صورة المقالة: لوحة للفنان السعودي ضياء عزيز ضياء
في إحدى حلقات البرنامج الرمضاني، الليوان، أجرى المديفر حوارًا رائعًا مع المعماري عبد المحسن الذياب، حيث كانت إحدى النقاط المطروحة – والتي جعلتني أعدل جلستي أثناء المشاهدة – هي مسألة إعادة التراث من الناحية العمرانية، فكان تعليق الذياب: «النسخ والتقليد الذي فعلناه للتراث، أساء للتراث» وشرح كيف أن عدم المعرفة بكيفية التعامل مع التراث أدى إلى إنتاج مشاريع عمرانية تراثية غير ناجحة.
حديث الذياب ضرب على وتر حساس في قلبي ولسبب ما جعلني أستذكر كل نقاش شهدته في حياتي بدأ بـ «نحن كنا..والله يرحم أيام أول..دا زمن أغبر» وانتهى بـ «أصلاً ما رجعنا ورى إلا إنتوا..متى حتتقدموا وتفكونا من الماضي والبكاء على الأطلال»، أنا متأكدة أن الوضع لا يختلف عندك عزيزي القارئ، فلا بد وأنك أيضًا شهدت نقاشات من هذا النوع، سواء في دائرة العائلة، أو الأصدقاء، أو العمل، أو على منصات التواصل الاجتماعي.
في الحقيقة، هذا النوع من الاختلاف في التوجهات طبيعي جدًا، لكني أعتقد أننا – في السياق المحلي العربي – لدينا أزمة تتجاوز مجرد وجود اختلافات في التوجهات والآراء عندما يتعلق الأمر بمسألة التعامل مع التراث، خاصة من قبل من يصنعون الرأي العام ويساهمون في تشكل هوية المجتمع، مثل المثقفين، المفكرين، الأكاديميين، الفنانين…إلخ.
عند التعامل مع التراث في الغالب هناك فريقين: النوستالجيون، العالقون داخل الماضي، في حالة حنين مُكبّلة، يرون أنه وأدواته الحالة الأمثل للبشرية وأن “النجاة” تكمن في العودة إليه ومحاولة تكراره كما هو. أما الفريق الآخر هم المنسلخون، وهم العالقون، خارج الماضي، لا يرون منه إلا حطام لا يمت بصلة لما نعيشه اليوم، وأن “النجاة” تكمن في أن نطوي فصل الماضي من الكتاب حتى نستطيع أن نمضي قدمًا.
كلا من الفريقين تربطه علاقة مرتبكة بالماضي تؤثر على حاضره ومستقبله بشكل سلبي، فالنوستالجيون يسببون حالة من الشلل في الحراك الحضاري لأنهم عالقون في نقطة معينة في الزمن، أما المنسلخون فيسببون حراكًا حضاريًا مشوهًا لأنه قائم على أسس مستعارة وبالتالي واهية.
لكن ما الذي نخسره فعلاً إثر وجود هكذا علاقة مرتبكة مع التراث؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال، ربما من الأجدر أن نعرّف «التراث» حتى نعرف حجم أهمية ما نحنن بصدد تناوله، لأننا إن اعتقدنا أن التراث محصور في أطباق، وأهازيج، وملبوسات، وبيوت ذات طراز قديم فهذه مشكلة بحد ذاتها..
تقسم منظمة اليونسكو التراث إلى ٣ أقسام، أولها التراث الثقافي والذي يكون إما تراث ملموس مثل الآثار، المواقع التاريخية، سواء الموجودة فوق الأرض أو تحت سطح الماء، إضافة إلى الفنون المجسدة (لوحات، منحوتات، قطع نقود)، أو التراث الثقافي غير الملموس فيشمل التقاليد الشفهية، والفنون الأدائية، والطقوس [١]. أما جامعة ماساتشوستس أمهرست فتعرف التراث على أنه كل قديم يتم التنقيب عنه أو عرضه أو ترميمه سواء كان ملموسًا أو غير ملموس، بما في ذلك الأفكار والذكريات من الأغاني والوصفات واللغة والرقصات والعديد من العناصر الأخرى التي تشكل من نكون وكيف نعرف أنفسنا [٢].
