ترجمتُ هذا المقال لمارك مانسون بتصرّف
بحكم التعريف، يمكن القول أن الإبداع هو عكس الممل، فإذا كان شيء ما إبداعي، فلأنه يثير درجة من المفاجأة أو الإثارة بداخلنا – فهو يعيد تشكيل الوجود بطرق لم نكن نتخيلها من قبل.
المبدعون ليسوا مملين، العمل الإبداعي ليس مملاً، لذلك نفترض أن سر النجاح الإبداعي يجب ألا يكون مملًا.
كان لدي صديق في الكلية أراد أن يصبح روائيًا مشهورًا، فقام بعد التخرج بشراء تذكرة ذهاب من دون عودة إلى باريس، وتعمّد أن يصبح بلا مأوى لمدة تقارب الثلاثة أسابيع، معتقدًا أنه كان عليه أن يعاني عاطفيًا ليجد مصدر إلهام لفنه، وبعد عدة سنوات التقيت برجل في فرقة موسيقى البانك في بوسطن كان مقتنعاً أن استخدامه للهيروين لم يكن إدمانًا بل جزءً من عمليته الإبداعية، لأنه على حد تعبيره «لم يكتب أي شيء جيد خارج تأثير الهيرون».
وبالتأكيد إذا نظرنا إلى أعظم العباقرة المبدعين في التاريخ، فهناك العديد من الحكايا عن كونهم مجانين، فمثلاً اعتقد «إيغور سترافينسكي» أنه لن يكون ملهَمًا وقف على رأسه، وفي الأيام الأولى لشركة آبل ورد أن «ستيف جوبز» كان يغمر قدميه في مراحيض الحمام ليصفي ذهنه قبل الاجتماعات، وقد دخل «فينسنت فان جوخ» مرة في جدال مع شريكه في السكن، فقلع جوخ أذنه، ولفها كهدية – لا يريدها أن تضيع هباءً – وأعطاها لفتاة الهوى المفضلة لديه كتذكار.
نعم، كلمة “ممل” هي الكلمة الأخيرة التي قد تستخدمها لوصف عباقرة العالم المبدعين، وبالفعل، فإن عملهم ينم عن أي شيء ما عدا الملل.
لكنني سأطرح حجة مختلفة، وهي أن عملية الإبداع مملة بالفعل، ولأنها مملة فإن الإبداع نفسه قابل للتكرار، فالإبداع شيء يمكن أن تمارسه أنت وأنا وأي شخص آخر ونتقنه [1].
ولأن المبدع وعمله ليسا مملان، فإن التاريخ والعلم يعلمانا أن العملية التي تولد عملاً رائعًا هي مملة بالضرورة، وهذه أخبار جيدة بالنسبة لنا.
موضوعات المقالة:
0 – ما الذي يعنيه أن تكون مبدعًا؟
1- ركز على القيام بالعمل وليس على ومضات الإلهام
2- افعل الأشياء الاعتيادية
3- كن ملولاً، لا مشتتًا
4- ابحث عن أكثر الأشخاص ابداعًا واسرق منهم
5- تعامل مع الأفكار على أنها استثمار، اشتر بسعر منخفض، وبِع بسعر عالٍ
0 – ما الذي يعنيه أن تكون مبدعًا؟
الإبداع هو رقصة دقيقة بين الابتكار والقيمة [2]، لكي يكون الشيء إبداعي، يجب أن يكون جديدًا ولكن مفيد بطريقة ما أيضًا.
وبالرغم من أننا نفكر في الإبداع على أنه صنع شيء فريد، إلا أن معظمه ليس كذلك، في الواقع، معظم ما نعتقد أنه “جديد” هو ببساطة شيء قديم أُعيد صياغته بطرق جديدة أو غير متوقعة [3].
على سبيل المثال، تم تجديد معزوفة «كانون إن» للملحن «يوهان باتشابيل» من القرن السابع عشر بأدوات حديثة مئات المرات لإنتاج عشرات الأغاني الناجحة في العقود القليلة الماضية.
