«حوالي ٧٠٪ من طالباتي قالوا لي أن أجدادهن اشتغلوا في رعي الغنم»
هكذا بدأ حواري مع هبة جمال حريري، محاضر جامعي بجامعة جدة، والحاصلة على دكتوراه في الارشاد النفسي من جامعة هاورد بواشنطن.
جمعتني صدفة رائعة بهبة الأسبوع الماضي، حيث تواصلَت معي أنا وزميلتي لنقدم ورشة عن كتابة السيرة الذاتية لطالبات علم النفس في جامعة جدة، استغربت في البداية، لماذا طالبات هذا التخصص تحديدًا! لكني اكتشفت لاحقًا أن هناك مادة أو بالأحرى مسار يدعى “علم النفس المهني” والذي يشمل نظريات وممارسات الإرشاد المهني، إضافة إلى فهم سيكولوجية الإدارة والتنظيم وتحليل بيئات العمل وكيفية تأثيرها على الموظفين.
تعرفت من خلال هبة على أداة الجينوغرام (Genogram) وهو تحليل لشجرة العائلة كوسيلة لفهم خلفية وتاريخ الفرد، حتى يتمكن أخصائي الإرشاد النفسي من فهم الحالة النفسية الراهنة لهذا الفرد، لكن الأداة ذاتها تستخدم أيضًا في الإرشاد المهني لفهم العوامل المؤثرة على قراراتنا المهنية.
بالطبع، العائلة ليست العامل الأوحد الذي يؤثر على قرارتنا، هناك عدة عوامل رئيسة كما وضحت هبة:
١) عامل الأسرة
٢) عامل الواقعية (طبيعة سوق العمل والاقتصاد الراهن)
٣) العامل النفسي (الحاجات/الرغبات الأساسية التي لم تشبع)، وتذكر هنا قصة غابو ماتيه (Gabor Maté) كمثال توضيحي في هذا السياق، ولد ماتيه لعائلة يهودية بهانغاريا أثناء حقبة النازيين، وخوفًا عليه من التعرض للقتل، اضطرت والدته لأنه تعطيه لسيدة غريبة تمامًا قابلتها في الشارع وهو ما يزال في عمر الـ ٥ شهور، ولم يرها لمدة شهر كامل، وحتى بعد أن عاد إلى أمه، لم تكن بينهم أي من الروابط القوية التي تجمع بين الأم ورضيعها لأنها كانت تعاني من اكتئاب شديد، يقول ماتيه في مقابلة له، أن الآثار النفسية لهذه الحادثة ما زلت تظهر عليه وهو في عمر الـ ٧٣، لازلت تبعث في نفسه الشعور بالوحدة والفقد وأنه تم التخلي عنه، أضف إلى ذلك، كل الصدمات النفسية التي عاشها في طفولته إبان التطهير العرقي الذي تعرض له اليهود من خلال الهولوكوست، لذلك يقول في موضوع آخر أنه أراد أن يكون طبيبًا أسريًا لأنه يريد أن يشعر بأن الناس تقصده وتحتاج إليه، إضافة إلى أنه أن يحاول من خلال مجاله أن يحمي الآخرين مما تعرض هو له في طفولته، أو يساعدهم على التشافي منه.
٤) عامل الدراسة (التعرض لمجالات مختلفة خصوصًا من خلال المواد العامة التي يدرسها الطالب في الجامعة)
بالرغم من اختلاف العوامل وتداخلها، إلا أن العديد من الباحثين يرون «أن عامل الأسرة هو العامل الأقوى والأكثر تأثيرًا على قرارات الفرد المهنية» [١]. ومن هنا تأتي أهمية أداة الجينوغرام.
لكن ماذا نستفيد عندما نحلل شجرة عائلتنا المهنية أو ما يعرف بـ (Career Genogram) ؟
يؤكد باحثو الإرشاد النفسي أنها وسيلة مهمة لاكتساب معرفة أعمق عن الذات، فمن خلالها يمكنك فهم المؤثرات التي جعلتك تعمل ما تعمل به اليوم، هذه الوسيلة تجعلك تفهم مدى تأثرك بمحيطك الأسري بل توضح لك ديناميكة الأسرة بشكل أفضل.
