عزيزي القارئ، أعتقد أن الوقت قد حان لأحدثك عن حبي المتأجج للمكانس الكهربائية، أعتقد أنني لو كنت شاعرة لكتبت قصيدة ترصد افتتاني الأبدي بمنظر المكنسة وهي تشفط الأوساخ بكل انسيابية ساحرة، هكذا كأن شيئًا لم يكن، لتشهد بعدها أرضية صافية صفاء مليء بالاحتمالات، وبريق يغري البدايات، ورحابة تلملم التائهات….حسنًا لنحمد الله أني لست شاعرة!
بعيدًا عن المشهد الرومانسي للمكنسة الكهربائية وهي تسحب اللامرغوب فيه إلى جوفها من أجلك، أحب المكنسة لأنها علمتني الكثير عن آليات التأقلم، أو ما يعرف بالـ (Coping Mechanisms).
يعرف علماء النفس آليات التأقلم على أنها طريقة الإنسان في التكيف مع الضغوطات الداخلية (النفسية) أو الخارجية من بيئته المحيطة، بهدف التحكم في السلوك الشخصي أو الحصول على الراحة النفسية، وتبنّي آلية تأقلم ما يكون إما باختيار واعي أو غير واعي، وبحسب آراء بعض علماء النفس، معظم الناس يختارون آلياتهم في التأقلم بغير وعي، ولا يدركون أن عادة أو سلوك ما، هي آلية تأقلمهم التي تمثل المعالج الذي يهرعون إليه وقت الأزمات والضغوطات النفسية.
فكّر في اللحظات الصعبة التي مرت عليك؛ خوف، حزن، يأس، غضب، إحباط..أو حتى لحظات الضغوطات والتوتر العالي، أو عند حدوث تغيرات غير مرغوبة من شأنها زعزعة دواخلك. ما هي سلوكياتك في هذه اللحظات؟ أقصد بالسلوكيات التصرفات التلقائية التي تقوم بها بدون أي تفكير.
هل تهرع إلى علبة السجائر لتدخن بشراهة؟ هل تلجأ إلى الطعام وتلتهم كل ما أمامك؟ هل تلجأ إلى التسوق لتشتري كسوة ٣ سنوات قادمة؟ هل تغرق نفسك في العمل أكثر؟ تبحث عن صديق لتفيض بما في قلبك له؟ تنعزل؟ تنغمس في مشاهدة الأفلام أو ألعاب الفيديو؟
إن سألتني، سأقول لك أنني لطالما كنت الشخص الذي يهرب من الأزمات بالنوم، في كل مرة لم أستطع أن أواجه فيها، فإن آلية تأقلمي كانت تقبع بين طيات مخدتي الناعمة وفراشي الدافيء، حتى وإن لم أشعر بالنعاس فإن البقاء في السرير ومحاولة النوم لساعات طويلة لطالما بدى حلاً أنجع من محاولة معالجة المسألة التي أهرب منها.
لكني في فترة لاحقة وجدت نفسي أهرع إلى المكنسة الكهربائية في هذه اللحظات الصعبة، أشرع في تنظيف البيت، غرفة غرفة، حمّام حمّام، دولاب دولاب، أحيانًا تصاحبني أم كلثوم في هذه الفقرة البروليتارية من يومي، وأحيانًا أدع عقلي يتجول في دهاليز كتاب صوتي، وأحيانًا أختار السكون التام، باستثناء صوت حبيبتي…المكنسة، والتي لا ينافسها في المعزّة إلى الغالية؛ الغسّالة.
عن الانتقال من المخدة إلى المكنسة
صادف أن ظروف حياتية معينة اضطرتني لأن أمضي وقتًا كبيرًا في تنظيف المنزل، إلا أن هذا التغيير – وإن كان طفيفًا – كان له أثرًا كبيرًا، فقد لاحظت أن نفسيتي ومشاعري وردة فعلي تجاه الضغوطات واللحظات الصعبة اختلفت كثيرًا عندما انتقلت إلى “آلية المكنسة” بدلاً من “آلية المخدة”.
فعندما أمر بحالة نفسية سيئة وأقوم إلى التنظيف بالرغم منها، تتواجد لدي مساحة لأن أفكر، أقلب المسائل في ذهني، أستمع عن قرب لمشاعري، أو ينتشلني من الكآبة مقطع خلاب من رواية صوتية لأجد نفسي أركض إلى مفكرة أكتب فيها وصف أعجبني، أو تحركني تقاسيم قانون لأجد نفسي أرقص في غرفة الغسيل، فيتغير مزاجي تمامًا.
والأهم من كل ذلك أنني عندما أنتهي وأنظر إلى المكان مرتب ونظيف، أشعر أنني أنجزت إنجاز عظيم، ليس فقط لأن الفوضى الخارجية تؤثر على الفوضى الداخلية، بل أيضًا لأني أشعر بأني قادرة أن “أفعل” شيء، أن أخذ خطوة ما، هناك أمل…وهذا يحفزني على مواجهة المسألة التي كنت اتهرب منها.