معظم الأفلام أو الكتب الإبداعية تأخذ ذات النقاط من حبكة قديمة وتضيف نوعًا من التحولات الجديدة، أو الديناميكية غير المتوقعة، على سبيل المثال، كان أحد أسباب نجاح مسلسل «Breaking Bad» هو أنه أخذ قصة عامة عن تجارة المخدرات، واستبدل الشخصية الرئيسية بشخصية لرجل أبيض من الطبقة الوسطى تحاكي حياته حياة معظم الأمريكيين، وببساطة أدى تبديل هذا العنصر إلى إنشاء قصة تبدو جديدة كليًا.
يسمي الباحثون هذا الأسلوب بـ«التفكير المتشعب» وهو أحد أفضل مؤشرات الإبداع القابلة للقياس، بالإضافة إلى أنه أحد أفضل المهارات لتعلم ما إذا كنت تريد أن تكون أكثر إبداعًا [4]، فبدلاً من أن تسأل نفسك: «كيف يمكنني خلق شيء جديد؟» اسأل نفسك: «كيف يمكنني تجديد شيء قديم؟».
حتى عملي الإبداعي يتبع هذا الأسلوب، فمن أكثر الانتقادات الشائعة التي لاقتها كتبي هو أنني لم أستحدث معظم النصائح التي أقدمها.
حسنًا…بالطبع لم أستحدثها! هل تعتقد حقًا أنني سأنافس أرسطو وبوذا؟ هذه النصيحة أو تلك موجودة منذ آلاف السنين، كل ما قمت به ببساطة هو إعادة تجميعها بشكل جديد ومثير للاهتمام، وحولت التركيز من بعض النقاط إلى أخرى، وأضفت أفكاري لإضفاء عنصر الإثارة، فبدلاً من التركيز على السعادة والإيجابية، أركز على الألم، بدلاً من أن أبيع رؤية للنجاح للأشخاص اليائسين، أساعد الناس على التساؤل حول تعريفهم للنجاح، بدلاً من محاولة أن أبدو كشخص متسلط أخرق، أستخدم عبارات مثل «متسلط أخرق».
وقد نجح هذا الأمر بالفعل، الملايين من الناس الذين لا يؤمنون بهراء تطوير الذات الذي يبع أوهامًا، يشعرون بالسعادة، يقدرون فهلاً أصالة الطريقة التي أكتب بها.
وهذا ما يقودنا إلى الجزء الثاني من العمل الإبداعي: إضافة القيمة، العمل الإبداعي ليس إبداعيًا لمجرد أنه “جديد” – بل لأنه أيضًا يضيف قيمة ما إلى العالم.
يمكنني كتابة سيمفونية مدتها ساعة، لا تتكون من شيء سوى صوت ضغطة الإبط، أو يمكنني ابتكار “مشروب حمية” جديد يتكون من وبر البطن والماء، فالبرغم من أن هذه الأشياء ستكون “جديدة” بالتأكيد، إلا أنه لن يكون لها أي قيمة بكل تأكيد، وبالتالي لن نعتبرها إبداعية.
أما بالنسبة للأشياء التي تضيف قيمة ولكنها ليست جديدة، فإننا نعتبرها عمومًا سرقة لشيء ما أو لشخص آخر. فكر في الأفلام التي تعيد هوليوود إنتاجها ثمانية عشر مرة – ما زلتَ تدفع مقابل مشاهدتها بالرغم من علمك أنه ربما لا يوجد شيء مبدع أو مبتكر فيها.
من ناحية أخرى، الأشياء الجديدة التي لا تضيف قيمة نرى أنها بدائية، ولا طعم لها، وغير ناضجة، أعني أي قيمة في: سمفونيات من صوت ضغطة الإبط وماء من وبر سرة البطن!
ليس من السهل المزج بين الابتكار والقيمة، فهذا يتطلب خوض الكثير من التجارب، ويتطلب مراقبة ردة فعل الناس، وفهم جمهورك وقيمهم، الأمر يتطلب شحذ وإتقان لحرفتك على مدى سنوات عديدة من الممارسة [5].