على سبيل المثال، قد تجد أنك أول جيل يخرج لسوق العمل (خصوصًا عند السيدات)، أو تجد أنك متأثر بمهن عائلتك من فرع الأم ليس الأب أو العكس، قد تجد أن عائلتك يوجد بها تنوع مهني واختلاف كبير على عكس العائلات التي يوجد بها مهنة/مجال سائد، وقد تكون أول من خرج عن هذا المجال السائد، وهنا مدخل جيد لأن تعرف هل اختيارك للمجال الجديد أتى من اهتمام حقيقي في هذا المجال، أم أنه محاولة للهروب من أو التمرد على ما هو سائد في العائلة…
كل هذا التحليل والمعرفة يقود إلى ما تطلق هبة عليه «البصيرة المهنية» أي قدرتك على فهم ما كان له أثر عليك وجعلك تختار ما اخترته اليوم من قرارات مهنية، كما قد يمكنك توظيف هذا الفهم لمعرفة المهنة المناسبة لك أو التي ترغب بها إن لم تشعر أنك وجدتها حتى الآن.
عائلة الأب والمعطف الأبيض
عند تحليل شجرة العائلة المهنية لإحدى الفتيات، تبين أن هذا الفتاة متأثرة جداً بعائلتها من جهة والدها، حيث أن معظم أعمامها وعماتها وأبناء عمومتها أطباء، وبالرغم من أنها درست المسار الأدبي أثناء مرحلة الثانوية، إلا أنها وجدت طريقة لترتدي المعطف الأبيض – مثلهم – من خلال التخصص في علم النفس. والمثير للاهتمام هنا أنه للوهلة الأولى قد يبدو هذا التخصص مغاير لتخصص الطب السائد في العائلة، إلا أنه في جوهره يمثل امتدادًا.
قصة حب الراعي والراعية
ذكرت لي هبة أن ٧٠٪ من أصل ١٤٠ طالبة هم أحفاد مباشرون (أي الجيل الثالث) لأجداد اشتغلوا في رعي الأغنام، تأثير ذلك على اختيارتهن المهنية يختلف باختلاف العوامل التي تؤثر على كل حالة، ونظرًا لطبيعة العصر الراهن وظروفه، ستجد أن بعضهن سيلتحقن بوظائف حديثة بطبيعة الحال، لكن كانت هناك حالة مثيرة للاهتمام، حيث كان كلاً من الجد والجدة راعيان للأغنام، بل وأنهم تعرفا على بعضهما البعض أثناء خروجهم للرعي، و يبدوا أن الحب قد تمكن من القلوب، فقد تزوجا بعد فترة، واستمرا في رعي الأغنام، ومن ثم أتى الجيل الثاني – أبنائهما – وزاولوا نفس المهنة بطريقة تجارية، لكن المدهش – بالنسبة لي – أن الجيل الثالث من الأحفاد أيضًا عملوا في نفس المجال، لكنهم انتهجوا نهجًا مؤسساتيًا تجاريًا حديث، حيث أصبحوا يستوردون لحوم المواشي من أستراليا والبلدان الأخرى. أعتقد – وقد أكون مخطئة هنا – أن ما جعل هذه المهنة تُعزز بل وتتحول إلى شيء أشبة بالهوية على مدى الأجيال المتتالية، هو أن بذرة هذه العائلة نشأت من علاقة الراعي والراعية اللذان جمعتهما علاقة الحب، مما قد يضيف معنى آخر وعميق إلى تعريف مهنة رعي الأغنام في وجدان الجيل الثاني والثالث..
أعلم أنك الآن تفكر في «طيب كيف أحلل شجرة عائلتي المهنية؟!»، إليك توضيح بسيط ومبدئي، لكن من الأفضل أن تبحث بنفسك وتقرأ أكثر عن هذا الموضوع، أو أن تتواصل مع خبير إذا أردت اكتساب معرفة عميقة.
الشجرة
في الجينوغرام، تبدأ الشجرة بالجيل الأول: جدك/جدتك، من جهة والدك ووالدتك، مرورًا بالجيل الثاني: والدتك ووالدك وأشقائهم، وصولاً إلى الجيل الثالث: أنت وأشقائك وأبناء العمومة، ويعبر عن الإناث بالدوائر والذكور بالمربعات، في كل مربع أو دائرة، يذكر اسم الشخص، تاريخ ميلاده (وتاريخ وفاته إن وجد)، تعليمه، مهنته (يمكن أن تكون ربة منزل، أو عاطل عن العمل)، ما إذا كان يحب عمله أم لا. كما أن بعض المرشدين يقترحون وضع علامة (*) عند الأشخاص الذين كان لهم تأثير كبير على اختيارك لمهنتك، وعلامة (+) عند الأشخاص الداعمين لقراراتك المهنية. إليك مثال توضيحي أدناه.
