هل تعلم ما أول فكرة خطرت ببالي حالما انتهيت من قراءة هذا الكتاب للمرة الأولى؟ «سأشتري هذا الكتاب لكل من هو مقبل على الزواج من أصدقائي!»، لا يهم إن كان الكتاب مكتوبًا للأطفال في سن الثامنة فما فوق، فالمفاهيم التي يعبر عنها الكتاب، يفشل الكثير منا، نحن البالغون، في استيعابها أو الوصول إليها.
حتى الآن اعتقد أني قرأت أكثر من ٧٠ كتاب للأطفال، وبالنسبة لي هذا أحد أكثر كتب الأطفال العربية عمقًا، وقدرةً على بعثرة المشاعر ومن ثم ترتيبها، على الأقل من وجهة نظري كبالغة، وسأتحدث هنا عن الكتاب من ٣ زوايا: القصة والمافهيم، والنص، والرسومات.
القصة والمفاهيم
أسفل الشجرة أعلى التلة تحكي قصة مُهرة وسلحفاة، تتشاركان حب الغناء، ومع الوقت تربطهما علاقة محبة، إلا أنهما تصطدمان بالواقع الذي تفرضه عليهما اختلافاتهما، فالمُهرة منطلقة؛ تحب الركض في التلال واكتشاف الأماكن، أما السلحفاة فتحب الجلوس في مكانها الذي لا تغيره، لتتأمل في جمال جميع ما حولها. وفي يوم ما يطبق الحزن على قلوبهما لأنهما ظنا أنه من المستحيل أن تجمعهما المحبة بسبب اختلافاتهما، لكن في لحظة تجلي تتوصلان إلى حل يجعل من العلاقة ممكنة ومستمرة، هذه قصة عن المحبة، وعن الألم المصاحب لها، وعن فهمنا لكُنه علاقاتنا مع من نحب في ظل فهمنا لذواتنا.
عندما قرأت الكتاب للمرة الأولى (أظنني قرأته أكثر من ١٠ مرات) فاجئني وجود سؤال «لماذا تؤلمنا المحبة؟»، أظن أني ارتبكت لأني لم أتوقع رؤية سؤال كهذا مطروح في كتاب أطفال، الكتاب جعلني استحضر الكثير من العلاقات سواء الزوجية، أو الأسرية، أو الصداقات، والتي أعلم أنها بُنيت على محبة صادقة لكنها انهارت أو تكاد أن تنهار بسبب أن الأطراف لم تستطع أن ترى إلا الاختلافات وبالتالي الخلافات. أيضًا ذكرتني القصة بنزعتنا إلى “تملّك” من نحب وابتزازه عاطفيًا ليكون على الهيئة التي ترضينا، أو لجوءنا إلى التخلي عن أكثر الأشياء التي تبعث فينا الحياة وتشكّل جزء جوهري في ذواتنا في سبيل من نحب، ظانين بذلك أن “تذويب” الاختلافات هو السبيل إلى النجاة!
هذه القصة خُلقت لتقول أن المحبة ليست «أمرًا تمنع حدوثه، إنها أمر يحارب من أجله».
النص
حسنًا لنبدأ من عنوان القصة، برأيي العنوان عبقري جدًا، فبالرغم من اقتصاره على ٤ كلمات، ويبدو أنه يشير فقط إلى مكان ما، إلا أن هذه الأربعة كلمات كانت كافية لأن تحكي القصة كاملة! «أسفل الشجرة» مكان أو وجود قائم بذاته، و«أعلى التلة» مكان ووجود آخر، للوهلة الأولى يبدوان مكانين مختلفين لكن في الحقيقة المكان أسفل الشجرة هو ذات المكان أعلى التلة، وهذه هي قصة المهرة والسلحفاة المختلفتان بطبيعتهما، ومع ذلك إلتقتا في حب الغناء، وهو الشيء الذي وحّدهما أو المكان الذي جمعهما.
