(١)
في خريف ٢٠١٤، كنت في واشنطن دي سي أدرس دورة تحضيرية لاختبار الجي آر إي (GRE) كأحد خطوات التقديم على برنامج الماجستير.
في أحد أيام الأسبوع الثاني من البرنامج وأثناء انغماسي في حل مسألة رياضية مع الأستاذ، دخلَت إحدى مشرفات المعهد وبصحبتها شاب أسود في مقتبل العشرينيات، وسيم، طويل جدًا، تبدو عليه ملامح الهدوء والفطنة مع شيء من القلق والترقّب، شعره قصير ومرتب كشعر طالب نجيب، يرتدي بنطلون جينز أسود يصل إلى نصف الساق وقميص أبيض وأصفر مخطط بالعرض، تتشبث يداه الاثنتان بطرفي حقيبة الظهر التي يرتديها وكأنه يتشبث بطوق نجاة.
قدّمته إلينا المشرفة، وأخبرتنا بأنه قادمٌ من غانا، إحدى دول غرب أفريقيا، ليدرس الماجستير هنا بأمريكا، لم يتفوه الشاب بكلمة، اكتفى بالتقدم في صمت إلى مقعد خالٍ وحيد في آخر الصف. إلتفتت المشرفة إلى الأستاذ الأمريكي الذي يتجاوز الخمسين عامًا من العمر، صاحب النظارات الدائرية ذات الإطار الفضي والشعر الأبيض الأشعث واللذان يتوافقان مع الصورة النمطية لأستاذ الفلسفة، فقد تخرّج هذا الأستاذ من قسم الفلسفة بجامعة شيكاغو، إحدى أقوى الجامعات الأمريكية، إلا أن ظروف الحياة رمته في وسط مجموعة من الطلاب الخليجيين، والصينيين، والأفارقة، واللاتينيين الذين بالكاد يفقهون شيئًا من كلامه. أومأت له المشرفة قائلة: هذا الطالب الذي حدثتك عنه. ثم إلتفتت إلينا منبهة: زميلكم الجديد أصم وأبكم.
(٢)
ظهور هذا الزميل الجديد انتشلني من تركيزي على المسائل الرياضية التي كنت أبغضها وأتعارك معها في ذهني، فبدلاً من التفكير في إيجاد قيمة (س)، أصبحت منشغلة بسؤال: كيف سيفهم زميلي – سأدعوه «أديرا» – شرح الأستاذ الذي لم يبدي أي اهتمامًا لاحتياجات «أديرا» الخاصة في التعلم، بالرغم من أن المعهد الرديء كان قد وعد «أديرا» بأنهم سيولون حالته عناية خاصة وسيحرصون على أخذ احتياجاته التعليمية بعين الاعتبار، إلا أن الأستاذ الذي كانت تمنعه سمنته المفرطة من الوقوف أثناء الشرح وكتابة المسائل على السبورة، كان معظم الوقت يكتفي بشرح المسائل الرياضية شفهيًا وهو جالس على مقعده ومن أمامه طاولته التي تعج بالأوراق وقراطيس ساندوتشتات صب واي (Subway) وعلبة كوكاكولا من الحجم الكبير جدًا. الشرح الشفهي هذا جعل مهمة الفهم والتعلم عند «أديرا» مستحيلة.
كنت أسترق النظرات من مقعدي في الصف الأول، لأتفقد حال «أديرا» الذي بدا تائهًا تمامًا، لا يعلم كيف يتعامل مع الورطة التي وجد نفسه فيها، يستجمع أحيانًا بعض الشجاعة ويطلب من الأستاذ أن يعيد الشرح كتابةً على السبورة، فيستجيب الأستاذ مرة، ويتجاهل ٢٠ مرة.
أَبَى «الفُتُوّة» الذي بداخلي إلا أن يتدخل وينقذ الموقف، فأخذت أنبه الأستاذ بين الحين والآخر ألا ينسى «أديرا» واحتياجه بأن تكون المسائل مشروحة كتابةً، لم تعجب الأستاذ تدخلاتي لأنها تطلب منه أن يبذل جهدًا وهو على ما يبدو لم يكن مستعدًا لذلك.
