رمزية “الأخوة الهارونية” عند مريم وموسى عليهما السلام

Alanoud
العنود الزهراني

“الزمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمِّد” – ابن عربي

عندما أتت السيدة مريم بعيسى عليهما السلام إلى قومها قالوا لها “يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا” في سورة مريم، وفي سورة طه التي تليها يقول كليم الله موسى “وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي“، هل هي صدفة أن يُشار إلى أخ يدعى هارون في كلا القصتين ؟ أم هنالك سر في هذه “الأخوة الهارونية” التي تجمع بين مريم وموسى عليهما السلام؟

في رمضان هذا فقط تنبهت لهذا التشابهه وكأني أقرأ هذه الآيات للمرة الأولى في حياتي! لذلك هرعت إلى التفاسير أبحث عن اجابة، غالبية التفاسير  تقول بأن الأخ هارون المذكور في قصة السيدة مريم هو رجل صالح معروف بين القوم شابهتهه السيدة مريم في الصلاح لذلك قالوا “يا أخت هارون” استنكاراً من حملها بالطفل، وتشير التفاسير إلى إن الاسم هارون أتى من باب الصدفة لأن هذا الإسم كان منتشرا في ذلك الوقت، وبذلك لا علاقة للاسم هارون في قصة مريم بقصة موسى عليهما السلام والذي يسبقها بحوالي ١٠ أجيال.

حقيقةً لم تقنعني أياً من هذه التفاسير ولم أجد فيها ما يروي الظمأ فليس القرآن بمحل صدف! كيف تتكرر الأخوة الهارونية في سورتين متتاليتين من باب الصدفة والحق قال “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ“؟

لم أعثر على اجابة شافية حتى الآن لكني وخلال بحثي تكشّفت لي بعض اللطائف التي تجمع مابين السيدة مريم وموسى عليهما السلام والتي لم انتبه لها من قبل (هذه اجتهادات شخصية لذلك هي تحتمل الخطأ).

السر في الاسم؟
ابتداءاً اسم هارون يعني “الجبل” في اللغة العبرية، وأظن أن في الاشارة إلى الجبل أو “مكان” ما يكمن الكثير من السر.

رمزية الجبل
على مر العصور كان الجبل رمز للصلابة والثبات لذلك عند مواجهة السيدة مريم لقومها استدعت صعوبة الموقف التذكير بالصلابة والثبات، الأمر ذاته مع موسى عليه السلام عندما أُمر أن يواجه فرعون، استدعى الموقف استجلاب الصلابة والثبات.

التنحي عن الأهل
كلاً من السيدة مريم وسيدنا موسى تنحى/ابتعد عن أهله وذهب إلى “مكان” قبل أن يأتيه الأمر الإلهي، سيدنا موسى: “فقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا…”، السيدة مريم: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا”.

حدوث الأمر الإلهي
لما ذهب كلاً من موسى ومريم عليهما السلام إلى ذلك “المكان” حدث أمر عظيم.
سيدنا موسى: “فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى” فكان ذهاب سيدنا لهذا “المكان” بداية لأمر عظيم وجديد في حياته وهو انطلاقة نبوته
السيدة مريم: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا” فكان ذهاب مريم إلى هذا “المكان” بداية لأمر عظيم وجديد في حياتها وهو حملها بالنبي عيسى، أيضا هنا تُستَدعَى الصلابة والثبات (رمزية الجبل) وهي ما كان مطلوب من كل من مريم وموسى عليهما السلام حتى يتمكنا من تلقي الأمر الإلهي العظيم.

“المكان”
المعروف أن المكان الذي ذهب إليه سيدنا موسى هو الواد المقدس الواقع في الجانب الايمن من جبل سيناء أو طور سيناء “وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ“، لكن لم يُذكر المكان الذي ذهبت إليه السيدة مريم! وهنا اسمح لنفسي ببعض من التفسير المتكلّف :)! لعل – أقول لعل- المكان الذي ذهبت إليه هو جبل الزيتون بفلسطين (يسمى أيضا جبل الطور)
لماذا قلت بهذا؟ أولاً: رمزية الجبل في اسم هارون، ثانياً: التشابه في تلقي الأمر الإلهي، ثالثاً: أن جبل الطور/الزيتون يقع في القدس الشرقية أو شرق بيت المقدس والله قال “إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا“، وأخيراً: كثير من المصادر تذكر أن قبر السيدة مريم موجود في هذا الجبل و قيل أنه الجبل الذي عُرج منه سيدنا عيسى إلى السماء مما قد يعني أنها وابنها عليهما السلام عاشوا هنالك والله أعلم.

“الكلام”
ماذا حدث عندما ذهب كلا من موسى ومريم عليهما السلام إلى الجبل/المكان؟ سيدنا موسى كلمه الله و سيدتنا مريم أُلقيت إليها كلمة الله “إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ” وقد قرأت في تفسير القرطبي في موضع آخر عن تعريف الكلام أن “الكلام ما استقل بنفسه من الجمل” ولعل – أقول لعل- أن في ذلك إشارة إلى استقلال النتائج عن المسببات في سياق قصتيّ مريم وموسى عليهما السلام – أو بمعنى آخر حدوث المعجزات – أو تجلي ل”كن فيكون”:
مع سيدنا موسى: “قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى” “وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ
مع السيدة مريم :”قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا“.

“صراع الأم”
الأُمّان في كلا القصتين واجهتا صراعا نفسيا في التعامل مع طفليهما، في قصة سيدنا موسى، “إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ” “وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا” وكأن الصراع والألم اللذان خاضتهما أم موسى عند إلقاء ابنها في اليم نتج عنهما بفضل الله سلامة موسى من الذبح حتى يكبر و يُنادى من المكان ويصبح بعدها كليم الله، أما في قصة السيدة مريم هي أيضا “فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً” فكان صراعها النفسي وألمها هنا مكان و مشكاة خروج نبي بار هو آية للعالمين.

والله وحده أعلم وأكرم وأوسع وأجمل…

–انتهى–

٢٣ رمضان ١٤٣٨

 

 

 

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

أهم المــــــقالات

5 طرق مملة لتصبح أكثر ابداعًا

متابعة قراءة

ماذا يعني أن تحب على مذهب الفقيه الأندلسي ابن حزم ؟

متابعة قراءة

أنا موجود، إذن أنا أستحق: تأملات مشكِكة في مفهوم الاستحقاق

متابعة قراءة
Subscribe
Notify of
guest

3 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
safa

تأمل عجيب.. لفتني جداً هذا التدبر وتقصي المعاني وربطها..
مايعادل لذة البحث في القرآن شيء
عندي يقين ( إنه لقرآن كريم )
الله يفتح لنا جميعاً ونشوف عظمته وقدرته وجماله ♥️

يوسف حامد

لأول مرة الاحظ هذا التدقيق
وأتأمل الآية..
فتح الله عليكِ وأعانك ووفقك.