سأحاول ألا أكون درامية، لكن هل أنا الوحيدة التي ترى في لحظة افتراقنا عن السرير مأساة تشابه افتراق الطفل عن أمه؟ أو المنفِيّ عن وطنه؟ هل قلت لن أكون درامية؟ حسنًا أتراجع عن قولي! فالعلاقة التي تربطنا بالأسِرّة علاقة معقدة قد تجعلنا مستعدين للتضحية بأي شيء في سبيل لحظات إضافية من النوم الهانئ.
لطالما فتنتي فكرة الاستيقاظ قبل شروق الشمس، كيف لا وهي مرتبطة بفكرة البركة والنجاح والعافية ونمط حياة أفضل بشكل عام، وزاد هذا الافتتان عندما قضيت عدة أيام في الجبل الأخضر في عُمان، كنت استقيظ فيها عند الخامسة صباحًا يوميًا حتى لا أفوت مشهد طلوع الشمس من خلف الجبل.
قررت تبني هذه العادة، وكانت النتيجة سلسلة طويلة من المحاولات الفاشلة…قبل أن أنجح أخيرًا في تحويلها إلى نمط حياتيّ، لذلك في هذا المقال أشارك تجربتي لمن هو مهتم ويريد تجربة هذا النمط.
بدايةً أعتقد أننا متفقين أن الاستيقاظ في هذا الوقت المبكر هو أمر…مؤلم! وقد يبدو ضربًا من الجنون للكثير منا فلماذا يختار الإنسان أن يترك الفراش المريح الدافئ ويبدأ يومه في الخامسة أو الرابعة والنصف فجرًا!؟ وأنا أتحدث هنا عن أولائك الذين يختارون هذه العادة لا لأنهم مجبورين بحكم طبيعة أعمالهم.
بالرغم من أني في الأساس كائن صباحي أي استقيظ عادة ما بين الساعة ٧:٤٥ – ٨:٣٠ حتى في أيام نهاية عطلة الأسبوع والإجازات، إلا أن بدأ يومي من الخامسة صباحًا لم يكن سهلاً.
لكن لماذا أردت فعلاً أن أبدأ يومي في هذا الوقت المبكر؟ أؤمن أن الفجر توقيت كوني عظيم، فيه أوج حالة التجدد، الحياة، الانتقال من السبات إلى الحركة، الخروج من شيء قديم إلى شيء جديد، ولذلك سُمي بالفجر، فالجذر اللغوي للكلمة معناه انشقاق مع ظهور شي مختلف عن طبيعة ما يسبقه، لا أعتقد أن هذه المعاني ارتبطت بهذا التوقيت صدفة أو عبثًا وهي فعلاً تستحق التأمل، لذلك أردتُ ليومي أن يبدأ في هذا التوقيت بالذات.
قد تتسآءل هنا، “حسنًا وهل قادكِ هذا إلى أي نتيجة؟” تريد الصراحة؟…كان هذا أحد أفضل القرارات التي اتخذتها في حياتي، باختصار لدي الكثير من الأمور التي لطالما أردت أن أقوم بها مثل تعلم مهارات جديدة، أو تطوير مهارات حالية أو البحث في معارف جديدة…إلخ، وفّر لي هذا النمط الصباحي مساحة إضافية مباركة مكنتني من إنجاز الكثير، بما في ذلك وقت أكثر لفعل “اللاشيء” وهو مهم لترك مساحة للتفكر والاستلهام! زيادة الإنتاجية لم تكن غايتي، لكنها كانت كما يقال «byproduct» (في هذا المقال وضحت كيف ساهمت هذه العادة في تعلمي لللغة الأسبانية في شهر ١ فقط)، عدا ذلك أعتقد أن الاستيقاظ المبكر له بُعد نفسي عميق، فمجرد فكرة “لدي الكثير من الوقت الآن” تجعلني أبدأ يومي برويّة وصفاء ذهني على عكس الاستيقاظ في وقت متأخر والذي يجعلني أفكر “SHIT! الوقت يداهمني”! فأبدأ يومي وأنا في سباق مع الزمن، أحاول أن أنجز أموري على عجل يصاحبه عادةً شيء من التوتر، خصوصًا وأني جربت لسنوات عديدة العمل لأوقات متأخرة من الليل وهو تمامًا ما لا أريد تكراره.