(٣)
في الأسبوع الثالث، قررت أن أتخلى عن مقعدي في الصف الأول، متنازلة بذلك عن المكان الاستراتيجي المفضل لكل دوافيير* العالم، وأذهب للجلوس في آخر صف، في الجهة اليسرى، قريبة من «أديرا» الذي كان يجلس دائما في الجهة اليمنى. لا أعلم لماذا شعرت أنه من واجبي أن أكون بقربه، خاصة أن أحدًا من الطلاب، البالغ عددهم ربما ١٦، لم يحاول مرةً التحدث إليه أو التعامل معه، كل يوم كان يأتي إلى الصف ويغادره وكأنه غير مرئي، حتى ذلك الوقت، كان التواصل بيني وبينه مجرد نظرات خاطفة وابتسامات صادقة تحاول أن تقول للآخر: أنا آراك.
كنت أريد التحدث معه لكني لم أعرف كيف، أو ربما المانع الحقيقي هو خوفي أن يظن بأنني أتعامل معه بدافع الشفقة، كنت أخشى أني قد أجرح كبريائه أو مشاعره، لكني أخيرًا تشجعت في إحدى الأيام وذهبت إلى طاولته بعد انتهاء الدرس، أخرجت ورقةً وقلمًا أحمرًا، وضعت الورقة على طاولته وهو مندهش يحاول أن يفهم ما يجري، وكتبت بالإنجليزية:
أهلاً «أديرا»، اسمي العنود، من السعودية، سعيدة بلقائك، هذه المرة الأولى التي أقابل فيها شخصًا من غانا، أجد صعوبة في دروس الجي آر إي لكني أفعل ما بوسعي للتعلم، إذا كنت تحتاج لأي مساعدة أو تريد مناقشة أي من المسائل التي شرحها الأستاذ، فيمكننا فعل ذلك في الوقت.
انتهيت من كتابة هذا النص بخط مستعجل وقبيح، رفعت رأسي لأجد ملامح «أديرا» تغيرت وكأنه شخص آخر، وجهه أضاء كمن قيل له أنه سيعيش بعد ما ظن أنه ميت لا محالة، رأيت على وجهه للمرة الأولى ابتسامة تبدأ من شحمة الأذن اليمنى وتنتهي عند شحمة الأذن اليسرى، كاشفة عن أسنان ناصعة البياض وشيء من الفراغ الجميل يتخلل الثنايا العلوية.
تلقف «أديرا» ذو الوجه المضيء الورقة والقلم من يدي وكأنه يتلقف حمامة لا يريدها أن تفلت من بين يديه، وكتب:
شكرًا لكِ العنود، أنا سعيد بلقائك أكثر، نعم أحتاج إلى بعض المساعدة.
تبادلنا الأرقام، خرجت بعدها من الفصل وأنا أتحسّر: تبًا لماذا لم أفعل ذلك منذ اليوم الأول!
في مساء اليوم ذاته، أرسل لي «أديرا» رسالة على الواتس آب يشكرني لأني كنت الوحيدة في الصف التي تحدثت إليه، في الحقيقة، عرفت في وقت لاحق أنني كنت الوحيدة التي أتحدث إليه بجانب عائلته وأصدقائه في غانا والسيدة العجوز الأمريكية التي يشاركها السكن.
أخبرني «أديرا» أن يواجه صعوبة في التعلم، وأنه مستاء لأن المعهد لم يوفي بوعده في تذليل صعوبات التعلم أمامه. أصبحنا نتحدث باستمرار، عن الجي أر إي، عن الغربة في أمريكا، عن الطموحات المهنية، عن ما الذي يعنيه أن يولد الإنسان دون القدرة على السمع و التحدث، عن السعودية، عن غانا، عن الإسلام، عن المسيحية، عن محاولاته الجادة في تعليمي لغة الإشارة وفشلي الذريع في تعلمها.
(٤)
بعد عدة أشهر قليلة من هذا التواصل، وأثناء انخراطي للتحضير لإجراء اختبار الجي آر إي، حدث ما لم يكن بالحسبان، على الأقل بالنسبة إلي…
بدأت أحاديث «أديرا» تأخذ منحًا مختلفًا.
بدى وكأنه متعلق عاطفيًا.
طردت الفكرة من ذهني وقلت ربما يُهيء لي.
حتى فاجأني في أحد الأيام حيث وضح الأمر لي صراحةً.
