“عزيزي فلان، صحيح أنك بذلت مجهود هذه السنة، لكنك لم تحرز نتائج استثنائية فيما يتعلق بالأهداف التي وضعناها لك في بداية العام، لذلك من باب العدل، تقييمك هو ٣ من ٥، أرجو أن يكون هذا محفزًا لك كي تركز وتبذل جهد أفضل في العام المقبل”.
[فلان يحاول أن يحافظ على ملامح وجهه التي تبدو متماسكة بينما هو ينهار من الداخل، يخرج فلان من مكتب مديره، بعد أن شتمه في نفسه بأقبح الشتائم، يذهب إلى زملائه، يحكي لهم “المظلومية” التي وقعت عليه، يشارك معظمهم في حفلة الشتم، لأنهم في الغالب لم تعجبهم “الأرقام” التي حصلوا عليها.]
هذا المشهد الدرامي رأيته يتكرر أمامي مرات كثيرة في شركات مختلفة، أبغض من كل قلبي مواسم تقييم الأداء السنوية أو ما يعرف بـ (Performance Appraisal/Review)، فهي فترات “متكهربة” ومشحونة بالمشاعر السلبية، وخيبات الأمل، والاحباط، وفي أحيان كثيرة تأتي بالضغائن والعداوات بين الزملاء خاصة في الشركات الكبيرة. وهذا أمر غير مستغرب، فمن ناحية فيسيولوجية، عندما نشعر أننا نتعرض لتهديدات أو مكافأت اجتماعية مثل تلك المتعلقة بالمعاملة العادلة، فإن ذلك يحفز مناطق في الدماغ تجعلنا نأخذ ردة فعل محتدمة [١].
بالرغم من أنني لم أحصل يومًا على تقييم أداء منخفض إلا أنني لطالما خضت نقاشات مطولة مع مدرائي وموظفي الموارد البشرية حول نظام تقييم الأداء الكمي الذي يرغم على إعطاء الموظف درجة من ١ إلى ٥، أو يصنف الموظف إلى فئة “A” فئة “B” أو إلى تصنيفات “تجاوز التوقعات”، “أقل من التوقعات”..إلخ، أعتقد أنه نظام مدمر أكثر من كونه بنّاء، أو أنه وحش كبير يبتلعنا بدل أن يكون مرشدًا معينًا يساعدنا، وهناك ٤ أسباب رئيسة وراء ذلك:
١# أن تضع رقمًا على جهود شخص فأنت بذلك تختزل الكثير من التعقيدات التي خاضها هذا الشخص على مدى سنة كاملة، وبالتالي تقييمك غير دقيق، المثير للدهشة أن الكثير من المدراء والتنفيذين مدركين أن هذه المنهجية غير دقيقة، أتذكر أن هناك بعض المدراء الذين قالوا لي أنهم لا يؤمنون بجدواه لكنهم مضطرون لوضع أرقام فقط من باب إكمال الإجراءات الروتينية واتمام هذه المهمة الثقيلة على القلب. بحسب إحدى الدراسات التي قامت بها (CEBglobal) ٩٠٪ من تنفيذي الموارد البشرية الذين تم استفتاؤهم قالوا بأن هذا النوع من التقييم لا يؤدي إلى الحصول على معلومات دقيقة حول أداء الموظفين [٢]. وفي دراسة أخرى أجرتها شركة ديلويت (Deloitte)، وجدت أن حوالي ٦٠٪ من المدراء يعتقدون أن هذا النظام غير مجدي ولا يحقق الغاية التي استحدث من أجلها [٣].
