ما الرابط بين الغزو العراقي للكويت وهيروشيما وطائر الكركي؟ أعلم أن هذه توليفة غريبة، لكن ماذا لو قلت لك أنها توليفة أفرزت كتاب الأطفال «قصة مربع»؟ في أول مرة قرأت فيها هذا الكتاب، شعرت أن هناك موضوعًا أكبر من رمزية الطموح والمثابرة التي قد تستنبط من قصة مربع يحاول بشتى الطرق أن يتحرر من زواياه الأربع، لذلك بدأت ابحث في خلفية الكاتب وأعماله الأخرى، فدهشت بما وجدت، هل ستصدقني، إن قلت لك أنك ستجد في قصة هذا المربع نفحات أرواح أسرى الحرب، كما ستجدنا أنا وأنت، بل ستجد قصة الإنسان كلها متمثلة في هذا المربع!
دعني أحدثك عن الكتاب من ٣ نواحي: الخلفية، القصة والرمزية، الرسومات.
القصة بدأت من ساداكو ساساكي
خلفية الكتاب
كجزء من متطلبات اتمام الدراسات العليا، قام المؤلف علي الجعفر بدراسة الرواية الشهيرة «ساداكو وطيور الكركي الورقية الألف» للكاتب إلينور كور، تتحدث الرواية عن قصة الفتاة اليابانية ساداكو وصراعها مع مرض اللوكيميا الذي أصابها إثر تعرضها للإشعاعات الناجمة عن سقوط قنبلة هيروشيما، وتحولها إلى أيقونة للسلام والإصرار بعد وفاتها عن عمر يناهز الـ١٥ عام فقط، أثناء مكوث ساداكو بالمستشفى أخبرتها إحدى صديقتها أنها إن تمكنت من طي ١٠٠٠ ورقة مربعة على شكل طائر الكركي (من خلال فن الأوريغامي) ستتحقق لها أمنيتها في الشفاء، وبالرغم من تدهور حالة ساداكو الصحية، فقد قامت جاهدة بالعمل على طي الأوراق دون السماح للآخرين بمساعدتها حتى وصلت للطائر رقم ٦٤٤، ومن ثم فارقت الحياة، قام أصدقاء ساداكو بإكمال مشروع الطي من بعدها، وجمعوا التبرعات التي استخدموها في بناء نصب تذكاري لها بهيروشيما [١].
أنهى علي الجعفر دراساته العليا وحصل على دكتوراه الفلسفة في المناهج وأدب الطفل، لكنه لم ينتهي من قصة ساداكو، أو بالأحرى لم تنتهي هي منه بعد…
بعد توالي أحداث الغزو العراقي للكويت، ظهرت صورة ساداكو وطيورها لعلي من جديد، كيف لا وقد وجد فيها ما يحاكي معاناة دياره ومعاناته الشخصية إثر وفاة زوجته بمرض يشابه ذلك أودى بحياة ساداكو.
ويلخص علي الجعفر في كتابه أدب الأطفال والسياسة أوجه التشابه بين حرب الخليج الثانية ومأساة هيروشيما وقصة ساداكو كالتالي:
١) التشابه الرقمي: هيروشيما حدثت في أغسطس ١٩٤٥، وغزو الكويت حدث بعدها بـ ٤٥ سنة في شهر أغسطس، أيضًا عدد الطيور التي صنعتها ساداكو ٦٠٠ ونيف وهو نفس عدد الأسرى والمفقودين إبان الاحتلال
٢) رمزية الطائر: «بكل ما تنطوي عليه من تداعيات لمفاهيم الاستقلال والحرية، يتضمن مفارقة واضحة لمفاهيم الأسر والقيود» [٢]
٣) حجم المعاناة: تتقاسم اليابان والكويت حجمًا من الدمار الواقع إثر سقوط القنبلة الذرية، فقد الأحبة، والمعاناة المستمرة للضحايا الناجين الذين لا يزالون يعانون من ذكرى “الومضة” القاتلة، ناهيك عن التشابه في الدمار البيئي المخلّف سواء من القنبلة الذرية في هيروشيما أو إحراق آبار النفط في الكويت والتي ظلت مشتعلة لـ ٧ أشهر متتالية
من ساداكو إلى المربع
دعا اهتمام علي الجعفر بقصة ساداكو وطيورها إلى توسعه في البحث في فن الأوريغامي (طي الورق)، ويبدو أن ذلك ما مهد لافتتانه بالمربع! ففي عام ٢٠٠٣ استحدث المؤلف ما سماه بالأوريغامي التخييلي، وهو ما يحدث أثناء عملية الطي من تبدي لأشكال هندسة تفتح الفرصة لأذهاننا لاستدعاء صور لأشياء نعرفها (مثل أماكن، مواد جامدة، مأكولات…إلخ) [٣].
بعد خوض تجربة الطي التخييلي هذا مع العديد من الأطفال في مدارس الكويت، تجلت للمؤلف فكرة «قصة مربع» الفلسفية والذي نشرها في العام ذاته.
القصة والرمزية
في أحد الأيام يستفيق مربع صغير ويشعر بأنه لم يعد قادر على المكوث حبيسًا داخل زواياه الأربعة، تحاول أمه -المربعة الكبيرة- التخفيف عنه باقتراحها لأشكال تقليدية يمكن أن يتخذها المربع، كأن يكون مرآة أو إطار لوحة، لكن المربع الصغير لا تعجبه هذه الاقتراحات لأنها تبقيه حبيس الشكل ذاته، يريد المربع أن يتحرر فيبدأ باستكشاف زواياه وتجريب طرق طي مختلفة، فيقوم مثلاً بطي نفسه من المنتصف ليصبح بابًا، يجرب زاوية أخرى فيصبح نافذة، وكلما جرب الطي من زوايا مختلفة، تحول إلى أشكال مختلفة: قطعة جبن، طائرة ورقية، مظلة، هرم، شراع!
