أن تقود سيارة في الظلام: عن دورة الضياع ومصاحبة المجهول

اليوم: الجمعة ١٩ يونيو ٢٠٢٠

الساعة: الرابعة عصرًا

للتو انتهيت من تناول وجبة الغداء، ماما حضرت أحد أطباقي المفضلة: أرز وإيدام فاصوليا بيضاء، في كل مرة أتناول فيها طبقًا أحبه أشعر أن هذا الفعل سيحل مشكلة ما في حياتي، أقول في نفسي وأنا أضع لقمة في فمي: «حسنًا، الآن سأكون جاهزة للعودة للعمل على مقالة السبت واستكمال البحث الذي بدأته قبل عدة أيام (أو ربما أسابيع؟ لست متأكدة)، شكرًا لهذا الطبق السحري الذي أعطاني قوة ما ستجعلني أنهي عملي!».

عدت إلى غرفتي وكلي آمال وأحلام لا حدود لها، فتحت اللابتوب، فتحت مسودة المقالة، حدقت في الشاشة، ثم حدقت، وبعد ذلك حدقت قليلاً…أشعر بالتعب، فكرت في نفسي: «لابد أنه طبق الفاصوليا والأرز الذي سبب لي التخمة، من الأفضل أن آخذ استراحة من العمل [الذي لم أبدأ فيه بعد]»، استلقيت على السرير، أجوب في عالم اليوتيوب بلا هدف، أحاول أن أجد مادة مفيدة أستهلكها عل ذلك يخفف من تأنيب الضمير الذي أشعر به جراء عدم عملي على المقالة.

بعد مرور ساعة تقريبًا، دفعت بجسدي إلى اللابتوب مرة أخرى، حدقت في الشاشة، ثم حدقت، قلت لنفسي: المشكلة التي تحيل بين وبين الكتابة الآن هي أني أريد أن آكل قطعة حلو، بدون ذلك لن أستطيع التركيز! ذهبت إلى المطبخ، أخذت قطعة معمول، أفكر في نفسي: «الحمدلله الآن فقط ستنحل المشكلة وسأتمكن من الكتابة»، عدت إلى اللابتوب، تناولت قضمة، ثم وضعت يدي على الكيبورد وتذكرت: «إلهي! هل سأتناول قطعة معمول من دون عصير بارد بجانبها والعياذ بالله؟؟! هذا لا يجوز!» تركت اللابتوب المضطهد وهرعت إلى الثلاجة أجلب بعض العصير، «حسنًا، الآن الآن، استعدي أيتها المقالة لأن تكتبي وتتشكلي كما لو كنتِ منحوتة فنية في قلب روما» يقول صوت في ذهني يصاحبه خلفية موسيقية لصوت عبادي الجوهر يغني: «جاكم الإعصار ما شيٍ يعيقه..منتخبنا اليوم وخّر عن طريقه».

الساعة: الخامسة والنصف

لازلت أحدق في الشاشة، لا أستطيع كتابة شيء، أو ربما لا أريد كتابة شيء. أفكر: «ربما ما أحتاجه الآن أن أفصل فيش الخلاط فقط! لن أكتب أي شيء الآن، سأتجه للقراءة ومن ثم أعود للكتابة – أو بالأحرى محاولة الكتابة لاحقًا». أخذت جهاز الكندل، فتحته لأكمل قراءة أحد كتب «آن لاموت» لأجدها تقول:

«يمكن لهذه المشاعر أن تهزمك وتشوش عليك، أو يمكنك أن تعتبر البارانويا، على سبيل المثال، مادة رائعة.. قم بتحويلها إلى شيء حقيقي ومضحك أو مخيف»

أفكر في نفسي: «همممم، لماذا استوقفتني هذه الكلمات..؟» تذكرت لحظتها رسالة واتس آب تلقيتها من أحد الأعزاء سألني فيها: «كيفك هاليومين؟»، تذكرت مشاعري حين قرأت السؤال وإجابتي عليه بأنني أمر بمرحلة ما أسميه “دورة الضياع”..

قبل أسبوعين من الآن..