٢# اللحظة التي تضع فيها رقمًا على شخص، فأنت بذلك تحول نقاش مراجعة الأداء من فرصة للتعلم وتطوير الأداء إلى جدال دفاعي و”قعدة محاسبة”، بدلاً من أن يركز النقاش على المستقبل مثل “كيف يمكن أن تطور من أدائك” أو “هذه النقاط هي ما تحتاج التركيز عليه الفترة المقبلة”، ينصب النقاش أكثر على الماضي “أنت لم تفعل كذا” “لا أنا فعلت كذا وكذا لكنك لم تراني”، بحسب إحصائيات شركة ديلويت يمضي الموظفون سنويًا ٢ مليون ساعة في إجراءات مراجعة الأداء السنوية، لكن معظم هذه الساعات يضيع في الجدالات حول التقييم الكمي وتبرير التصنيفات والأرقام [٤]، شئنا أم أبينا، عندما يكون هنالك رقم أو تصنيف معين فإننا ننسى التقييم والتغذية الراجعة (feedback) حتى وإن كانت فعلاً مفيدة، و”نعلق” في الرقم الذي أعطي لنا.
٣# الأرقام لا تعكس مستوى أداء الشخص بالضرورة لسبب بسيط ألا وهو نظام “منحنى الأداء” أو ما يعرف بالـ (Performance Curve)، في المدارس يحصل جميع الطلاب أصحاب الأداء الأكاديمي المرتفع على علامات مرتفعة، لكن الأمر في الشركات يختلف، فلو كان هناك ١٠ موظفين يستحقون تقييم ٤ من ٥ مثلاً، فالمدير مضطر أن يعطي تقييم “٤” لموظف واحد أو موظفين إثنين فقط وفقًا لحسبة ميزانية الشركة ومنحنى الأداء التي يقضي وجود عدد محدود من ذوي الأداء العالي المخولين للحصول على علاوات. عندما كنت أعمل في أحد البنوك، أتذكر أن أحد المدراء كان دائمًا يقول: “لو بيدي لأعطيت جميع الفريق تقييم مرتفع لأنهم يستحقون ذلك، لكن النظام لا يسمح لي بذلك”..
٤# نحن نضحك على بعضنا البعض، نتظاهر بأن الهدف من تقييم الأداء هو تطوير الكفاءات، لكنه في الحقيقة مخرج “شرعي” لتحديد من يستحق العلاوات أو الـ (Bounce)، الاعتقاد السائد يقول أن التقييم الكمي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها لتبرير توزيع العلاوات. لا أعلم إن كانت هذه حقيقة أو أننا فقط لم نكتشف – أو نستثمر جهد ووقت في اكتشاف – وسيلة أخرى، عمومًا هناك الكثير من الجدل حول جدوى ربط المكافأة المادية بالأداء، فالعديد من الدراسات ووجدت أنها ليست الطريقة الأكثر فاعلية في عصر ما بعد الثورة الصناعية، بل في أحيان كثيرة يؤدي هذا الربط إلى نتائج غير محمودة مثل الممارسات غير الأخلاقية أو خلق بيئة تنافسية شرسة يقل فيها التعاون بين الموظفين [٥]. كمثال، يُعتقد أنه عندما ألغت شركة مايكروسوفت نظام التقييم الكمي، وجدت أن التعاون بين موظفيها ازداد بشكل كبير [٦].
تحديات وتساؤلات؟
بالرغم من وجود الإشكاليات، لازالت فكرة التخلي عن نظام مراجعة الأداء القائمة على التقيييم الكمي فكرة مرعبة للشركات، جزء من ذلك يعود لهوس تحويل كل شيء إلى أرقام (بغض النظر عن جدوى ذلك)، لكن في الحقيقة هناك مخاوف وتساؤلات مشروعة، مثل: كيف سيوثق تقييم الأداء خصوصًا في حالات التظلم التي تستدعي إجراء تحقيقات؟ كيف سنحدد من يستحق علاوة؟ ما أثر ذلك على الموظفين ذوو الكفاءة العالية الذين تستمد ذواتهم قيمة كبيرة من التنافس مع الآخرين على الحصول على المراتب الأولى [٧]؟ هل بيئة العمل مؤهلة والمدراء مستعدون للتغيرات الجذرية في التعامل مع التقييم؟ كيف سيغير ذلك من ديناميكية العلاقات في الشركة؟
الكثير من الشركات تتخلى عن نظام مراجعة الأداء السنوي التقليدي المبني على التقييم الكمي
خلال العقد الماضي، بدأت العديد من الشركات العالمية الكبيرة في التخلي عن هذا النظام التقليدي في تقييم الأداء، فمع بداية ٢٠١٥، قررت حوالي ٣٠ شركة كبيرة تدير حوالي مليون ونصف موظف أن تلغي منهجية التقييم الكمي وتستحدث طرق أخرى لمراجعة الأداء، من بين هذه الشركات التي أصبح عددها يتزايد مع الوقت Google ، Microsoft ، Amazon ، Adobe ، Deloitte، Accenture، Netflex و GE التي بنت في الأساس نظام التقييم الكمي وصدرته للعالم [٨] [٩].