وهنا يأتي دور العمل الجاد للإبداع، فمقابل كل سمفونية عبقرية أو أداة تكنولوجية تذهل العقل، هناك العشرات إن لم يكن المئات من الأفكار الفاشلة، مقابل كل أغنية ناجحة لفرقة ما، على الأرجح هناك 6 ألبومات لهذه الفرقة لم يسمع بها أحد، مقابل كل اكتشاف علمي هائل، هناك مئات النظريات التي لم تثبت صحتها.
الإبداع في حقيقته عمل شاق، وككل الأعمال الشاقة، يتطلب الإبداع الأمثل درجة معينة من الروتين والتكرار.
ولهذا فإن الإبداع نوعًا ما ممل بشكل خفي.
يتضح لنا الآن أن الإبداع مهارة، ومثل أي مهارة، يمكنك التدرب عليها وتحسينها، في الواقع، مجرد إدراك مفهوم الإبداع وكيفية عمله في حد ذاته أمر مهم [6].
لذلك، إليك بعض الأشياء المهمة التي قد لا تكون مثيرة لكن يجب فعلها لتصبح أكثر إبداعًا في حياتك.
1- ركز على القيام بالعمل وليس على ومضات الإلهام
نُشرت نظرية «تشارلز داروين» عن الانتقاء الطبيعي منذ أكثر من 160 عامًا ولا تزال تُعتبر واحدة من – إن لم تكن أكثر – الأفكار المبتكرة في تاريخ العلم.
إلا أن «داروين» لم يكن لديه لحظة “إلهام” حول الانتقاء الطبيع؛ لم تضاء لمبة في رأسه.
الحقيقة نوعًا ما مملة، فقد درس «داروين» آلاف الأنواع المختلفة من النباتات والحيوانات في قارات متعددة لعدة عقود، وقام بتدوين الملاحظات، ورسم الصور، والتجول، والتحدث مع السكان المحليين، وعلماء آخرين، ثم كتب مشاهاداته في مذكراته.
لقد توصل إلى نظرية الانتقاء الطبيعي خطوة بخطوة على مدار سنوات عديدة من الدراسة الهادئة [7]، وحتى عندما تشكلت لديه نظرية شبه مكتملة، فقد استغرق وقتًا إضافيًا للتفكير فيها، تواصل مع علماء آخرين للحصول على ملاحظاتهم، وبعدها شرع في نشر نظريته، بعد أن أمضى سنوات عديدة في كتابة أشهر أعماله وهي «أصل الأنواع».
بشكل عام، أمضى «داروين» أكثر من عشرين عامًا من حياته للخروج بالانتقاء الطبيعي.
ولكن كما يحدث عادةً حاول العديد من الناس أن ينسبوا الانتقاء الطبيعي إلى ضربة من عبقرية «داروين»، لكن هذا أثار استياء العالم المُسن، فقد أمضى حياته في جمع البيانات من أماكن غامضة ومحاولة فهمها، ولكن ها هم الناس يريدون اعتقاد أنه استحدث نظريته من فراغ، وقد أكد مرارًا وتكرارًا على حجم العمل الذي صنع نظريته الجديدة.
يبدو أن هذا الموقف المتمثل في «اخرس واذهب إلى العمل» يتبناه معظم المبدعين العظماء، سر نجاح «ستيفن كينج» الأدبي، على حد تعبيره، هو ببساطة كتابة 3000 كلمة يوميًا، بغض النظر عن أي شيء، ثم حذف كل ما هو سيئ (وهو معظمه) [8].
قبل أن يحققوا نجاحًا كبيرًا، عزفت فرقة «البيتلز» 5 أو 6 ساعات يوميًا لمدة عامين تقريبًا كفرقة غير معروفة في النوادي الليلية الألمانية، في وقت لاحق عزا «لينون» و«مكارتني» غزارة إنتاجهم المذهلة وصعودهم إلى الشهرة إلى هذا الماراثون من الممارسة والأداء اليومي، وعلى مدى الثماني سنوات اللاحقة، استمرت فرقة «البيتلز» في إصدار ثلاثة عشر ألبومًا، جميعها حققت نجاحًا هائلاً.