في تلك اللحظة تجمدت، هرعت نفسيًا إلى مكان بعيد جدًا جدًا، وبدلاً من الرد على رسالته، قمت بحظره من هاتفي، ولحسن حظي في ذلك الوقت كانت دورة الجي آر إي قد انتهت، فلم أكن في مضطرة للقائه.
هكذا.. هربت.
دون الرد على رسالته النصية.
في لحظة اختفيت كليًا من عالمه وكأنني “فص ملح وداب” كما يقولون.
حاول التواصل معي على منصات التواصل الاجتماعي التي كنت أستخدمها آنذاك، حاول أن يستنطقني، أن يعتذر، أن يبرر، أن يعيد الأمور كما كانت عليه على الأقل، لكني حظرته من على جميع تلك المنصات أيضًا.
استجمعت كل قواي العقلية لأنهي الاختبار وإجراءات التقديم لبرنامج الماجستير مع محاولات مستميتة لتشتيت نفسي عن تأنيب الضمير الذي كنت أشعر به، أو ربما الصوت الشنيع في رأسي والذي كان يقول لي: “أنتِ شخص سيء”.
عن مشاعر الرفض
في الثلاثة العقود الماضية، بدأ العديد من علماء النفس في التركيز على دراسة ظاهرة التعرض للرفض وآثاره على الفرد والمجتمع ككل، والمعنى اللغوي للرفض هو عدم قبول ما يتم تقديمه إلينا من أفكار أو أشياء، أما المعنى الاصطلاحي في سياق أدبيات علم النفس هو عدم منح شخص ما الحب أو الاهتمام أو القبول الذي يريده ويتوقعه [١].
تستنتج بعض الدراسات ذات الصلة أن الدماغ لا يفرق بين الألم النفساني والألم الجسماني، فيكون الشعور بالألم الناجم عن التعرض للرفض محفزًا لذات المناطق من الدماغ التي يحفزها التعرض لألم ناجم عن كسر في الذراع مثلاً [٢]، بينما تنظر دراسات أخرى في العلاقة ما بين التعرض للرفض الاجتماعي المكثّف والسلوكيات العنيفة في مجتمعٍ ما [٣].
أيا كان شكل تبعات الرفض، يبقى الشعور الدفين بالألم هو العامل المشترك بين كل أنواع الرفض المختلفة، ولا أظن أننا نحتاج لأوراق بحثية لإثبات ذلك، فكلنا في لحظات معينة عشنا مواقف أو تجارب شعرنا فيها بالرفض وأننا غير مرغوبين أو مقبولين.
إلا أنني أعتقد أن ألم الرفض مضاعف لدينا كأجيال نعيش في هذا العصر الحديث نظرًا لتفكك العلاقات الإنسانية وسوء جودتها، أتخيل أنه كلما حظي الإنسان بشبكة علاقات أو بيئة مُحبة تشعره بالآمان وتؤكد على أنه مقبول لذاته، كوّن مرونة نفسية أقوى تعينه على التعامل مع الرفض بشكل أفضل وتخفف من تبعاته. والعكس صحيح، كلما قلت أو انعدمت هذه العلاقات أو البيئة، كان أثر هذا الرفض أشد وقعًا على النفس، وفي ثقافة تتزايد فيها النزعة الفردانية وتمحور الإنسان حول ذاته، يكون ألم الرفض أكبر وأعمق.
إضافة إلى ذلك، أعتقد أن قيمنا، ومفهومنا للحياة، وبُنيتنا الإيمانية تؤثر على مدى تأثرنا بألم الرفض، فمثلاً عندما يُرفض شخص ما من فرصة وظيفية كان يحلم بها، قد يكون ألم هذا الرفض أقل بكثير إذا كان هذا الشخص يؤمن بمفاهيم مثل “النصيب”، “حكمة الله وقضاؤه”، “الرزق من عند الله”، بينما شخص آخر يؤمن أنه هو المتحكم الوحيد في مصيره، وأنه يستحق لمجرد أنه هو هو، وأن ذكاؤه وقدراته وجهده هي كل ما يحتاج للوصول إلى ما يريده، سيكون شعوره بألم الرفض أعمق.