بالنسبة للنص، فالبرغم من وضوحه إلا أنه يترك مساحات للقارئ، خصوصًا الصغير، تستثير المخيلة وتقبل التأويلات المختلفة، مثلاً عندما تتحدث الكاتبة عن المُهرة قائلة: «كانت المهرة متشوقة دائمًا للذهاب بعيدًا، لكي تكتشف ما يوجد هناك خلف خط الأفق» أو تقول عن السلحفاة «تعتقد بأن هناك دائمًا أشياء جديدة تحدث أمام عينيها، وأن كل ما عليها فعله هو أن تحسن النظر»، أعتقد أن هذه الجمل تفتح باب نقاش جيد مع الأطفال، ومع الذات قبل ذلك، أيضًا لا يخلو النص من استخدام بعض المصطلحات التي قد يصعب على القرّاء الصغار فهمها، مثل «أسى»، و«جامحة»، و«صفصاف»، إلا أن هذه دلالة على جودة النص الممتازة، لأن نصوص كتب الأطفال لابد أن يكون فيها بعض التحدي، لأن ذلك يجعل الأطفال منخرطين في النص أكثر.
بالرغم من أن النص مُبسط إلا أنه قادر على إيصال الكثير من المشاعر والحالات، فمثلاً عندما تقرر المهرة أن تركض للمرة الأولى بعد انقطاع، هي لم تركض ركضًا عاديًا بل «كانت حوافرها تضرب الأرض بقوة وقلبها يضرب بشدة وهي تعدو سريعًا، باتجاه خط الأفق، ركضت المهرة طوال سبعة أيام»، هذا التصوير يجعل القارئ يستشعر مدى اشتياق المهرة للركض، وكأنها في حالة إنتشاء ناتجة عن عودتها إلى أكثر الأمور التي تجد فيها نفسها وهو الركض، والذي توقفت عنه أثناء مرافقتها للسلحفاة تحت الشجرة.
أما كلمة “القلب” فقد تربعت على عرش النص، حيث تكرر استخدامها لوصف الألم الذي يطوّق القلوب، فتقول الكاتبة عنه حينًا أنه «امتلأ بالأسى»، وتارةً «اطبق عليه اليأس»، نعم ستتفاجئ بأن النص يحمل الكثير من المشاعر الصعبة، غير المريحة، والتي لا نريد التعامل معها عادةً، وقد لا يحبذ البعض تعريض الأطفال لهكذا نص محزن، لكن من وجهتي نظري هذا مهم لأنها الحقيقة، فالحياة ليست أرانب وكلاب “كيوت” وسعادة ومرح مستمر كما تصور بعض كتب الأطفال، شخصيًا، أحيانًا أعتقد أن الأطفال يريدون الحقيقة أكثر مما نريدها نحن الذين لا نمانع خداع أنفسنا لنخدر المشاعر والأفكار التي لا نستيطع التعامل معها بشجاعة.
أيضًا من الأمور العبقرية التي وجدتها في النص تطابق في وصف أحاسيس المهرة والسلحفاة تطابقًا لغويًا حرفيًا، مثلاً، تروي الكاتبة: «أحست السلحفاة بوحدة شديدة،..وامتلأ قلبها بالأسى»” وفي الصفحة التالية تقول عن المهرة: «تشعر بوحدة شديدة،..وامتلأ قلبها بالأسى» هذا التطابق الحرفي يعزز فكرة أن الإثنان يمران بنفس الحالة، ونفس المشاعر، بالرغم من أن كلًا منهما منعزل في عالمه ويظن، في بادئ الأمر، أنه هو فقط من يعيش هذا الألم، إلهي! كم هو صادق هذا التصوير، أعني كم مرة كنا في خلاف مع أشخاص مقربين، ونكون غاضبون، أو حزينون، ونشعر أننا وحدنا الذين نعاني، لكن في الحقيقة الشخص الآخر يشعر بالشيء ذاته..