فكرة أن الإبداع يحدث بسبب بعض من الإلهام المفاجئ ما هي إلا خرافة، فالإلهام يحدث من خلال العمل وليس قبله، كما قال فنان البورتريه الشهير «تشاك كلوز»:
«الإلهام للهواة، أما نحن [الفنانين] فنستمر في العمل يوميًا، كل فكرة رائعة طرحتها ولدت قلب من العمل نفسه»
المبدعون لا “يبحثون عن الوقت” ليكونوا مبدعين، بل يكرسون وقتهم ليكونوا مبدعين.
ليس من المستغرب إذن أنه عندما تنظر إلى العباقرة المبدعين عبر التاريخ بحثًا عن القواسم المشتركة بينهم، ترى جليًا أنهم ببساطة ركزوا على القيام بعملهم – فنهم – أكثر من معظم الناس، ولمدة أطول من تلك التي يقضيها معظم الناس، هناك علاقة شبه مباشرة بين حجم وغزارة العمل الذي انتجه شخص ما وبين مدى أصالة والابتكار في عمله.
- قام كل من «موزارت» و«بيتهوفن» بتأليف أكثر من 600 مقطوعة موسيقية، في حين أن معظم الفناين المعاصرين في زمنهم كان متوسط إنتاجهم أقل من 100 مقطوعة.
- أنتج «بيكاسو» العديد من القطع التي لا يزال علماء الفن لا يستطيعون حصرها، لكن بعضهم يقدر أن عددها تجاوز 50000 قطعة فنية على مدار حياته، في حين أنتج معظم الفنانين المحترفين الآخرين بضع مئات إلى بضعة آلاف على الأكثر.
- كتب «مارك توين» 22 رواية، ومئات القصص القصيرة، وعشرات الكتب الواقعية المليئة بالمقالات والمذكرات والهجاء، وكتاب شعر وسيرة ذاتية، في المجمل نشر «توين» ما يقارب الثمانين كتاب في أقل من خمسين عامًا، وهو مستوى مذهل من الإنتاج لأي مؤلف.
- تشير الدراسات إلى أن الفائزين بجائزة نوبل ينتجون ضعف العمل الذي ينتجه أقرانهم في نفس المجال [9].
وبذلك يتضح لنا أن السر وراء “العظماء” المبدعين عبر التاريخ لا يكمن في كونهم عباقرة مبدعين، بقدر كونهم عباقرة في أخلاقيات العمل.
وإذا استخدمنا تشبيه من رياضة كرة السلة، فنقول أن هؤلاء العباقرة استطاعوا تحقيق العديد من الأهداف ليس لأنهم لم يخطئوا في التصويب، بل لأنهم قاموا بالعديد من التسديدات مقارنة بغيرهم.
تقتضي طبيعة التاريخ والذاكرة البشرية أن نتذكر ما هو عظيم وننسى الباقي، من السهل أن نفترض أن شخصًا مثل «توين» أو «بيكاسو» أنتج ببساطة بعض الأعمال الرائعة، في حين أن أنهم بذلوا جهودًا كبيرة في مهنتهم لعقود طويلة حتى انتهى بهم الأمر مع مجموعة من الأعمال الكلاسيكية التي نقدرها اليوم [10].
أو كما قال «أينشتاين» ذات مرة: «االمسألة ليست أني ذكي جدًا، أنا فقط أجلس مع المشاكل لفترة أطول».
2- افعل الأشياء الاعتيادية
في بداية المقال ذكرت بعض المبدعين المشهورين الذين ارتكبوا بعض الأشياء الخاطئة والإبداعية في حياتهم، غالبًا ما يتم تصوير العباقرة المبدعين على أنهم غريبو الأطوار، وبالتأكيد هم كذلك في بعض الأحيان..
لكنهم في الغالب ليسوا كذلك.
