«بلاء الإنسان هو أن يتباهى بمعرفته» – الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين
في ٢٠١٦ أطلقت مجموعة من الباحثين مشروعًا بعنوان «مشروع فقدان الثقة» والذي يشجع الباحثين ومؤسسات البحث الأكاديمي في مجالات علوم النفس والاجتماع على الاعتراف بالأخطاء المنهجية التي ارتكبوها في دراساتهم البحثية السابقة والتي تجعلهم يفقدون الثقة في مدى صحة استنتاجات هذه الدراسات.
العديد من نتائج ونظريات دراسات علم النفس المتداولة أثبتت عدم صحتها عندما تم إعادة اختبارها في السنوات الماضية، فعلى سبيل المثال، قامت إحدى المبادرات البحثية بأعادة إجراء ١٠٠ دراسة وتجربة في مجال علم النفس لتجد أن حوالي ٦٠٪ منها أعطت استنتاجات مختلفة عن تلك التي خلصت إليها الدراسات الأصلية، وبالتالي النظريات التي قدمها الباحثين ابتداءً غير صحيحة ولا يمكن العمل على أساسها.
وبطبيعة الحال، ليس من السهل على الباحثين الاعتراف بأخطائهم المنهجية أمام الملأ بعد أن تم نشر وتداول دراساتهم، لذلك يهدف «مشروع فقدان الثقة» إلى خلق بيئة آمنة وثقافة جديدة تطبّع فكرة وسلوك اعتراف الباحثين بأخطاهم البحثية دون أن يوصموا بالفشل أو بالعار. وأعتقد أن الغاية وراء ذلك هو التأكد من أن الأبحاث والدراسات الجديدة تبنى على أساس أكثر صلابة نتيجة لاستبعاد الدراسات الضعيفة السابقة.
إلا أن الموضوع ليس مقتصرًا على الباحثين والأكاديمين فقط، فالإنسان بشكل عام ليس سهلاً عليه أن يعترف بأخطائه وقصوره المعرفي. وهنا تأتي أهمية «التواضع الفكري» (Intellectual Humility) كفضيلة أساسية في عملية تكوين وتداول المعرفة.
هل لديك تواضع فكري ؟
تعرف مؤسسة العلوم الإنسانية بجامعة كونيتيكت التواضع الفكري على أنه القدرة على استيعاب الفرد لحدوده المعرفية، وأنه اعتراف صحي بالفضل الفكري للآخرين على الفرد، إضافة إلى وجود قلة اهتمام بتصدر المشهد فكريًا أو الحصول مكانة اجتماعية جراء ذلك [١]. والمقصود هنا بالفضل الفكري للآخرين هو أن معرفة الإنسان وأفكاره مستقاة ومتراكمة من مصادر خارجية أخرى. أما عالم النفس الشخصي والاجتماعي مارك ليري، فيعرف التواضع الفكري ببساطة على أنه «إدراك أن الأشياء التي نؤمن بها قد تكون في الحقيقة خاطئة» [٢].
وترتبط فضيلة التواضع الفكري بخصال أخرى مثل امتلاك عقلية متفتحة، واتساع ذهني لتقبل الجديد والمختلف، وشعور باللامعصومية – أي حتمية ارتكاب الأخطاء، والقدرة على الاستجابة للمنطق والحجج العقلانية.
وينظر كلًا من إيان شيرش وبيتر ساميلسون، الباحثان في مجال الفلسفة، إلى التواضع الفكري على أنه الفضيلة التي تتوسط الكِبَر من ناحية، والانتقاص من قيمة الشخص لذاته من ناحية أخرى، وعند انتفاء هذا التواضع الفكري يكون التعالي الفكري (Intellectual Arrogance) وهو نتيجة أن يقيّم الشخص بشكل خاطئ قدراته الفكرية على أنها أعلى مما هو عليه في الواقع وأفضل من تلك التي يمتلكها معظم الناس، مما يؤدي إلى أن يكون الشخص منغلق ذهنيًا وأكثر تحيزًا، ويؤكد الباحثان شيرش وساميلسون على أهمية اعتبار التواضع الفكري كفضيلة، لأن تبني مفهومًا كهذا سيجعلنا أكثر تمكنًا من التعامل مع نزعة الإنسان الفطرية للمبالغة في تقدير إمكانياته والتقليل من شأن ضعفه [٣].
لكن كيف نستطيع أن ننمي فضيلة التواضع الفكري هذه؟
يقول الصحفي والكاتب برين ريسنك في إحدى مقالاته التي تناول فيها موضوع التواضع الفكري أنه من خلال مقابلاته مع الباحثين والأكاديمين قد استنتج أن هناك ٣ تحديات في طريق تحقيق هذه الفضيلة:
١- لكي نكتسب المزيد من التواضع الفكري، نحتاج جميعًا، حتى الأكثر ذكاءً بيننا، إلى تقدير النقاط العمياء المعرفية الموجودة لدينا بشكل أفضل، وأن عقولنا أكثر قصورًا وأقل دقة مما نود الاعتراف به في كثير من الأحيان، وأنه يمكن لجهلنا أن يكون غير مرئي.
