اعتدنا أن نسمع في الأخبار عن أحوال اللاجئين والذين هُجّروا من أوطانهم، لكن أن نشهد رحلاتهم اللامنتهية من خلال قصة أطفال مصورة فهذه تجربة غير مُعتادة وبالتالي تجلب معها العديد من التصورات والمشاعر المختلفة.
درست الرسامة الإيطالية فرانشيسكا سانا تخصص رسومات كتب الأطفال في الجامعة، واختارت قضية اللاجئين والهجرة كموضوع لمشروع تخرجها، فكان النتاج كتاب «الرحلة» الذي ألفته ورسمته ليس فقط استنادًا على اهتمامها بالقضية بل أيضًا على الكثير من البحث والنقاشات مع الأطفال اللاجئين، في هذا المقال سأتحدث عن القصة والمفاهيم، والرسومات، والنص في هذا الكتاب.
القصة والمفاهيم
هي قصة عائلة مكونة من أم وأب وطفلين يعيشون حياة هانئة، لكن في لحظة ما تنقلب حياتهم رأسًا على عقب بسبب الحرب، فتضطر العائلة إلى المغادرة باحثة عن مكان بعيد لا يوجد فيه خوف أو خطر، الجدير بالذكر هو أن المؤلفة لم تحدد بلد أو هوية لهذه العائلة، حتى الشخصيات لا تملك أسماءً، وهذا قرار حكيم لأنها بذلك أكدت على عالمّية القصة والقضية، هذه قصة كل المهاجرين واللاجئين في جميع أنحاء العالم، أيضًا هي قصة تؤكد على أن الذين هُجّروا لم يكونوا يومًا مشردين بل يأتون من حضارات وثقافات غنّية وقائمة بذاتها، هم فقط اضطروا إلى الهجرة بحثًا عن الأمان والحرية، ومفاهيم كهذه مهمة لأنسنة القضية ولاستنبات الرحمة والتعاطف في وجدان الأجيال القادمة تجاه كل المهاجرين واللاجئين بغض النظر عن أعراقهم أو دياناتهم.
بالنسبة لأحداث القصة، هناك ٣ مشاهد رئيسة، المشهد الأول: العائلة في نزهة على الشاطئ حيث يداهمها خطر الحرب فجأة، المشهد الثاني: عندما تقرر الأم الرحيل مع طفليها، والمشهد الثالث (وهو ما يشكل حوالي ٧٠٪ من القصة): هو الرحلة التي تبدأ بالسفر عبر ركوب العديد من السيارات والاختباء في الشاحنات، ومن ثم المسير في الغابات وعبور الحدود، يلي ذلك السفر عبر البحر ومايحتويه من قصص مرعبة بين دفتي أمواجه، وأخيرًا السفر بالقطار، وينتهي الكتاب لكن الرحلة لا تنتهي ولا تصل العائلة إلى بر الأمان.
نعم، القصة تتمحور فقط حول رحلة السفر هذه، وربما الغاية من ذلك هي إيصال فكرة أن رحلات المهاجرين طويلة، لا تنتهي، وما يجعلها طويلة ليس طول المسافات بالضرورة بل كل مشاعر الخوف والقلق من المجهول، ومشاعر الحزن على الفقد، ومشاعر الذل التي تفرضها كل الحواجز.
النص
أكثر ما يميز النص برأي هو أن القصة تُحكى من وجهة نظر الطفلين، وبذلك يعينك النص على رؤية الأمور من وجهة نظر الصغار الذين خاضوا هذه التجربة، مثلاً عندما يقول الطفلين «لكن ماما كانت معنا وهي لا تخاف» إلا أن الرسمة المصاحبة لهذا النص تظهر أن الأم تكاد تموت من شدة الرعب، لكن في ذهن أطفالها هي البطلة القوية التي لا تخاف! أيضًا أعتقد أن اختيار الطفلين ليكونوا رواة القصة ترك للمؤلفة مساحة للمبالغة والتجسيد غير المنطقي والذي سنتطرق إليه في جزئية الرسومات.
في معظم الصفحات، النص لا يتجاوز الخمس كلمات، لكن هذه الكلمات مختارة بعناية فائقة بحيث تستطيع أن تصل بالكثير من المعاني إلى بر الأمان، مثلاً يستشهد الأب في الحرب، فيُعبر عن هذا الحدث ب “وفي أحد الأيام، خطفت الحرب بابا”، وبالبرغم من بساطة الجملة فهي تحمل الكثير من المشاعر ووتتحمل الكثير من التأويلات.
بشكل عام، النص موظف بشكل جيد لينقل شيئين رئيسين، مشاعر الخوف، ومدى طول الرحلة سواءً جغرافيًا أو وجدانيًا، إلا أنني أرى أن النص يحكي فقط ٢٠٪ من القصة، بينما تحكي الرسومات ٨٠٪ منها!