«إرنست همنغواي» هو على الأرجح أحد أشهر المؤلفين الأمريكيين في القرن الماضي، تمت محاكاة أسلوبه في الكتابة من قبل الجميع، ابتداءًا من مدرسي اللغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية إلى الروائيين الطموحين وحتى مؤلفي الإعلانات. يحب الناس تصور «همنغواي» وهو ينقر على آلة كاتبة في أحد الأكواخ المظلمة البعيدة في كوبا في منتصف الليل، وبجواره زجاجة شراب. صحيح أن هذا ما كان يفعله على الأرجح في سنواته الأخيرة، إلا أنه في معظم حياته لم يكن إلا شخص يعيش حياة تفتقر إلى الإثارة.
بدأ مسيرته الكتابية كمراسل صحفي في مدينة «كانساس سيتي» قبل أن يغادر إلى الجبهة الإيطالية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث عمل هناك سائقًا لسيارة إسعاف، وبعد الحرب عمل كمراسل لعدة منشورات إخبارية مختلفة، وهي وظيفه دعمته ماديًا في الوقت الذي كان يعمل على كتابة بعض أشهر أعماله.
بعبارة أخرى: كان لديه وظيفة يومية خلال معظم مسيرته الأدبية.
هذا الأمر شائع بين الفنانين أكثر مما يعتقده الناس، مثلاً كان «سلمان رشدي» مؤلف إعلانات لوكالة إعلانية كبيرة في نيويورك، فكان خلال النهار يكتب حملات إعلانية، وفي الليل يعمل على رواياته.
عمل «آندي وارهول» في قسم الإعلانات بإحدى المجلات، وكان مصمم أحذية في إحدى الشركات. ومن خلال هذه الوظائف جرب العديد من التقنيات التي ساعدته لاحقًا على تطوير أسلوبه الشهير في التصميم.
معظم ما هو موجود على الإنترنت سيجعلك تعتقد أن الوظائف المملة والمستقرة تقتل الإبداع بطريقة ما، لكن في كثير من الحالات، هذه الوظائف المملة هي ما أمنت حياة كريمة لهؤلاء الفنانين، وبالتالي أعطتهم الفرصة للتركيز على صقل حرفتهم وأعمالهم الفنية.
3- كن ملولاً، لا مشتتًا
ربما تكون أكثر الطرق مللاً لتكون أقل مللاً وأكثر إبداعًا هي …الملل نفسه.
التحديق في الصفحة الفارغة في الوقت الذي تفضل فيه التحديق في هاتفك، الجلوس أمام اللوحة القماشية في الوقت الذي تفضل فيه الجلوس أمام التلفزيون، برمجة التطبيقات في الوقت الذي تفضل فيه تناول الطعام في آوت باك ستيك هاوس [11].
كتب أفلاطون أن الملل هو أم كل الاختراعات، تصبح عقولنا مبدعة لأنها تساعدنا على تجنب القلق المتأصل حيال وجودنا.
هل أجرب شيئًا جديدًا؟ شيء قد يساعدني أو لا؟ شيء قد أبرع فيه…أو أفشل فيه تمامًا؟ هل أجلس هنا؟ إلهي أوقف هذا التفكير! أين هاتفي ؟؟؟
لقد أصبح المجتمع الحديث بكل أجهزته البراقة (وقطع بصل بلومين) جيدًا في إلهاءنا عن هذا الملل والقلق.
لكن بوجود البيئة المناسبة فإن الملل والقلق هما ما يغذيان المبدعين [12] [13]، فبدلاً من الابتعاد عن الرهبة الوجودية التي يفرضها عليهم الملل، فإنهم يستخدمونه لخلق شيء ما.
عندما يتم استغلال القلق في خلق شيء ما، فيمكن أن يكون القلق محفزًا عظيمًا للإبداع، فقط إن قمت بالتحديق في وجهه [أي عدم الهروب منه] [14].