٢- حتى عندما نتغلب على هذا التحدي الهائل ونكتشف أخطائنا، علينا أن نتذكر أننا لن نُعاقب بالضرورة على قول “كنت مخطئًا”، وعلينا أن نكون أكثر شجاعة لقولها. نحن بحاجة إلى ثقافة تحتفل بهذه الكلمات.
٣- لن نحقق أبدًا التواضع الفكري المثالي، لذلك نحن بحاجة إلى اختيار قناعاتنا بعناية.
التواضع الفكري هو أن يكون الشخص دائم الفضول حول النقاط العمياء الموجودة لديه
مطبات التواضع الفكري
وهنا أريد أن أتوقف للحظة لأشير إلى مطب نقع فيه معظمنا، فأحيانًا حتى عندما نقول “بألسنتنا” أننا لا نعرف، أو أننا قاصري المعرفة كمحاولة لترك انطباع أننا نملك تواضعًا فكريًا، فسلوكنا يقول عكس ذلك تمامًا، وهذا واضح جدًا في طريقة خوضنا للنقاشات التي يطغى عليها نَفَس “أنا أعلم / أفهم / أذكى / أكثر ثقافة منك” وإن لم نقلها صراحة، إلا أنه يوجد هذا الاحساس المبطن بـ “التفوق الفكري” (Intellectual Supriority) الذي يفترض أنك على صواب والآخر على خطأ بالضرورة. لا أعرف كيف يمكن التخلص من هذا السلوك أو السيطرة عليه على الأقل، لكني أعرف تمامًا أنه يتطلب الكثير من الجهد، والشجاعة، ومراقبة ومراجعة النفس.
أما المطب الآخر هو الخلط ما بين التواضع الفكري والانتقاص من قيمة الأفكار أو المعرفة التي يمتلكها شخص ما، التواضع الفكري لا يعني قلة الثقة بالنفس أو ضرورة الانصياع لكل فكرة جديدة ومختلفة، لكنه يعني تبني «عقلية تمكن الشخص من أخذ إحتمالية وجود أخطاء لديه بعين الاعتبار، إضافة إلى جعله منفتح على التعلم من تجارب الآخرين، التواضع الفكري هو أن يكون الشخص دائم الفضول حول النقاط العمياء الموجودة لديه [٤]».
إلى جانب أهمية تبني التواضع الفكري كسلوك على الصعيد الشخصي، أعتقد أنه موضوع لا يقل أهمية على الصعيد المجتمعي، فكما يقول أصحاب «مشروع فقدان الثقة»، الهدف من تطبيع هذا السلوك هو خلق ثقافة جديدة تتقبل الأخطاء الإنسانية في مجال البحث والمعرفة. الصراحة، كم أتمنى أن تسود لدينا ثقافة كهذه، أميل إلى الاعتقاد بأن المجتمعات العربية أكثر تشنجًا في هذا السياق، لا أعلم لماذا، لكن أعتقد أننا أكثر “استقعادًا” واستعدادًا لتصيد أخطاء الآخرين والانقضاض على أصحابها حتى عندما يعترفون بأخطائهم، وبطبيعة الحال هذا التشنج والسلوك العدواني يخلق بيئة غير آمنة للاعتراف بالأخطاء سواء كان من قبل الباحثين، الأكاديمين، المفكرين، صناع الرأي، المؤثرين، أو حتى الأشخاص العاديين، وضريبة ذلك أننا نفقد مساحة لخلق وتداول معرفة حقيقية ومثرية.
— انتهى —
مقالات ذات صلة
المصادر:
[١] Humanities Institute. Humility & Conviction in Public Life: What Is Intellectual Humility
[٢]، [٣] Intellectual humility
[٤] Intellectual humility: the importance of knowing you might be wrong
صورة التدوينة: “تمثال المفكر” (Le Penseur) للنحات الفرنسي أوغست رودين، المصدر: Renfe-SNCF.com
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
موضوع جميل كالعادة وكان على بالي الفترة الأخيرة ملاحظ بنفسي شوي مطبات والموضوع صعب تقييمه والله
موضوع فنانن ويستحق انو نفكر فيه ونواجه انفسنا
دائما مبدعة باختيار مواضيعك شكرا لك
مقال رائع للأمانة
الحمدلله شخصياً إكتسبت هذه المهارة في السنوات الآخيرة
وللآسف بعد إدراك حقيقي ولحظة متجرّدة يدرك فيها الإنسان أنّه قد يكون العبء بغروره
للأمانة تحتاج من الإنسان نقطتين
الأولى اللطف مع الذات وتقبّلها والتخلّي عن الحاجة لإثبات الكمال للآخرين
الثانية أن الإنسان شيء وأفكاره شيء مكتسب أو كما أشرتي مكتسبات خارجية
مقال جميل جدا.. شكرا لك.