بينما مع آلية المخدة الأمر مختلف، النوم في ذاته ليس مشكل، بل بالعكس، العقل اللاواعي يعالج الكثير من الأفكار خلال النوم، والجسد أحيانًا يحتاج أوقات نوم طويلة ليعوض عما يعرف بدَين النوم (Sleep Debt)، لكن تحويل النوم إلى وسيلة هروب هي المشكل. آلية المخدة لدي لم تنطوي على شيء سوى التخدير، تخدير التفكير، المشاعر، المُضي، الزمن، تخدير لا يسبب إلا تكريس مشاعر تلك اللحظات السوداوية.
السيطرة تحت الوضع !
لا يوجد إنسان ليس لديه آليات تأقلم، ففي اللحظات الانفعالية أو الثقيلة، يصعب التفكير بمنطقية، ناهيك عن معالجة المشاعر والأفكار بتأنّي، فنلجأ تلقائيًا إلى “مخرج ما” يأوي تبعثرنا النفسي، لكن السؤال: هل اخترنا هذا المخرج بوعي أم تركنا له القرار ليختارنا؟ هل نتبنى آليات تأقلم بنّاءة؛ تساعدنا على الوصل لمساحات نفسية تمكننا من أن نفهم ونتعامل ونواجه ونتعافي ونمضي قدمًا؟ أم هي آليات هدّامة؛ تُعمّق المأزق النفسي – وربما الجسدي – وتلقي به في دركات أدنى؟
بإستثناء الآليات التي تُتلف وتُخدّر وتُفسد، أعتقد أن غالبية آليات التأقلم خيّرة في ذاتها وبناءة، لكن يبقى التعويل على كيفية استخدامها، مثلاً ممارسة الرياضة/الذهاب للنادي الرياض لتخفيف الضغوطات، آلية تأقلم بناءة، لكن تبّنيها كوسيلة للهروب من المواجهة، هنا تصبح هدامة. الأمر ذاته مع الأمور التي قد نعتقد أنها ليست بناءة في ذاتها مثل ألعاب الفيديو، إن كانت من باب الترويح وتغيير المزاج فهي بناءة، أما إن كانت سبيلاً للانغماس لفترات طويلة هروبًا من المواجهة، تصبح هدامة.
لكن باختلاف آليات التأقلم التي قد نختارها – والتي قد تتغير من مرحلة حياتية إلى أخرى – يبقى سند العلاقات المقرّبة أحد أهم آليات التأقلم التي نحتاجها طيلة حياتنا، فلا عشرون مكنسة من مكانسي التي أتغنى بجمالها، لها ربع الأثر الذي تتركه رسالة جوال حميمية من عزيز يسأل بصدق: “هل أنتِ بخير؟”.
— انتهى —
مصدر الصورة: discovery.com
انضم إلى قائمة القرّاء حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
برافو
في وقت سابق كانت الدورات والشهادات الاحترافيه هي مكنسة العنود، حتى انني جمعت شهادات احترافيه كثيره ولم اعمل يوم واحد في مجالها.
جميل جداً حابه أشكركِ على جمال مدونتكِ التى أصبحت أقضي فيها وقت ممتع ، تعليقي على موضوعكِ الشيق وجدت بنّا نشترك في طريقة هروبنا في الأزمات ، هروب لطيف كا لُطْفنا 🙂
دمتي بخير عزيزتي .
رائعه
عندما مررنا بمشاكل انفصال الوالدين كنت أرى أمي تتخذ من التنظيف ملجأ للتفكير و لإنجاز شيء آخر والآن أصبحت عادتي أنا أيضاً عندما يشغل بالي شيء ما فإني ألجأ لترتيب أو تنظيف المكان .
خيييلة
شكرا على هذة المقالة الجميلة قد سبق سألت نفسي لماذا أشعر بالراحة والإنجاز عند اللجوء الى التنظيف والترتيب حيث كانت وسيلتي للتخلص أي مشاعر سلبيه بالإضافة إلى وسائل أخرى لكن لماذا هي الوسيلة هي الأكثر فعالية ربما لان المشاعر السلبية لها طاقة والمجهود البدني هو الطريقة تنفيس عن هذة الطاقة
عبرتِ عني، الترتيب كان وسيلتي للتخطي والهدوء..
وانا اقرا هالفقرة: هل تهرع إلى علبة السجائر لتدخن بشراهة؟ هل تلجأ إلى الطعام وتلتهم كل ما أمامك؟ هل تلجأ إلى التسوق لتشتري كسوة ٣ سنوات قادمة؟ هل تغرق نفسك في العمل أكثر؟ تبحث عن صديق لتفيض بما في قلبك له؟ تنعزل؟ تنغمس في مشاهدة الأفلام أو ألعاب الفيديو؟
كنت اجاوب انا اهرب بالنوم، وحسيت بالانتماء معك لما ذكرتي انك تواجهين الأزمات فعلًا بالنوم، ذكرت لي زميلة ان سبب توجهك للنوم هو الهروب من الازمة او الواقع وفعليا لما فكرت فيها منطقي جدًا احب اهرب للنوم وبس.
شكرًا لك!