قبل عامين عندما كنت أعمل على كتاب «خراب: كتاب عن الأمل»، استأجرت مساحة عمل مشتركة بالقرب من شقتي، شعرت بالغباء لكن كانت المشتتات كثيرة في المنزل، كنت أذهب كل يوم إلى مساحة العمل المشتركة، وأترك هاتفي في المنزل، وقد قمت بحظر جميع وسائل التواصل الاجتماعي والمشتتات على الكمبيوتر، وبمجرد وصولي إلى المكتب، كنت أجلس في شلل مؤلم يستمر أحيانًا بضع دقائق وقد يصل إلى ساعات قبل أن أبدأ في الكتابة.
ما تعلمته خلال ذلك العام هو أنه لا يوجد فرق بين الإلهام وغياب المشتتات، كلاهما الشيء ذاته.
4- ابحث عن أكثر الأشخاص ابداعًا واسرق منهم
يحلم العديد من الأشخاص بإيجاد ذلك الشيء الأصلي والفريد من نوعه، بحيث لن يكون أمام الناس خيار سوى ترك كل ما بيدهم والتحديق فيه لعبقريته، تدفع هؤلاء الأشخاص فكرة ابتكار الأغنية/التصميم/المنتج الكبير/أو أيًا كان الذين ينتظرون أن يجدوه ليميزهم عن الآخرين.
… فينتهي بهم الأمر بالانتظار إلى الأبد وعدم القيام بأي شيء.
هناك مقولة مشهور لـ«بيكاسو» تقول: «الفنانون الجيدون يستعيرون، أما الفنانون العظماء يسرقون»، والذي قصده بذلك هو أنه فعليًا لا يوجد شيء جديد، والفنانين العظماء يفهمون ذلك، إنهم يدركون أن الإبداع ليس اختراعًا بل إعادة الاختراع.
تشير الأبحاث إلى أن عملية الإبداع تبدأ أولاً بغمر نفسك في المجال الذي تهتم به [15]، وهذا يعني: أولاً، ادرس وابحث بجدية قبل إضافة شيء جديد (وقيِّم!) إلى ما هو موجود، عليك أن تتعرف أولاً على ماهية هذا العمل، وأن تكون جيدًا بما يكفي لمحاكاته على الأقل إن لم تتجاوزه.
هذا ما يفعله الموسيقيون عندما يتعلمون أغاني الآخرين، كما يفعل الكتاب ذلك عندما يقرؤون كتب كتّاب آخرين ويحاولون الكتابة بأسلوب يشبه أسلوبهم، ويفعل الرسامون ذات الشيء عندما يحاولون محاكاة رسامهم المفضل، ويقوم رواد الأعمال أيضًا بذلك عندما يقومون بنسخ نموذج عمل أثبت ناجحه ومن ثم تعديله.
هذه الفكرة هي بمثابة حجر الأساس لعملية الإبداعية، حيث توفر قدرًا كبيرًا من المعرفة والخبرة حول العناصر التي يمكن إعادة مزجها مع بعضها البعض للتوصل إلى عمل إبداعي جديد. الإبداع هو انغماسك في المجال الذي تختاره، إضافة إلى مساهمتك في هذا المجال وتطويره.
لم يخترع «ستيف جوبز» الكمبيوتر الشخصي، لم يخترع الماوس أو واجهات رسومية، لم يخترع مشغلات MP3 أو الهواتف الذكية، لم يخترع الأجهزة اللوحية، أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة، أو الأجهزة القابلة للارتداء، حرفيا لم يخترع شيئًا.
كل ما فعله هو تطوير أشياء موجودة مسبقًا.
ابحث عن الأشخاص الذين تريد تقليدهم وابدأ في محاكاتهم، احصل على وظيفة، أو تدريب مهني مع شخص لديه خبرة أكثر منك، افعل كل ما يطلبه منك، ثم افعل المزيد بنفسك [16].
أنت لا تطور أسلوبك الخاص أو صوتك من لاشيء، يمكنك تطويره من خلال فهم أسلوب شخص آخر وصوته أولاً، ثم تميز نفسك عنه بإنشاء أسلوبك الخاص.