إضافة إلى اعتقاد هذه الشركات بعدم فاعليّة نظام التقييم الكمي، فإن إحدى دوافع هذا التغيير الجذري هو استيعابهم لتغير طبيعة العمل والقوى العاملة، فمن ناحية، أصبحت منظومة العمل في الشركات تعمد بشكل كبير على فرق العمل والعمل الجماعي، وهو ما يقتضي وجود تداخلات معقدة تُصعّب عملية التصنيف الكمي الفردي، ومن ناحية أخرى جيل الألفية (Millennials) الذي يشكل جزءًا كبيرًا من القوى العاملة، يطالب بمنهجية مختلفة في تقييم الأداء، لن تنجح معهم كثيرًا عقلية “العصا والجزرة”. وجدت دراسة قامت بها (Intelligence Group) “أن ٧٢٪ من جيل الألفية [الذين تم استفتاؤهم] يريدون أن يكونون رؤساء أنفسهم، وفي حال وجود رؤساء عليهم، فإن ٧٩٪ من جيل الألفية قالوا أنهم يريدون أن يكون رؤساؤهم مدربين ومرشدين لهم” [١٠]. هذه التوقعات تقضي وجود ديناميكية جديدة في تقييم الأداء.
تتعرض هذه المقالة – بشكل مختصر – لبعض الأشكال البديلة لأنظمة مراجعة الأداء التي تبنتها بعض الشركات، وبالرغم من وجود اختلافات إلى أن جميعها يتشابه في وجود ٤ سمات رئيسة:
١- جلسات مراجعة الأداء مستمرة ودورية وليست مرة واحدة فقط في السنة كما في النظام التقليدي، مثلاً كل ٣ شهور أو بعد كل مشروع، فهذا يخلق فرصة حقيقة للتركيز على تطوير الأداء بشكل مباشر وسريع، إضافة إلى إن متطلبات العمل تتغير بسرعة نظرًا للتطور السريع الذي يشهده العالم، لذلك وضع أهداف سنوية وعقد جلسة مراجعة أداء واحدة نهاية السنة لا تبدو أنها منهجية منطقية وفقًا لهذا السياق.
٢ – التركيز على التقييم النوعي (Qualitative) بدلاً – أو أكثر – من التقييم الكمي (Quantitative)، العديد من الأنظمة البديلة أصبحت تتناول أسئلة تفصيلية كمية عن أداء الفرد كمحاولة للحصول على معلومات أدق.
٣ – تقييم الـ ٣٦٠ درجة / تقييم الأقران، بمعنى أن فريقك وزملائك يشاركون في تقييم أدائك، ليس مديرك فحسب، وعادة لا يكون يكون تقييم كمي بلي نوعي، مثلاً في شركة نيتفليكس، عندما يقيم زميل زميله، فذلك يكون عبر كتابة تغذية راجعة مثل: “إبدأ فعل ……..، توقف عن فعل…..،استمر في فعل………..” [١١].
٤ – التركيز على خلق تجربة تعلم وإرشاد ورغبة صادقة في تطوير الكفاءات وليس جلسة تحقيق أو محاسبة
أخيرًا، أنا لا أعتقد أن هناك نظام/منهجية صحيحة وأخرى خاطئة، لكني مؤمنة أن هناك خيارات أقل ضررًا وسوءًا من أخرى، مهمتنا أن نجد أفضل السبل بدلاً من أن نركن إلى “ما وجدنا عليه أبائنا” فقط لأننا اعتدنا على ذلك أو نخشى المجازفة والتغيير.