اليوم: الجمعة ٥ يونيو ٢٠٢٠

الساعة: الحادية عشر صباحًا

«عنود، لازم تقومي من السرير وتسوي رياضة وتسوي سموذي وتكتبي مقالة الأسبوع وتخلصي الشغل المتلتل على دماغك» أقول في نفسي، ثم أُتبع بـ «أصلاً ايش اللي قاعدة تسويه في حياتك!». أقلب جسدي إلى الناحية الأخرى من السرير وأغطي وجهي باللحاف، «هذه الحركة ستطرد هذه الأفكار اللعينة بالتأكيد»!

الساعة: الواحدة والنصف ظهرًا

لازلت في السرير، لم أصلي صلاة الجمعة بعد، لا أريد أن أتحرك من السرير، أشعر برغبة في البكاء، يصرخ في عقلي سؤال: «ما الذي تفعلينه؟! ماذا يجري؟» حسنًا، أشعر بأني “ضائعة”، غير متأكدة من كل ما أقوم به، غير متأكدة من أنني أضع وقتي وجهدي فيما يجب أن أضع وقتي وجهدي فيه. أشعر بالخوف والقلق من أن يأتي يوم ما في المستقبل وأكتشف أنني لم آخذ قرارات صحيحة اليوم…أفكر في نفسي: «كيف يمكنني أن أتفادى هذا الموقف! كيف يمكنني أن أعرف الآن أن ما أقوم به من قرارات صائبة؟» سيقتلني هذا السؤال، الشك سيقتلني، أريد الحصول على إجابة حالاً.

الساعة: الثالثة إلا.. ظهرًا

لازلت متسمّرة في السرير، لا أريد أن أفعل أي شيء، أشعر بالكثير من الحزن، أفكر أن اتصل بأحد الأصدقاء، أقلب في ذهني بعض الأسماء، لكني لا أريد أن أسمع نصائح ومواعظ. أنا أعرف تمامًا ما أمر به، مشاعر الضياع هذه حالة أعيشها بين كل فترة وأخرى، ربما كل ٤ أو ٥ شهور، أعرف تمامًا التفكير والجواب المنطقي في هذه الحالة، ألا وهو: لا يمكننا أبدًا أن نتكهن المستقبل، لن نعرف ما إذا كانت قراراتنا اليوم صائبة أم لا إلا لو خضنا التجربة، أن نمضي ونكمل فيما نفعله، ليس هناك خيار آخر. أيضًا أفهم تمامًا، أننا حقًا لا نملك إلا اللحظة التي بين أيدينا الآن، وأنه في الحقيقة مهما كانت قراراتنا خاطئة، فنحن دائما المنتصرين، لأن كل تجربة فاشلة أو سيئة تؤهلنا لأن نصبح أكثر حكمة، وأكثر قوة إن نحن اخترنا أن نرى ذلك.

والله أعرف كل هذا! بل وأستطيع أن أُسمّعه لأي شخص كما كنت أُسمِّع لماما كل أناشيد كتاب المحفوظات في ثقة عالية تطغى على صوتي النشاز وأنا في السابعة من عمري. إلا أن مشاعر الخوف، القلق، الحزن، الحيرة لا زالت تشدني إلى أسفل، أسفل، أسفل لدرجة تجعلني أشعر أن الأرض تحولت إلى مغناطيس وجسدي تحول إلى قطعة حديد. المشاعر أحيانًا أقوى من كل تفكير عقلاني..

الساعة: مابعد الثالثة ظهرًا

أخيرًا، انتصرت في ملحمتي الدامية مع السرير، أنهض، أحاول أن أتمم مهام يومي وأنا أفكر: «عادي عنود، إنت عارفة إنها مسألة وقت، ،حتخرجي من دي الحالة».

في كل مرة أمر فيها بفقرات الضياع هذه، أعود إلى ترتيب أفكاري، أذكر نفسي بالأسباب الأولى، بالنوايا، بالدوافع، بالأولويات، وفي كل مرة أقوم بهذا الفعل أشعر أن فقرة الضياع هذه بالرغم من نتانتها، فهي في جوهرها فرصة عظيمة لتجديد الوعود التي قطعتها على نفسي من قبل.

العودة ليوم الجمعة ١٩ يونيو: جمعة الفاصوليا البيضاء

الساعة: في وقت ما قرابة المغرب

أقلب في كتاب «آن لاموت» وتقع عيناي على النص التالي:

قال E. L. Doctorow  ذات مرة: «كتابة الرواية تشبه قيادة السيارة ليلاً، يمكنك أن ترى فقط بقدر ما تسمح لك المصابيح الأمامية برؤيته، ولكن يمكنك اتمام الرحلة كاملة بهذه الطريقة» ليس عليك أن ترى وجهتك أو كل شيء ستمر به على طول الطريق، عليك فقط رؤية مسافة قدمين أو ثلاثة أقدام أمامك.