5- تعامل مع الأفكار على أنها استثمار، اشتر بسعر منخفض، وبع بسعر عال
من المؤكد أن عالم الاستثمار ليس معروفًا بكونه مرتعًا للإبداع، الأسهم، والسندات، وأسعار الفائدة، والضرائب، والتقارير ربع السنوية، والتقارير السنوية، والمعاشات، والمخططين الماليين، وتعديلات التضخم…أشعر بالنعاس لمجرد كتابة هذه الأمور.
كل هذه الأمور قد تسبب لك الملل لدرجة تشعر أنك تريد طعن نفسك بملعقة صدئة، لكن القاعدة الذهبية للاستثمار هي الشراء بسعر منخفض والبيع بسعر مرتفع، ويمكن لهذه الفكرة أن تعلمنا شيئًا عن الإبداع.
طبعًا عندما تقوم باستثمار مالي من أي نوع، فإن هدفك هو شرائه بأقل سعر ممكن، وبيعه بأعلى سعر ممكن، وبالتالي تربح من الفرق.
غالبًا ما يبحث المستثمرون الأذكياء عن فرص الاستثمار التي يوجد فيها عدم تطابق ما بين الفرص المحتملة وتوقعات الناس، أي أنهم يحاولون شراء الشركات ذات قيمة أكبر مما قد يظنه معظم الناس، ثم بيعها بمجرد أن يصبح تصور السوق للشركة أكثر دقة.
لدى الفن الكثير من أوجه التشابه مع الأسهم المقيمة بأقل من قيمتها [17]، في البداية عندما يسمع الناس عن فكرة جديدة غالبًا ما سيضحك أكثرهم عليها ويعتبرونها سخيفة، أو غريبة، أو غير ضرورية، أو غبية، هنا “يشتري” الفنان الفكرة بقيمتها المنخفضة، ثم يجد طريقة لتجديدها و “قلبها” إلى شيء ذي قيمة أعلى يفهمه العالم ويقدره.
كانت بداية موسيقى البانك نوعًا غامضًا ناشئ من مراهقين غاضبين حتى “قلبه” الفنان «كورت كوبين» إلى موسيقى الروك السائدة، كان يُنظر إلى أجهزة الكمبيوتر الشخصية على أنها باهظة الثمن وغير عملية إلى أن أنشأ «بيل جيتس» برنامجًا بسيطًا وقابلاً للتطبيق على كل الأجهزة، فاستطاع الجميع أن يرى قيمتها.
ولهذا السبب أضحك في النهاية عندما أتلقى نقد من نوع: «لم تأت بشيء جديد!».
بالطبع لم أفعل! لكن هل فكرت في قراءة 700 صفحة من الفلسفة الألمانية وتلخيص النقاط الرئيسية في رسالة بريد إلكتروني؟ هل أعدت تجميع الحجج الوجودية للمسؤولية في عصر المعلومات؟ هل وجدت قصصًا رائعة عن أبطال الحرب العالمية الثانية المجانين الذين لم يسمع بهم أحد من قبل وقصصتها في توازن مثالي بين لغة شوارعية وهيبة؟
لا أعتقد ذلك، وهذا لأنني أقوم بالعمل الفني المتمثل في الشراء بسعر منخفض والبيع بسعر مرتفع.
بقدر ما قد يكون هذا التشبيه مملًا ومدمِّرًا للروح، إلا أنه حقيقي، افهم سوقك، تعلم كيفية اكتشاف الأفكار والأصول المقدرة بأقل من قيمتها الحقيقية، طوّر مهارة إعادة توظيفها في شيء يستمتع به الناس ويقدرونه.
هذه هي! هذا هو الإبداع.