الصراحة أجد أن كلا من التعرفين ضيقين إلى حد ما، لذلك بحثت حتى وقعت على تعريف أعجبني لروبرت بارتيزيوس، وهو عالم في الآثار البحريةو مدير مركز ذاكرة لدراسات التراث التابع لجامعة نيويورك بأبوظبي، حيث يعرف التراث بأنه «الطريقة التي يستثمر الأفراد بها ماضيهم» [٣].
الآن، نعود لسؤال: ما الذي نخسره فعلاً بعدم القدرة على التعامل مع التراث بطريقة صحيحة؟ هناك ٣ أمور رئيسة:
- مسألة الهوية
سواء أردنا حفظها أو إبرازها، علينا أن نفهم ما يشكلها ابتداءً وما يجعلنا نحن نحن. أتذكر عندما قضيت فترة في الخارج قبل سنوات، كان يؤلمني كثيرًا منظر الركن السعودي في الفعاليات الجامعية، فكل ما تقدمه هو أن السعودية عبارة «كبسة» و«تمر» و«قهوة عربية» و«جمل» ! الأمر ذاته عندما تقدم الهوية العربية على أنها «صحن تبولة» و«طعمية» و«شيشة» و«رقص شرقي»! الأطباق المحلية والفنون الأدائية النابعة من المنطقة مهمة ومكون لا يمكن تجاهله، لكن أن نختزل الهوية بهذا الشكل فهذه دلالة على أن تناولنا للتراث سطحي جدًا. وفي هذا السياق استحضر تحليل بارتيزيوس للأثر السلبي للتوجه العالمي لليونسكو والحكومات في حفظ المواقع التراثية، حيث أنهم يساهمون – كما يقول – في ظهور ما يدعى بـ “صناعة التراث” الذي يقتضي تجديد المواقع القديمة وتحويلها إلى وجهات سياحية فخمة للفئات المقتدرة ماديًا، وبهذا يفرض هذا التوجه مفهومًا ضيقًا للتراث، يُخضع ماضي الشعوب من خلاله إلى عملية انتقاء وتجميل، في حين أن الماضي له مستويات عدة تتطلب إيجاد مناحي أخرى لمقاربة التراث [٤].
- معالجة القضايا المحلية
تخيل أن شخصًا مريضًا ذهب لرؤية الطبيب، إلى جانب عن معاينة مشكلته، سيحاول الطبيب فهم “التاريخ الطبي” لهذا المريض، بل وفهم التاريخ الطبي لعائلته حتى يستطيع تشخيصه وإعطائه العلاج المناسب. الأمر ذاته مع المجتمعات وفهمها للتراث، لذلك أنا أستغرب كثيرًا من المثقفين الذين يريدون تقديم مشاريع وأطروحات فكرية لعلاج قضايا محلية، لكنها تستبعد البحث الحقيقي في التراث الثقافي المكون لهذا المجتمع الذين يحاولون مساعدته. وعند النظر في العديد من المؤلفات والأعمال من هذا النوع، فإما أن تجدها خالية من أي بحث في التراث والتاريخ المحلي أو أن يتم تناوله بسطحية وانتقائية. والفكرة هنا ليست أن نبحث عن “حلول” ونحضرها من الماضي، بل نفهم العوامل والسياق الذي أدى إلى ما نحن عليه اليوم.
- التنبأ بالمستقبل
يتفق العديد من علماء الاجتماع والتاريخ والفلاسفة على نظرية أن التاريخ يعيد نفسه، أو ما يسميه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي بيير بيردو بإعادة إنتاج المجتمع (Social Reproduction)، أما عند ابن خلدون فالتاريخ في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق [٥]، أو بتعبير آخر «أن المجتمع من آلاف السنين يعيد إنتاج نفسه، تتغير القبعات، تتغير الأشكال، تتغير الألفاظ والمفاهيم، لكن الجوهر واحد» [٦]، إلتقاطنا لهذا الجوهر هو ما يمكننا من التنبأ بالمستقبل وبالتالي التحضير للتعامل مع فرصه وإشكالياته.