ربما تقول في نفسك الآن “طيب يا عنود أعطينا الزبدة! كيف نقدر نصحى بدري!”، لذا سأشارك خلاصة تجربة حوالي ٤٠ يوم من هذا النمط الصباحي في الاقتراحات ال ٧ التالية:
١) قسّم وفصّل
الكثير ممن تحدثوا في هذا الموضوع عادة ما ينصحون بأن تضع قائمة مهام لما تريد اتمامه عندما تستيقظ باكرًا، بالطبع جربت هذه النصيحة مرات عديدة وكانت النتيجة كالتالي
التجربة باءت بالفشل لأنني كلما استقيظت واسترجعت قائمة المهام التي وضعتها، أقول لنفسي “لا بأس أستطيع القيام بكل هذه الأمور عندما استقيظ في الثامنة” وأعود إلى حبيب القلب…فراشي الدافىء، لكن بعد فترة جربت ألا أضع قائمة مهام فقط بل جدول زمني مُفصّل يوضح ما أريد فعله منذ أن أفتح عيناي، مثلاً: “من الساعة ال ٥ حتى ٥:٣٠ سأقوم بالاستحمام وتحضير الشاي، من ٥:٣٠ – ٦:٠٠ سأقوم بمراجعة درسي، من ٦:٠٠ إلى ٦:١٠ صلاة الفجر” وهكذا، عندما فعلت ذلك تمكنت من الاستيقاظ في تمام الخامسة لأني أعلم أنني إن تأخرت في أمر، سيتأخر كل الجدول، بالطبع لا ألتزم بهذا الجدول ١٠٠٪ ولا حتى ٧٠٪ ! لكنه يساعدني على إيجاد نوع من الروتين يمكنني من الالتزام بالاستيقاظ المبكر.
٢) لا تتقلّب على جمر الغضى!
إذا قررت خوض هذه التجربة فعلى الأرجح أنك ستقوم في بادئ الأمر بإعادة ضبط المنبه كل ١٠ دقائق لتحصل على وقت إضافي للنوم، المشكلة أنك غالبًا لن تهنئ بنوم جيد بل ستكون تجسيد واقعي لأغنية محمد عبده “أتقلّب على جمر الغضى، أتقّلب، أتقلب“، شخصيًا، لأضع حد لهذا التقلّب المزري في الفراش وضعت المنبه في أبعد نقطة ممكنة في الغرفة، بجانب باب الحمّام، لذلك عندما أنهض لإقفال المنبه أجد أني استثمرت “جهدًا كبير” في قطع كل هذه المسافة فلا أعود ثانية إلى المخدة، أيضًا النوم المبكر ليلاً يساعد، اتفهم أننا مجتمع ليلي، نميل إلى السهر، لكن مع الوقت يستطيع الجسم إعادة ضبط نفسه، فتجد نفسك تستيقظ بشكل أسهل في الفجر عادة بعد أسبوع من اتباع هذا النمط، فقط عليك أن تستمر في المحاولة.
٣) اترك بركة الأحلام واقفز في بركة الماء
هناك سر عجيب في الماء، هو فعلا يبث الحياة في أي شيء يلامسه بما في ذلك الزومبي المناضل الذي يحاول الاستيقاظ في الساعة الخامسة، هناك أمران يمكنك فعلها بالماء: (١) جهّز كوب ماء من الليلة السابقة وضعها بجانبك أو بجانب المنبه واشربها فور استيقاظك، (٢) توضأ أو استحم، غالبًا ما ستشعر بالنشاط فورًا.