كذلك في العلاقات الشخصية، الشخص الذي لا يجد معنًا في الحياة إلا بالتواجد في علاقة عاطفية مع شخص آخر، ويعتبر هذا النوع من العلاقات هو المصدر المطلق للانتماء والخلاص، فإن أي تعرض للرفض في هذا السياق سيكون شديد القساوة، في حين أن الشخص الذي يؤمن حقًا أن العلاقة مع الله – وليس مع أي كائن بشري أو شيء مادي – هي المصدر المطلق للانتماء والخلاص، وأن “الحياة الدنيا مؤقتة/فانية” وأن “الخيرة فيما اختاره الله”، سيكون شعوره بألم الرفض أقل وأخف.
لكن في كل الأحوال، يبقى الرفض مؤلم بدرجة أو بأخرى، ويبقى جزء من التجربة البشرية، شئنا أم أبينا، من الطبيعي أن نَرفض وأن نُرفض، تعرضنا له، وقد نكون نعيشه الآن، وبالتأكيد سنتعرض له مستقبلاً بأشكال مختلفة.
الترفّق في وجه الرفض
أنا لا أتحدث هنا عن الرفض العاطفي الذي يتعرض له الأطفال من الأهالي فهذا موضوع آخر شائك وله أهله المختصون.
أنا أتحدث عن الرفض في العلاقات الشخصية، العاطفية تحديدًا، والذي نتعرض له كراشدين.
كون التعرض للرفض تجربة حياتية لا مفر منها – بغض النظر عن فداحة الألم – فلا يعني هذا ألا نسعى لتخفيفها وتعلم كيفية التعامل معها، وإحدى السبل لتحقيق ذلك برأيي هو أن نتبنى الرفق والرحمة واللطف.
سواء كنا الرافضين أو المرفوضين، فمن باب الترفّق بأنفسنا، ألا نظلم أنفسنا باعتقادنا أننا أشخاص سيئون أو ظالمون أو مظلومين، فالأرواح جنود مجندة ما تشابه منها إئتلف وما تناكر منها اختلف، حقيقةً لا يوجد شيء يمكننا فعله حيال ذلك، أو أن هناك ظروف معينة أقوى تمنع منح الحب/الاهتمام/القبول المطلوب، وبالتالي تعرضنا للرفض لا يعني بالضرورة أن “الخلل” يكمن فينا.
حتى عندما نكون نحن من يرفض شخص ما، فاللطف والترفّق خياران حكيمان.
لو عاد بي الزمن إلى اللحظة التي تلقيت فيها رسالة «أديرا» التي جعلتني أفر، لما فررت. لأخذت نفسًا عميقًا، أخذت وقتي، ورددت بكل رحمة ورفق ولطف وتوضيح، ولأنهيت الأمر بطريقة ترفق بالقلوب وتحترمها، وتليق بالعشرة وإن كانت قصيرة، بدلاً من الاختفاء والهروب والحماقة.
أشارك هذه القصة الآن لأني شاهدت قبل عدة أيام فيديو للرائعة هدى أبو احمد، تشير فيه إلى معاناة مجتمع الصم والبكم في محاولة ملاحقة ركب التطور والتعلم في ظل قلة وجود الدعم الذي يحتاجونه، تذكرت حينها قصة «أديرا» ومعاناته في صف الجي آر إي والتي على الأرجح تشكل تحدي بسيط مقارنة بالتحديات والصعوبات القاسية الأخرى التي واجهها في حياته.
الجميع لديه ما يكفيه من المعاناة.
معظمنا، إن لم يكن جميعنا، يضع رأسه على الوسادة كل ليلة وعلى قلبه شَرخ ما، أيًا كان سببه، لا يعلم بهذا الشرخ أحد، ولا حتى الشخص الآخر الذي قد يشاركه ذات الوسادة، لا يعلم بهذا الشرخ إلا الله.
لذلك بعضًا من الرحمة والترفق والتلطف بأنفسنا وبالناس، يهون ألم هذه الشروخ بدلاً من أن يعمّقها…
— انتهى —
*دوافيير: جمع “دافور” وهي كلمة سعودية تطلق على الطالب المتفوق جدًا في الدراسة، يقابلها في اللهجة المصرية مصطلح “الدحّيح”
المصادر:
[١] Cambridge Dictionary
[٢] The pain of social rejection, American Psychological Association, 2012