فإنه يُنْسِي الآخرة، ارتحلتِ الدنيا مُدْبِرَة، وارتحلتِ الآخرةُ مُقْبِلَة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليومَ عَمَلٌ ولا حساب، وَغَدًا حسابٌ ولا عَمَلٌ”
يا الله.. لا تعلمين كم كان وقت مقالك ملائمًا
نحن بحاجة لقلمك، جزيتي خيرًا
مقالا رائعا وملهما لهمة النفس ومهذبا للروح
كتابه قلق السعي للمكانة رائع
👍
المقالة هذه يجب أن تقرأ بشكل متكرر!
جزاك الله خير
آلان دي بوتون بالفعل فيلسوف رائع ونادر في عصرنا هذا
شكراً لك جزيلاً على المقال
وقمت بترجمة المحاضرة كاملةً لمن يرغب
https://www.youtube.com/watch?v=nckG05x_34U