٤) تبنى طقوسًا وشعائر
هل تعلم ما أول ما أقوم به عندما استقيظ كل يوم؟ أذهب مباشرة إلى المطبخ وأبدأ بتحضير الشاي العدني أو ما أدعوه بالشراب المقدّس، أضع القدر على النار، أضيف قليلاً من الماء، انتقي ٨ حبات من الهيل وأدقها برفق بيد الهوَند النحاسي الذي تمتلكه أمي منذ أكثر من ٤٠ عامًا، أنتقي ٦ حبات قرنفل وأضيفها مع الهيل إلى الماء، أضيف إليهم الزنجبيل والشاي، وأخيرًا أقوم بإضافة مُحلّي طبيعي وحليب اللوز الذي أعده بكل حب في المنزل، أعود إلى غرفتي التي مازالت باردة من أثر التكييف، معي إبريق الشراب المقدس وكوبي المفضل، افتح النافذة، الشمس لم تستيقظ بعد، افتح أبجورة المكتب لتختفي العتمة، اجلس على مكتبي، اسكب الشاي بكل خشوع، رائحة القرنفل والهيل والزنجبيل تملأ المكان، أمسك الكوب بكلتا يداي استنجادًا لبعض التدفئة، أقربه مني لكن لا أشربه مباشرة، تباغتني ابتسامة مفاجئة تتحول أحيانا إلى ضحكة! فأنا على الدوام اتعجب كيف أن هذه اللحظة، لحظة التحامي بكوب الشاي العدني وأنا أراقب لون السماء يتغير أمامي، تجعلني أشعر بسعادة ورضا وامتنان لا يمكن وصفهم…أنا لا أبالغ إن قلت أن أحد الأسباب التي تدفعني للاستقياظ في الخامسة يوميًا هو تكرار عيش هذه اللحظة الساحرة.
٥) هيء المكان
إن لم يكن أحدًا يشاركك السرير، رتبه أرجوك حالما تستيقظ فبذلك أنت تخبر عقلك بأنك لن تعود ثانية، خصوصًا إذا أردت أن تؤدي مهامك في الغرفة ذاتها، صدقني أنت لا تريد أن تنظر إلى الفراش الغير مرتب فتستعيد ذكريات النوم الجميلة وتستسلم لغوايته، أيضا هناك خدعة أخرى مفيدة تعلمتها من أحدهم، وهي أن تهيء مكان العمل من الليلة السابقة، حتى تجد المكان جاهزًا وكل ما تحتاج إليه في انتظارك لتبدأ مباشرة، أيضا لا تنسى فتح الأنوار، فتح النوافذ لدخول نور الشمس، البقاء في جو مظلم سيخبر عقلك أن الوقت لايزال وقت نوم.
٦) حاول ألا تتناول الفطور مبكرًا (عذرًا! هل أثرت حفيظة معدتك العزيزة؟)
حسنًا أعلم أن هذا الموضوع حساس، وقد تفوق حساسيته حساسية التحدث عن السياسة والدين و”الزواج”، لكن آخر ما نريده أنا وأنت أن ننتصر على النوم، ثم نأكل وجبة تشعرنا بالخمول والنعاس وتعيدنا إلى المربع الأول! إذا أردت أن تفطر، اقترح أن تأكل شيء خفيف، مثلاً حبات تمر وحفنة مكسرات نيئة أو استكشف ماهو الأنسب لجسمك، شخصيًا ألغيت وجبة الفطور المبكر من حياتي منذ أكثر من سنة، لأنني أكتشفت أنني أكون أكثر نشاطًا وتركيزًا عندما لا أتناول الفطور، في البداية لم يكن الأمر سهلاً، كنت أشعر بهبوط وانخفاض في الطاقة، لكن بعد أسبوع بدأت الأمور تتغير، أختار ألا أتناول الطعام قبل الساعة ١١ صباحًا، وفي الأيام التي احتاج فيها تركيز وصفاء ذهني عالي أختار أن أصوم، أنا مؤمنة أن قلة الطعام تمد الجسم بطاقة هائلة (على عكس الخُرافات التي نشأنا عليها) بشرط أن يكون الطعام الذي نتناوله “حقيقي” وغير مؤذي حتى يمدنا بطاقة حقيقية تستمر لساعات طويلة، لا طاقة كاذبة ومؤقتة كتلك التي تمدنا بها القهوة والوجبات المليئة بالسكر.