هذه هي. هذا كل ما أحتاج أن ذكره نفسي به، في كل صباح، وفي كل مرة تباغتني فقرة الشعور بالضياع هذه، أنا أقود السيارة ليلاً، لن أستطيع أن أرى الطريق كاملاً أمامي، كل ما علي فعله هو الاستمرار في القيادة. وهذا المجهول من الأجدر بي أن أرحب به كصديق عزيز، أرافقه، أسمح له أن يعلمني بدلاً من أن أقضي وقتي معه في مناكفات أو معارك لا فائدة منها سوى جلب هموم تلصقني بالأرض المغناطيسية أكثر وأكثر..

— انتهى —

ملاحظة هامشية: كتبت هذه التدوينة مرة واحدة دون أي تحرير أو قصقصة – على غير عادتي، أتمنى ألا أندم على ذلك بعد نشرها.

اقرأ أيضًا: ٤ حِيَل للتعامل مع الحزن من وجهة نظر الفيلسوف الكِندي

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

مصدر صورة التدوينة: insurancehotline.com

25 ردّ على “أن تقود سيارة في الظلام: عن دورة الضياع ومصاحبة المجهول”

  1. استعجلتُ في التعليقِ دون أن يكون في ذهني أيّ إضافة مركّزة أشاركك بها، لكنني أردت بشدة أن أخبركِ ألّا تندمي على هذه التدوينة، لأنها يا عنود ترينا الإنسانَ المتعبَ فيك بموازاة الإنسان المنظّم والمرتبِ الذي نعرفه منك قبلًا؛ فنشعر أنكِ -على الوجهين- مثلنا ونحن مثلك، ومن هنا يكون تأثيرك فينا أكبر وأصدق!

    أتابعك بانتظامِ الراغبينَ جدًّا فيكِ يا عنود، وأشاركُ الكثير من تدويناتك مع صديقاتي وأخواتي اللاتي أظن أنهنّ سيعبرنَ على تعليقي هذا ويبتسمن، بل ويومئنَ موافقات!

    صحيح يا بتول؟ يا رحمة؟ يا لمى؟ صحيح يا غدير ويا فطوم؟
    من أيضًا جاء إليك من أهلي ورفاقي!

    أنتِ جميلة يا عنود، ومنصتك هذه من ألذ المنصات التدوينية عندي ولولا أن التعليق لا يسمح لنا بمشاركة الصور لكنتُ التقطتُ صورةً لشاشةِ هاتفي ونحن -أنا ورفاقي وأهلي- نتحدث عن تدويناتك ونتناقش فيها وفي شخصك الكريم الحلو ^_^

    (مسائك إنجاز وبهجة)

    1. يا الله يا رقية، ما اعرف كيف اشكرك على دا التعليق اللي يجبر الخاطر، وصلتني روحك الجميلة، شكرا لكِ انت وصحباتك بتول، رحمة، لمى، غدير وفطوم! محبتي وتقديري لكن جميعا

      1. أحياناً ما نحتاج النصيحة أو الاستشارة من شخص بلغ من العمر عتياً أو عشان قدام اسمه حرف “د” بل نحتاج لإنسان يشاركنا تجربته ومشاعره بكل صدق، لان هاذي التجربة والمشاعر كفيلة بأن تجعلنا نشعر بأننا مو وحدنا اللي بنعاني وفي ناس مثلنا.
        شكراً لكي العنود 🙏 على هذه الشجاعة من الإفصاح والإبداع في إيصال المشاعر، فعلاً اليوم أحسست أني طبيعي ولله الحمد🤗 لاني دائماً ما اواجه هذه الحالة بعد فترة من العمل مشروعي الحلم اللي تخليني ممداً جسمي على السرير لمدة ساعات قد تصل إلى ثلاث ساعات أو أكثر سائحاً مابين فضاء الأمنيات وفضاء اليأس حتى اخرج من هذه الحالة بالخروج للمشي 🚶في مكان فسيح لمدة ساعة أو العب إحدى الالعاب الالكترونيه أو اقوم بشرب القهوة والاستيعاذة بالله من الشيطان الرجيم وافتك اللابتوب وأبدأ العمل 😄

        1. فعلًا يا أنس.
          الأسبوعين الماضيين كنت في دوامة الضياع ولكن اليوم كانت القشة الي قصمت ظهر البعير!
          كنت أبحث عن ما يبعث فيني الطمأنينة
          اقرأ هنا وهناك
          وفجأة! قلت لابد وأن العنود قد كتبت شيئًا يشفي ما بداخلي..وكنت محقة!