مصدر صورة التدوينة: LSE Blog
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
المصادر:
- Sternberg, R. J. (2019). Enhancing People’s Creativity. In J. C. Kaufman & R. J. Sternberg (Eds.), The Cambridge Handbook of Creativity (2nd ed., pp. 88–104). Cambridge University Press.↵
- Runco, M. A., & Jaeger, G. J. (2012). The Standard Definition of Creativity. Creativity Research Journal, 24(1), 92–96.↵
- For a cool explanation of this phenomena, check out the YouTube documentary, Everything is a Remix.↵
- Scott, G., Leritz, L. E., & Mumford, M. D. (2004). The Effectiveness of Creativity Training: A Quantitative Review. Creativity Research Journal, 16(4), 361–388.↵
- Epstein, R., Schmidt, S. M., & Warfel, R. (2008). Measuring and Training Creativity Competencies: Validation of a New Test. Creativity Research Journal, 20(1), 7–12.↵
- Karpova, E., Marcketti, S. B., & Barker, J. (2011). The Efficacy of Teaching Creativity: Assessment of Student Creative Thinking Before and After Exercises. Clothing and Textiles Research Journal, 29(1), 52–66.↵
- Gruber, H. E. (1981). Darwin on Man: A Psychological Study of Scientific Creativity (2nd edition). University of Chicago Press.↵
- Stephen King described his writing process in his excellent book which is aptly titled, On Writing: A Memoir of the Craft.↵
- Conroy, G. (2020). Early career success: Nobel Prize winners are twice as productive from the start. Nature Index.↵
- Cotter, K. N., Christensen, A. P., & Silvia, P. J. (2019). Creativity’s Role in Everyday Life. In J. C. Kaufman & R. J. Sternberg (Eds.), The Cambridge Handbook of Creativity (2nd ed., pp. 640–652). Cambridge University Press.↵
- I apologize to my Aussie readers for bringing up this travesty of a restaurant chain.↵
- Mann, S., & Cadman, R. (2014). Does Being Bored Make Us More Creative? Creativity Research Journal, 26(2), 165–173.↵
- Hunter, J. A., Abraham, E. H., Hunter, A. G., Goldberg, L. C., & Eastwood, J. D. (2016). Personality and boredom proneness in the prediction of creativity and curiosity. Thinking Skills and Creativity, 22, 48–57.↵
- This is a great example of what I meant when I said negative emotions can be a catalyst for real growth.↵
- Sawyer, R. K. (2011). Explaining Creativity: The Science of Human Innovation. Oxford University Press.↵
- Research on creativity shows that a supportive environment that fosters both autonomy and interaction with other like-minded people in the field can have huge impacts on creative outcomes. For a review of these studies, see: Hunter, S., Bedell, K. E., & Mumford, M. D. (2007). Climate for Creativity: A Quantitative Review. Creativity Research Journal, 19(1), 69–90.↵
- There’s actually a theory in social psychology called “The Investment Theory of Creativity” that argues just this. See: Sternberg, R. J., & Lubart, T. I. (1991). An Investment Theory of Creativity and Its Development. Human Development, 34(1), 1–31.↵
لفت نظري الفرق بين الملل والتشتت..استمتعت بالقراءة
العنود أنتِ مبدعة
شكرا لك
بورك جهدك في الترجمة 🌸.. مقالة حقيقية تستحق القراءة نظرا لكثرة المغالطات المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي عن العمل الإبداعي
تدوينة رائعة جدا
شكرا جزيلا على المشاركة
كل الإحترام 🙏🌷
شكرًا على المتعة التي منحتِها 🙂
وصحيح أنّكِ لم تخترعي شيئًا جديدًا إلا أنّ مجرّد التفاتِك للموضوع ووضعه بين أيدينا بهذه اللغة السلسة الجميلة بحدّ ذاته إبداع!
نحبّ وجودك وما تنشرين 🙂
موجهود تشكرين عليه و إختيار موفق.
كتير حلو المقال وكفيتي ووفيتي بالترجمة.
شكرا على هالمقاله الرائعه
حبيتها الصراحه مفيده بس مو شي جديد
[…] تقاطعت هذه (الاستنارة) مع تدوينة العَنُود الزهراني: 5 طرق مملة لتصبح أكثر ابداعًا، والتي أكدّت فيها على أن الملل هو الدافع خلف الإبداع […]