يجد المربع نفسه منخرطًا في التجربة والتحولات فيبدأ التفاؤل بالتسلل إليه، يجتهد أكثر في الطي، لكن أمه تشفق عليه وتحاول أن تثنيه عن خوض التغيير، فتقول له «كفاك، لماذا لا تصبح بلاطًا على الأرض أو بساطًا»، لكن المربع المنهمك في الشقلبة لا يسمعها، وبعد العديد من المحاولات وطي الزوايا يتحول المربع إلى طائر كركي، وقتها فقط يشعر أنه أسقط القيود وتحرر من أسر زواياه الأربعة، فيصبح طائرًا يرفرف بجانحيه بعيدًا..
حسنًا، هنا أود أن أتوقف وأسألك، بالله عليك ألا ترى نفسك في هذا المربع الصغير الذي يسعى إلى التحرر من قيود ما؟ الذي يشعر أنه حبيس نفسه الآنية؟ الذي يشعر أنه لم يخلق ليكون سجين أبعاد تقليدية محددة؟ الذي يؤمن أنه كذات يتجاوز المكان والزمان؟
حقيقة أنا لا أعلم من أين أبدأ في تناول هذه القصة العبقرية فيمكن قراءتها من مستويات عدة، ١) الطموح والمثابرة وبذل الجهد حتى توصل لغايتك، ٢) أن هناك شيء أكبر بكثير مما أنت معتاد عليه، وإن كنت لم تره بعد أو حتى لا يوجد لديك تصور واضح عنه، ٣) رمزية «رحلة البحث عن المعنى»، كلما جرب المربع زوايا جديدة، كلما تجلّت له أمور جديدة، ٤) التوق للحرية جزء لا يتجزأ من تركيبة النفس، لذلك هذا المربع هو ليس فقط كل أسير ومعتقل سجون، بل هو كل شخص منا أسير قيود غير مرئية، ٥) يرمز طي الأوراق إلى فكرة أن الحرية لا تتحقق إلا بالعدالة كما يوضح المؤلف في كتابه أدب الأطفال والسياسة، حيث أنك لا تستطيع أن تصل لشكل طائر الكركي إلا عن طريق «العدالة في الطي»، أي أنك في كل مرة تطوي جهة، لابد وأن تقوم بالأمر ذاته في الجهة المقابلة، ٦) رمزية تجاوز المكان والزمان.
الرسومات
أعتقد أن الرسامة رهف الشيخاني وُفّقت في تصوير روح القصة، فمن جهة، جاءت الرسومات مجردة، من دون حدود، الأشكال تخرج خارج الإطار، وهذا يحاكي المفاهيم المجردة خلف قصة المربع وتحولات التغيير التي يخوضها لتسير به خارج الزمان والمكان.
ومن جهة أخرى أوجدت الرسامة طريقة ذكية لإشراك القراء الصغار بشكل أكبر عن طريق وضع رسوم توضيحية في أسفل كل صفحة -تقريبًا- لكيفية طي الأوراق مُشكلة بذلك نشاطًا يتناسب مع الشكل الذي وصل له المربع في تلك اللحظة.
أخيرًا، «قصة مربع» هو أحد الكتب التي تثبت أن كتب الأطفال ليست مقتصرة على الأطفال! أتذكر أني رأيت هذا الكتاب في مكتبة صديقتي مديحة خياط، وقالت لي حينها أنه الكتاب المفضل لابنها خالد، المفارقة أن خالد عمره ثلاث سنوات وأنا أشارف على دخول الثلاثين، لكن كلانا لامستنا قصة المربع وشغلت حيزًا في وجداننا، كلاً بحسب إدراكه.
لا يهم إن أردت أن تقتني القصة لتقرأها على من هو في عمر خالد أو من هو في عمري، لكن المهم أن تستشعر أن هذا الكتاب بفلسفته ومفاهيمه يلقي التحية على أرواح أسرى الكويت، أسرى العالم، ضحايا الحروب، وقبل ذلك كله، يلقي التحية على ذلك المربع المقيد الذي بداخلك وبداخلي…
يمكن الحصول على نسخة من الكتاب من دار الحدائق أو موقع نيل وفرات
–انتهى–
المصادر
[١] Hiroshima International School – The Story Of Sadako Sasaki
[٢] [٣] كتاب أدب الأطفال والسياسة: التنوع والاختلاف، للكاتب د. علي عاشور الجعفر، ٢٠١٦
….
إن كنت مهتمًا بأدب الطفل، اطلع على المقالات الأخرى: «لماذا تؤلمنا المحبة؟»، «هل تُنقذ الكتب من الموت؟»، «لماذا يسير المهاجرون إلى المجهول؟»، «لماذا لا نزرع ملوخية على صلعة جدي؟»
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
كنّا نحاول أن نقلّد الطيور ، تلك التي عناصرها تفوَّقت على عناصرنا ، ليس في الانتصار على ثقل الجسد وحده ، بل في إلغاء المكان ، والذاكرة ، والوقت .
* وديع سعادة – نص الغياب