          فعلًا نحن نحتاج من يكون صادق معنا؛ ويخبرنا أننا لسنا وحدنا وما نمر بهِ طبيعي.

          شكرًا كثيرًا العنود؛ دائمًا كتاباتك طبطبة على كتفي ♥️

  2. قد تكون هذي التدوينة بالنسبة لي هي التدوينة الوحيدة التي أقرأها بلا انقطاع تقريباً.

    لو أردت أن أعبر عن حياتي بمقالة. لأخترت مقالتك تعبيراً عن حياتي للأسف. الكثير من الوعود الذاتية والأهداف، والكثير من المشتتات التي لا نهاية لها. بل ولو وضعت مسابقة لأكثر الأمور إضاعة لوقتي، لاحترت بالمتنافسون الكثر.

  3. مقالة رهيبة ومميزة.. الصدق أهم من النص.. التعبير أهم من صنعة الكتابة نفسها.
    والاقتباس خطيييير.
    أتحفينا دومًا بأن تكتبي أي شيء، لا يهم النتيجة.. المهم أن تكتبي.

  4. ترددت كثيرًا قبل فتح التدوينة الوقت متأخر وغدا يوما حافل…حتى انتصر شعور الجوع جوع القراءة فتحتها وكأني بي أفتح مرحلة من حياتي هي ذات حياتي بمشاعرها وتقلباتها بدون أدنى اختلاف بقلم كاتبة أجرأ وأعلى صوتا وجلدا مني
    سلمت يمينك العنود.

  5. مقالة مميزة عن ذي قبل، أحببتها ووصلني شعورك!
    بالمناسبة أطلق على فترات الضياع بـ “الخفوس”.
    وجدت حتى نتوازن 🌟

    شكرًا لك ❤️

  6. يالله! هذه التدوينة تشرح حياتي اليومية و خططي المؤجلة .. للأسف الشديد حالتي الحالية المشابهة لحالتك قد أخذت وقت أطول من المعتاد و لا أعرف كيف أخرج من هذه الدوامة ..

    شكراً لكِ

  7. انا لم أقرأ تدوينة ياعنود بل عشت معك تفاصيل حياتك اليومية ومتاعب نفسك بين اتخاذ القرار والقيام به كنت رائعة بكتابتك العفوية والصادقة
    محبتي لك

  8. شكراً شكراً
    من أرهب ما قرأت لكِ!
    كانت عندي دي المشاعر من يومين
    والكلام جا في وقتو
    شكراً من القلب
    والله يدلك ويهديكي ويجمع بينك وبين كل حكمة تنور عليكي ج

  9. اعجبتني المقالة كثيرا ومن الرائع ان تكتبي بحرية بين الفينة والاخرى
    واردت ان اشاركك باعجابي انك تعرفين ان هذه الحالة من الضياع مؤقتة وانك ستتغلبين عليها
    لانني اجد انه من المؤسف لبعض الاشخاص الاستمرار في هذه الحالة وكأنه ضياع في الضياع

  10. هذا نص إنسانى وصعب، أصعب النصوص وأجملها هى تلك النصوص التي تكتب الإنسانى فينا، أو تحول مشاعرنا وما يدور في دواخلنا إلي كلمات وجمل. دام تألقك وألقك

  11. لي فترة طويلة ما تفاعلت مع نصوص مكتوبة ( تدوينتك هذي قدرت تضحكني وتحطمني وتحفزني بوقت واحد )
    شكرا لانك خليتيني اقوم اكمل كتاباتي وأشغالي المتلتله على دماغي ع قولتك 🌷

  12. “ أذكر نفسي بالأسباب الأولى، بالنوايا، بالدوافع، بالأولويات.“
    مارة بدا الاحساس الفترة دي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *