قبل فترة أهداني أحد الأصدقاء، كتاب (The Road Less Traveled) أو «الطريق الذي لا يسلكه الكثيرون» والذي كتبه ونشره الطبيب النفسي « إم سكوت بيك» في عام ١٩٧٨. حقيقةً الكتاب من أروع الكتب التي قرأتها مؤخرًا، لكن هناك جزئية معينة في الكتاب استوقفتني كثيرًا، ألا وهي فكرة الخريطة النفسية التي نخرج بها من مرحلة وندخل بها إلى مرحلة جديدة. لكن قبل أن أسهب في هذه الفكرة، دعني أعطيك خلفية عن ثيمة الكتاب بشكل عام وسريع.
الرسالة الرئيسة التي يحاول «بيك» إيصالها من خلال الكتاب هي أن السبيل للنجاة في هذه الحياة هو استيعابنا أن الحياة عبارة عن سلسلة من المشكلات، حالما نتشرب هذه الفكرة جيدًا، سنستطيع التركيز على إيجاد حلول (طبعًا هذه فكرة تخالف تمامًا الروح الإيجابية التي تنتشر في كثير من كتب تطوير الذات في العقود الأخيرة). والمعضلة أن عملية حل مشكلات الحياة هذه – سواء كانت على مستوى العلاقات، العمل، إلخ – يصاحبها الكثير من الألم والجهد. وطبيعة الإنسان كما يقول «بيك» تدفعه دائمًا إلى الهرب وفعل أي شيء لتجنب هذا الألم. لذلك في أحيان كثيرة يريحنا لعب دور الضحية وتحميل الآخرين مشاكلنا لأن الاعتراف بالمسؤولية تجاه حل هذه المشكلات مؤلم، أو أننا لا نعطي عملية حل المشكلات الوقت كافي لأن استغراق وقت طويل في حلها هو أيضًا أمر مؤلم أو غير مريح على أقل تقدير.
نظرتنا للواقع والخريطة
معظم الناس تتوقف عقولهم عن العمل على خرائطهم عند سن المراهقة
يؤكد «بيك» أن أحد الطرق الناجعة للتعامل مع الألم المصاحب لحل المشكلات هي السعي الدائم نحو البحث عن الحقيقة، «كلما استطعنا رؤية حقيقة العالم بوضوح، كلما استطعنا التعامل معه بشكل أفضل. كلما عجزنا عن رؤية حقيقة العالم بوضوح، كلما كانت عقولنا محجوبة بالفهم الخاطئ، بالتفسيرات الخاطئة، بالأوهام، وبالتالي تقل قدرتنا على تحديد الأفعال الصائبة واتخاذ القرارات الحكيمة».
ويشرح «بيك» أن نظرتنا للواقع أشبه بالخريطة التي ترى من خلالها تضاريس الحياة، إذا كانت الخريطة صحيحة ودقيقة، سنعرف أين نحن، وبالتالي إن أردنا أن نذهب لوجهة معينة، سنعرف بشكل عام كيف نذهب إلى تلك الوجهة. أما إذا كانت الخريطة غير صحيحة، سنكون ضائعين. وبالرغم من أن هذا الأمر بديهي للغاية، إلا أن معظم الناس يختارون أن يتجاهلون القيام به، بحسب قوله.
ويقول، نحن لا نولد بهذه الخرائط، نحن نصنعها خلال نشأتنا – أي خلال المراحل والتجارب المختلفة التي نخوضها. كما أن صنعها ليس بالأمر السهل، فصنع/رسم خريطة صحيحة يتطلب الكثير من الجهد والوقت، لذلك معظم الناس تتوقف عقولهم عن العمل على خرائطهم عند سن المراهقة، فتكون خرائطهم صغيرة جدًا وغير واضحة، وبالتالي تكون نظرتهم للحياة ضيقة ومضللة. أما في منتصف العمر، فمعظم الناس يتخلون عن المحاولة في تجديد خرائطهم، لأنهم موقنين أنهم على حق، وأن خرائطهم كاملة، وبالتالي يعتقدون أنهم ليسوا في حاجة إلى معلومات جديدة. فقط، قلة محظوظة من الناس هم من يكملون في تحديث وتعديل خرائطهم حتى آخر لحظة في حياتهم.
لكن لا تكمن المشكلة في صنع الخريطة، بحسب قول «بيك»، بل في أن علينا مراجعتها وتحديثها باستمرار إن أردنا أن تكون خرائطنا صحيحة، ببساطة لأن العالم يتغير باستمرار. لكن بالطبع عملية مراجعة وتحديث الخريطة مؤلمة جدًا، وهنا يكمن أحد أهم مصادر بلاء الانسان.
بحسب قول «بيك»، عندما نحصل على معلومات جديدة، فإنها في الغالب تشكل تحديًا لخرائطنا النفسية، لأنها تقول لنا أن هناك أخطاء في خرائطنا أو أنا خرائطنا غير صحيحة بالكامل. لذلك عادة ما نتجاهل هذه المعلومات، فتجدنا نسرع بالحكم عليها بأنها خاطئة، خطرة، أو أنها من “عمل الشيطان” (حرفيًا هذا ما يقوله في كتابه)، بل ونفعل ما بوسعنا لنثبت عدم صحة هذه المعلومات التي تتحدانا، ليس هذا فحسب، بل نحن مستعدين بالتلاعب بالعالم/الحقائق أيضًا لنجعلها توافق مع خرائطنا/نظرتنا للواقع، حتى أننا نضع جهد جبار للدفاع عن خرائطنا ذات الصلاحية المنتهية عوضًا عن وضع الجهد ذاته في مراجعتها وتحديثها.
المريض «جيف» وخريطته التي يرى بها العالم
بحكم عمله كطبيب ومعالج نفسي، يذكر «بيك» الكثير من قصص مرضاه كأمثلة توضيحية للأفكار التي يناقشها في الكتاب، وأحد هذه القصص هي قصة شخص – سأدعوه «جيف» من باب التسهيل – بدأ جلسات علاج نفسي لأنه زوجته التي تركته وأخذت معها الأبناء، قالت له أنها لن تعود إليه إلا إذا بدأ في بمراجعة طبيب نفسي. لم يحزن «جيف» على فراق زوجته لكن كان يتألم من فقده لأبنائه، لذلك قرر أن يذهب إلى «بيك».
لم يستمر «جيف» في أي وظيفة لأكثر من ١٨ شهر، فهو عادة ما يطرد من عمله أو يستقيل إثر شجار حدث بينه وبين مدرائه. كما أنه لم يكمل الجامعة. الشرطة أوقفته مرات عديدة، بل أنه حُبس ٣ مرات لارتكابه مخالفات مثل قيادة السيارة تحت تأثير الكحول.
عندما كان «جيف» يتحدث عن الناس من حوله، كان يقول عن معلميه في المدرسة أنهم «حفنة من الأغبياء»، أما مدرائه وزملائه فيصفهم « بالكاذبين والمخادعين الذين لا يكترثون إلا بأنفسهم»، وكان أكثر ما يتردد على لسانه عبارة: «لا يمكنك الوثوق بأي شخص». وعندما سأله معالجه النفسي «بيك» عن طفولته، أجاب «جيف» بأنها كانت طفولة عادية، وأن والديه كانوا عاديين كبقية الأهالي. إلا إنه خلال حديثه، كان كثيرًا ما يذكر مواقف من طفولته قد خيب والداه ظنه فيها، مثلاً يعدانه بقضاء وقت معه في عطلة نهاية الأسبوع ولا يفعلان ذلك، ينسيا اصطحابه من المدرسة، أو ينسيان عيد مولده تمامًا.