–انتهى–
المصادر:
[١] [٤] [٦] [٨] Why More and More Companies Are Ditching Performance Ratings, David Rock and Beth Jones, Harvard Business Review, 2015
[٢] More Employers Ditch Performance Appraisals, Allen Smith, SHRM, 2018
[٣] Global Human Capital Trends library, Deloitte
[٥] I’m Sorry I Broke Your Company, Karen Phelan, 2013
[٧] There’s a major problem with the global trend of companies ditching performance reviews, Chris Pash, Business Insider, 2016
[١٠] What Millennials Want In The Workplace (And Why You Should Start Giving It To Them) Rob Asghar, Forbes, 2014
[٩] [١١] Replacing performance ratings… How Amazon, Deloitte and Google do it, etsplc
مراجع إضافية
Deloitte joins Adobe and Accenture in dumping performance reviews, Impraise
2017 ,Why You Should Think Twice Before Ditching Performance Reviews, Forbes
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
محبتي وامتناني لك ولقلمك
شكرًا لك عزيزتي منى، الله يسعدك
كل إحترامي وتقديري لك ولفكرك
شكرًا لك حسين
مقال مميز .. بنظري أن الحكم على صحة أي منهجية في التقييم تعتمد على الطبيعة الشخصية للمتلقي للتقييم. مشاركة حصص الملكية مع الموظفين والتقييم المحيطي المستمر قد يكون هو الحل للمرحلة الزمنية القادمة.
رائع جدا
في احد الشركات لمجرد اني اقترحت اقتراح لتطوير العمل انقلب علي هذا الاقتراح ليدخل في تقييمي ليصبح في ادنى مستوياته لأني لم انفذه كما يجب مع انهم لم يوفرو لي الموراد
تعلمت بعدها عدم اقتراح اي شئ فقط نفذ المطلوب
جميييل جدا كل الشكر العنود..
أتفهم أن تعتمد هذا التقييم الشركات والجهات الربحية لأجل البونص آخر السنة..
لكن أن تعتمده جهات حكومية ما فيها بونص فهذي مشكلة صراحة وتقليد أعمى !
العنود بإستمرار أقرأ لفكرك الرائع، بارك ربي في لحظات عمرك.
وشكرًا في توصيفك للوحش، ابدعتي في تشكيله.
شكرًا لك مها
جميل!
مقال جميل. ولكن حتى لو تم توفير أفضل نظام تقييم. الجيل الجديد لن يعجبه شيء وسيستمر بالتذمر
اتفق إلى حد كبير، جزء من ذلك يعود إلى الأزمة الوجودية التي يمر بها أبناء هذا الجيل والأجيال المقبلة، الفردانية، الفراغ القيمي، تأليه الإنسان، الحرية غير المسبوقة (بمعني سقوط الالتزامات)، كلها أمور تضع إنسان هذا العصر والعصور القادمة في ورطة، ستوقعه في هوة كبيرة تجعله في حالة قلق مستمر، لذلك لن يعجبنا شيء ..وسنستمر في التذمر
استفدت كثيرًا من وجهة نظرك ورأيك المهني في التقييم، شكرًا جزيلًا على هذه التدوينة الدسمة
الف الف شكر لك لقد اتضحت لي بعض الأمور التي كنت اراها وأستغربها في مقر العمل
صراحه اعجبني هذا المقال وهذا مانتعايش معاه في هذه الفتره الحاليه ومتبع لدى الشركات واصبح تقييم الاداء ارقام ونسب غير مرضيه ومجزيه ولا القي اللوم على المدراء وانماء اللوم والخطا على اصحاب الفكر الخاطئي الذي ابتدعوه واعتمدوه والادهاء والامر حب الذات ومصلحه اصحاب الشهادات العليا فوق اصحاب الشهادات الاقل مستوى حتى لو ان منهم اقل كفاءه وجوده بالعمل يقيم بتقييم مستثنى بحكم شهادته وليس بحكم عمله وهذا الدارج حاليا والعذر بالاطاله✋