٧) خذ أو لا تأخذ قيلولة (الأمر يعود إليك)
الكثير من الدراسات تنصح بأخذ قيلولة خلال اليوم، خاصة وقت الظهيرة، شخصيًا لا أقوم بذلك بالرغم من أني أعمل من المنزل، ولدي حرية التحكم بجدولي، في البداية كنت كثيرًا ما أشعر بالتعب أو النعاس ما أن تصبح الساعة ١١ صباحًا، في هذه الحالة أستلقي على الكنبة/السرير ١٥-٢٠ دقيقة، فقط لاسترخي، ثم أجدني استعدت نشاطي مجددًا.
وأخيرًا، أظن أن علي أن أختم ببعض البديهيات:
- هذا النمط الصباحي ليس للجميع، وأؤكد أنه ليس بوصفة أوصي الكل باتباعها لأن لكل شخص معطياته الخاصة به، غايتي فقط أن يلهمك هذا المقال لتجرب وتكتشف ما قد يناسبك أنت
- كأي شيء في الحياة، البداية صعبة، لكنه يصبح أمر تلقائي مع الاستمرار، حتى وإن استقيظت في الأيام الأولى وبقيت في السرير دون أن تفعل شيئًا، فهذا أمر رائع! مع الوقت ستأتي الخطوة الثانية وتنهض
- ليس من المنطقي أن تنام الساعة ١٢ صباحًا ثم تقرر أن تبدأ يومك عند الخامسة صباحًا فقط لأنك تريد اتباع نمط صباحي، جسدك يحتاج إلى الراحة والنوم الكافي لمدة ٧ ساعات ونصف على الأقل
- قد تتساءل كيف يمكنك تبني نمط حياتي صباحي في ظل ارتباطتك العائلية وانشغالاتك الليلية التي قد تشكل حاجزًا ؟ لاتوجد لدي إجابة، فهذه مشكلتك وحدك، أنت من يحلها
وبالمناسبة أجدنا محظوظين كثيرًا كمسلمين لوجود فريضة صلاة الفجر التي تسهل اتباع هذا النمط الحياتي، فإن كنت تصلي الفجر في وقته، مبروك أنت هكذا أتممت نصف المهمة! كل ماعليك فعله الآن أن تقاوم الرجوع إلى السرير الدافئ.
—انتهى—
أشياء جميلة ذات صلة:
(١) كتاب “اليوم النبوي” لعبد الوهاب الطريري: من أكثر الكتب القريبة إلى قلبي، قرأته عدة مرات، فكرته جميلة جدًا، يعرض الجدول اليومي للحبيب عليه السلام، متى يستقيظ، ماذا يفعل، متى يأكل، باختصار كيف يقضي يومه من الصباح حتى يعود للفراش ثانية في نهاية اليوم
(٢) مقال “Why I Wake Up at 5 AM: It’s More Than Just Getting Things Done“ ل Corey McComb
(٣) “سأمدح هذا الصباح الجديد” لمحمود درويش
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
مقال جميل والأجمل تلك الإشارة الي صلاة الفجر
شكرًا لك
العزيزة عنود
شكرًا لك
شكرًا لكلماتك
شكرًا لموهبتك
جميل كيف ان هذا المقال تناول الموضوع من جميع النواحي وكيف ان اجد جواب السؤال الذي يراودني عند قراءة السطر الاول في السطر التالي
دمتي مبدعة
أعجبني المقال للغاية، خاصة وأنا في محاولاتي للاستيقاظ في هذا الوقت احيانا انجح و أكثر الأحيان لا ..
شكرا لكِ ودمتِ بود