كان «جيف» يبرر لوالديه ويقول أنهما مشغولين جدًا، لكن بحسب تحليل معالجه النفسي «بيك»، ما حصل لهذا الرجل هو أنه مع سلسلة خيبات الأمل المؤلمة التي تعرض لها من والديه في صغره، قد توصل في عمر المراهقة إلى استنتاج أنه لا يمكنه الوثوق بأي شخص في هذه الحياة. ومن هذا المنطلق تشكلت خريطته التي خرج منها من عالم الطفولة إلى عالم البالغين، وقد تجلت هذه الخريطة في طريقة تعامله مع زملائه، مدرائه، والديه، زوجته، بل حتى طبيبه النفسي، فبعد عدة جلسات بدأ «جيف» في تقديم أعذار واهية للتخلف عن حضور الجلسات، وعندما رفض طبيبه هذه الأعذار، غضب «جيف» واتهم طبيبه بأنه هو الآخر أناني ولا يمكن الوثوق به…
السعي وراء الحقيقة
أن نفني حياتنا في السعي وراء الحقيقة يعني أن نعيش حياتنا ونحن مستعدون لتعريض أنفسنا للتحدي.
أعتقد أننا بشكل أو آخر كلنا نعيش تجارب تتقاطع مع قصة «جيف»، فنحن لا نريد التعرض للألم المصاحب لعملية مراجعة وتحديث الخريطة، نفعل ما بوسعنا لنتجنب أو نهرب سواء فعلنا ذلك بشكل واعي أو غير واعي. فعلى سبيل بعض الأمثلة التي ذكرها «بيك» في كتابه، عندما يقول الآباء والأمهات لأبنائهم «لا ترد على كلامي أو لا تعارضني»، أو أنهم يمررون رسالة لأبنائهم بشكل مباشر أو غير مباشر من نوع «أنا مُسن، ضعيف، لن أقوى على تحمل مصارحتك، وإلا سيحدث لي مكروه وستعيش في ذنب بسبب ذلك»، فإن ما يقولونه فعلاً هو: «أنا لست مستعدًا للتعامل مع هذه المعلومات الجديدة، لست مستعدًا لمراجعة خريطتي». الأمر ذاته على مستوى العلاقات في العمل أو حتى ما بين الزوجين عندما يمرر آحدهما للآخر رسالة مثلاً: «إن استمريت في إنتقادي فسأجعل حياتك جحيم» أو «لنترك هذه النقاشات ولنكمل اليوم دون نكد». وهذا الأمر ليس مقتصرًا على الأفراد فحسب، بل ينطبق على المؤسسات بمختلف أنواعها، تجارية، سياسة، دينية، إلخ. لا أحد يريد أن تتعرض خريطته للتحدي والمساءلة .لذلك سنفعل ما بوسعنا لندافع عنها لنتجنب الألم المصاحب لتحديثها ومراجعتها، حتى وإن كانت كل الحلول التي نحتاجها ونبحث عنها قابعة وسط هذا الألم.
يرى «بيك» أن نفني حياتنا في السعي وراء الحقيقة يعني أن نعيش حياتنا ونحن مستعدون لتعريض أنفسنا للتحدي. الطريقة الوحيدة التي ستقرب خرائطنا من الواقع هي أن نعرضها للانتقاد والتحدي من قبل الآخرين، وإلا فإننا سنعيش في منظومة مغلقة، أو في «جرة مغلقة» بحسب تعبير الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث التي قالت «كلما أعدنا تنفس هوائنا النتن، كلما أصبحنا معرضين للأوهام أكثر وأكثر».
–انتهى–
مصدر صورة التدوينة pixeleight.in
*ممتنة جدًا للكاتب أحمد مشرف على اقتراحه لهذا الكتاب الرائع
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
شكرا جزيلا واختيارك موفق للكتاب كم نحن بحاجة لمراجعة خريطتنا الذاتية لك جزيل اﻹمتنان
جميسيل
ما دونته هنا حول تحديث الخرائط شيء لا يتقبله كبار المفكرين فما بالك بعامة الناس لكن هو هو
ولا يستطيع عمل هذه المواجهة الا القلة القليلة من الشجعان .
راق لي كثيرا ما دون هنا تحياتي
شكرا لك أحمد
جميل جدا شكرالك🌸