الرسومات
هذا الكتاب هو أحد أكثر كتب الأطفال التي أجد أن رسوماته صُممت بعبقرية متناهية، وسأوضح في النقاط التالية أهم ملامح رسومات فرانشيسكا هنا والمعاني التي تحملها وتتحملها.
الأحجام والأبعاد: أعتقد أن أول ما سيستوقفك عند قراءة الكتاب هو التلاعب بالأحجام والأبعاد التي تبدو أنها غير منطقية، كل شيء يبدو عملاقًا بالنسبة لحجم الأم والطفلين، سور الحدود، حراس الحدود، حتى أوراق الشجر! وفي هذا تصوير رائع لمدى عِظم العقبات في أعين المهاجرين واللاجئين، فلغيرهم قد يبدو حارس الحدود كأي شخص آخر، لكن بالنسبة إليهم هو ذلك العملاق (وربما المتوحش) الذي يسد الطريق أمامهم، أو ربما يعزز هذا التلاعب بالأحجام فكرة أن العقبات فعلاً غير هينة، كرحلة عبور البحار التي يخاطرون فيها بكل ما يملكون، أيضًا قد يكون هذا التباين في الأحجام إشارة لنظرة المهاجرين واللاجئين لأنفسهم، فبالتأكيد مشاعر مثل الخوف والقلق والذل قد تجعل الإنسان يستصغر نفسه أمام كل شيء.
كل شيء حي: من الأمور البديعة التي قامت بها فرانشيسكا هي أنها خلقت من الأفكار المجردة والمخلوقات غير البشرية شخصيات حية ومتفاعلة، لذلك تجد أن الليل مجسد على أنه شخصية، تساعد المهاجرين على عبور الحدود، البحر بما فيه من مخلوقات أيضًا يصبحون شخصيات تعاون وتتابع بترقّب رحلة العائلة.
ربما يعود السبب في ذلك إلى أنها تحكي القصة من وجهة نظر طفلين، وبطبيعة الحال الأطفال لديهم هذه المخيلة التي تجعل من كل الأشياء والجمادات شخصيات حية تغامر معهم في عالمهم الذهني، فتجد مثلاً عندما تقوم الأم بقراءة قصة لهما، تخرج الشخصيات من الكتاب ووتتفاعل مع الطفلين..
الألوان: كما أن الرسومات والأحجام المتباينة تقول الكثير، الألوان تشارك بشغف في النص الغير منطوق، مثلاً عندما تصل العائلة إلى الحدود، ويأمرهم الحارس أن يعودوا من حيث أتوا، يُسجل هذا الحوار على صفحة حمراء، وتأتي هذه الصحفة بلونها المنبّه وكأنها علامة “توقف” أو كأنها إشارة إلى خطر أو منطقة محظورة.
أيضًا في المقطع الذي يشير إلى استشهاد الأب، تتحول الصفحة إلى سواد حالك.
تجسيد الثقافة والمرجعية: كما أشرت سابقًا تؤكد القصة على أن المهاجرين واللاجئين قد أتوا من ثقافات وحضارات قائمة، ولأنهم شُرّدوا بسبب الحرب فهذا لا يجعلهم “مشردين”، ولا يصح التعامل معهم على أنهم ذلك، النص لا يقول أي شيء من هذا، لكن الرسومات تقوم بالمهمة، فمثلاً القصة تُفتتح بمشهد للعائلة وهي تتنزه على الشاطئ، ويظهر العمران الحضاري حولهم، بل والعبقري أن هذا العمران أو المباني المشيدة تتماهى مع قلاع الرمل التي يبنيها الأطفال، وكأن في ذلك رسالة أن هؤلاء والذين ينظر إليهم البعض على أنهم”مشردين” هم في الأساس معمّرين لحضارات، أو مساهمين في بناء أوطانهم.
أيضًا، صورة المكتبة الكبيرة التي كانت لدى العائلة قبل أن تضطر إلى مغادرة منزلها، يعزز فكرة أنهم هؤلاء المهاجرين/اللاجئين قد أتوا من بيئة زاخرة بالمعرفة، وإن منعتهم اللغة من مشاركتها مع سكان البلدان التي هاجروا إليها.
أخيرًا، أن سعيدة بوجود كتاب كهذا في المكتبة العربية فما أحوجنا إلى التراحم والتعاطف مع كل من غُرّبوا عن ديارهم، وما أحوجنا لفهم ما يمكن أن تؤول إليه الأمور…حتى وإن كان هذا الفهم قادم من كتاب أطفال..
شخصيًا، كتبت رسالة حب لفرانشيسكا سانا أعبر فيها عن امتناني لهذه العمل العظيم الذي ابدعته.
إذا كنت تشعر أيضًا أنك تريد أن ترسل لها رسالة حب، يمكنك فعل ذلك من خلال هذه الصفحة
—انتهى—
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
3 ردود على “لماذا يسير المهاجرون إلى المجهول؟ قراءة في كتاب «الرحلة» للرسامة والمؤلفة فرانشيسكا سانا”