أخيرًا، لا أستطيع تجاهل الحكمة التي يفيض بها النص، لكن هذه الحكمة مروية بحكمة، أعني أنها لا تباغت القارئ بعشوائية وسذاجة كما تفعل بعض قصص الأطفال بشكل مبتذل، الحكمة تأتي بعدما ما تبني الكاتبة عقدة القصة جيدًا، وتجهز تدريجيًا لها لتأتي في اللحظة المناسبة، كما في صفحة ٢٠ مثلاً الموضحة أدناه:
الرسومات
حسنًا سأعترف قبل كل شيء أني من أشد المعجبين بأعمال الرسامة/المصورة (illustrator) ليال إدريس، وأعتقد أن نفَسها الفنّي مناسب تمامًا لإيقاع هذه القصة، لكن لدي بعض التحفظ على الرسومات سأشير إليه في النهاية؛ سأبدء بالأمور التي أحببتها.
أولاً، لأن القصة مليئة بالمشاعر الفياضة، وبحب الغناء، وبالألحان، وبالحياة، ناسبها جدًا رسومات ليال التي لا تستخدم الحدود الدقيقة، فتجد أن هيئة الشخصيات، والألوان تخرج خارج الحدود المرسومة، تدفق إلى الخارج، تمامًا كما تتدفق المشاعر من النص، أيضًا استخدام الألوان المائية هنا يتماشى بشكل رائع مع روح التدفق هذه.
ثانيًا، في المرة الثالثة التي قرأت فيها الكتاب، انتبهت أن الجو العام/الخلفية تتغير مع القصة، ففي بداية القصة عندما تكون المهرة تركض بسعادة، والسلحفاة تتأمل في مكانها بسعادة، وكلاهما يغنيان ببهجة، يكون الجو/الخلفية ربيعًا ملئ بالخضرة والأزهار، لكن حالما يبدأن بالدخول في المشكلة، تبدأ ألوان الرسومات تتغير لتصبح بألوان الخريف، وفي أوج المشكلة وفي قمة حزنهما يتحول جو الرسومات إلى الليل المظلم، وما أن تنفرج المشكلة ويجدان الحل، يعود الجو إلى الربيع المتوهج بأشجاره ووروده المزهرة.
وفي الأوقات التي تغني فيها كل من المهرة أو السلحفاة، تجد مقاطع من أغنية «أعطني الناي وغنّي» تُطَعِّم الخلفية بهدوء وتتداخل مع الرسومات بشكل لا يقطع على النص الأصلي حديثه.
لكن الأمر الوحيد الذي لم يعجبني هو أن الرسومات وألوانها ذات طابع أنثوي طاغي، مثلاً اللون الزهري مستخدم بكثرة، ومشكلتي مع هذا الطابع الأنثوي أنه قد لا يكون جاذب للقراء الصبيان خصوصًا وأن الفئة العمرية المستهدفة هي السن التي يكون فيها الصبيان جدًا منجذبين لكل ما يبدو ذو طابع ذكوري، كنت أتمنى أن الرسومات، والألوان، والطابع بشكل عام يكون محايد أكثر حتى يكون جاذب للجنسين، وحتى لا يقع في تصنيف « أوه شكله كتاب بنات!»، فأنا حقًا أتمنى أن هذه المفاهيم تزرع في وجدان كلا الجنسين منذ الصغر لا في وجدان فريق واحد منهم فقط..
في النهاية، قد لا تجد جوابًا صريح وواضح لسؤال «لماذا تؤلمنا المحبة؟» لكنك بالتأكيد ستجد ما هو جدير بالتأمل في هذا الكتاب، ولعل كتاب “الأطفال” هذا يقربك خطوة، أو حتى خطوات، من الوصول إلى إجابتك الخاصة بك.
أخيرًا، لأن هذا العمل بديع، فأنا أشعر أني شخصيًا ممتنة لكل من كان خلفه وعلى رأسهم:
- بثينة العيسى، الكاتبة
- أروى خمّيس، الناشرة
- ليال إدريس، الرسامة
—انتهى—
هل قرأت أيضًا «لماذا لا نزرع الملوخية على صلعة جدي؟»؟
انضم إلى قائمة القرّاء حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
4 ردود على “لماذا تؤلمنا المحبة؟ قراءة في كتاب «أسفل الشجرة أعلى التلة» للكاتبة بثينة العيسى”