أسئلة تساعدك على تحليل شجرة عائلتك المهنية
أسئلة أولية [٢]
- كيف توصف عائلتك التي نشأت فيها؟
- إذا كنت قد نشأت في عائلة تواجد فيها الأب والأم، فما هي مهنة كلا منهما؟ التعليم أو التدريب الذي تلاقياه؟ مستوى الرضا المهني/الوظيفي؟ أحلامهم التي لم يحققانها؟
- كيف كانا والداك؟ ما هي الصفات التي تستخدمها لوصفهما؟ ما هي طبيعة علاقتهما، مسؤوليات كلا منهما؟
- ما هي وظائف أشقاؤك؟ إلى ماذا يطمح أشقاؤك الصغار؟ أين يعيش أشقاؤك؟ صف نمط حياة كل أحد منهم. هل يعيش أفراد الأسرة بالقرب من بعضهم البعض؟ كيف هي علاقتك بأبناء عمومتك؟ هل هناك تنافس بين أبناء العمومة للحصول على استحسان الجد والجدة؟
- ما هي مهنة جدك وجدتك؟ ماذا يعمل أعمامك وعماتك وخوالك وخالاتك؟
- ما هو دورك في عائلتك (الآن، وأثناء نشأتك)؟
- كيف هي علاقتك بوالدك ووالدتك؟ ما هي تطلعاتهم للوظيفة/المهنية التي يردانك أن تزاولها؟
أسئلة إضافية [٣]
- كيف أثرت عليك عائلتك (سواء سلبًا أو إيجابًا)؟ كيف أثر عليك الآخرين من المرشدين أو الأصدقاء؟
- من الشخص الذي تحاول أن تكون مثله والشخص الذي لا تحاول أن تكون مثله؟
- كيف يمكن أن توظف هذه المعرفة عند البحث عن وظيفة أو عند أخذ قرارات مهنية؟
- هل وجدت ثيمة أو نمط متكرر في شجرة عائلتك المهنية (سواء من ناحية التعليم، الخلفية، الحالة المادية، التوجه السياسي، الالتزام الديني..إلخ)؟
الجينوغرام أدناه لمدوِنة أمريكية تدعى «أرمندينا»، شاركت شجرة عائلتها المهنية وتحليلها لها في إحدى تدويناتها، في حالتها، اقتصرت على ذكر أجدادها ووالديها وإخواتها دون التطرق لمهن الأعمام والخوال.
تقول أرمندينا أنها لطالما شعرت بأنها شخص مُجد في عمله، لكنها الآن وبعد أن حللت شجرة عائلتها، استطاعت أن ترى بوضوح من أين أتت بهذا الجد والاجتهاد، فأجدادها ووالديها اشتغلوا في مهن تتطلب جهد بدني كبير، كالنجارة والعمل في الحظيرة، كما أن والديها جعلوها تساعد في أعمال الحظيرة أثناء نشأتها، كل هذه العوامل جعلتها – كما تقول – تحول طاقة الاجتهاد البدني التي جرت في عائلتها إلى اجتهاد ذهني وعاطفي من خلال عملها كمرشدة نفسية ومعلمة [٤].
إن كنت تشاركنا أنا وأرمندينا وطالبات هبة الرغبة في اكتشاف شجرة عائلتنا المهنية، فسأشد على يدك، هي فعلاً تجربة مثيرة للاهتمام قد تخرج منها بأمور تكتشفها عن نفسك للمرة الأولى، أو ربما قد تكون من الأشخاص الذين اكتسبوا بصيرة مهنية ذاتية من تجارب أخرى فلن تضيف لك الشجرة الكثير. شخصيًا، أنا ممتنة للترتيب الإلهي الذي جمعني بالرائعة هبة حريري، فتعرفي على أداة الجينوغرام مكنتني من فهم الكثير من الأمور عن نفسي، خاصة فيما يتعلق بقراراتي المهنية.
–انتهى–
المصادر
*مصدر صورة التدوينة zicazed.cz
[١]، [٢] Using qualitative career assessments in career counseling with adults, University of Missouri, 2006
[٣] Career Genograms, Virginia Commonwealth University
[٤] Austin’s Counseling Corner, Genogram & Reflection, 2011
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
achat levitra quebec Dedgedeawl https://biracialism.com/ – Cialis speerb Cialis Viagra Holland rexushet Cialis Neimifeges 585 Cipa Canadian Approved Pharmacies