لكن لماذا لدينا أزمة تعامل مع التراث من الأساس؟
على الأرجح أن الأسباب تتجاوز ما يمكن لهذه المقالة ضمه، لكني سأطرق إلى ٣ مسببات رئيسة.
١) ضعف أدوات التأويل
يعزي المعماري عبد المحسن الذياب سبب عدم قدرة المعماري السعودي والعربي بشكل عام على التعامل مع التراث إلى ضعف قدرته على تأويل التراث ومفرداته وإعادة إخراجها بصورة جديدة، ويوضح الفرق بين المعماري العربي والغربي فيقول: «..لذلك [تجد] معماري غربي يصمم مبنى له علاقة بالتراث وينجح، لأنه يتعامل مع التراث على أنه بحر، بينما المعماري العربي والسعودي إذا جاء يتعامل مع التراث يتعامل معه على أنه مأزق، على أنه قيد، يقيده، فتجده يفشل في التأويل..وهذه مفارقة..لضعف القدرات الفنية» أي تلك التي تعطي المعماري أو الفنان أدوات للتأويل.
أتفق مع هذا التحليل تمامًا، وأؤمن بأنه ليس محصورًا على العمارة بل جميع المجالات، خاصة الإنتاج الفكري والفني مثل الأدب، الكتابة والتأليف، الفنون التشكيلية والأدائية، وفنون الطهي. ذكرني تعليق الذياب بإحدى دعايات «ماستر كلاس» على يوتيوب والتي يظهر فيها الشيف الإيطالي العالمي ماسيمو بوتورا قائلاً: «نحن لا ننظر إلى الماضي أبدًا بطريقة نوستالجية، نحن ننظر إلى الماضي بطريقة نقدية للحصول على أفضل ما في الماضي لنأخذه إلى المستقبل».
إشكالية ضعف أو عدم القدرة على التأويل هذه يتطرق إليها الدكتور عبد الرحمن الشقير، المتخصص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتأريخ، في مقابلة رائعة على بودكاست فنجان، حيث يشرح أن إنفصالنا عن التاريخ وعدم قدرتنا على توظيفه وربطه بالمجتمع واستخدامه للتنبأ بالمستقبل سببه « أننا ندرس تاريخنا كنصوص وليس كسياقات تاريخية وهذه مشكلة كبيرة…فتجد أن [الشخص] يأخذ ماجستير أو دكتوراه بناء على تجميع نصوص والتعليق عليها…لأنك إذا لم تضعها [أي النصوص] في سياق مختلف، وإذا لم تساعدني الالتقاطات التي تلتقطها من الأحداث في فهم ما هو عليه أنا اليوم، فأنت لم تقدم لي شيء».
أتفهم أننا لأزمنة طويلة تعرضنا لمنظومات تعليمية اجتثت تنشأة التفكير النقدي وأدواته، لكن أعتقد الآن لا توجد أعذار مع إمكانية التعليم والتفقيه الذاتي والوصول إلى مصادر لا محدودة بضغطة زر.
٢) تجنب المشقة (أو ربما الكسل!)
أتفهم أن لغة النصوص والأدبيات التراثية صعبة لأنها مختلفة عن اللغة المستخدمة اليوم، كما أن الوصول لها قد يكون صعب مقارنة بالكتب الحديثة، خاصة المكتوبة باللغة الإنجليزية. إضافة إلى ذلك، فإن محاولة بناء جسر فكري مع مادة تراثية لا تربطنا بها روابط ميتنة أساسًا يجعل تفكيك النص وسياقاته مهمة شاقة. لذلك لا أستغرب عندما لا نريد أن نخوض في محاولة فهم التراث ومفرداته وإعادة تقديمه وتوظيفه، فالأسهل من ذلك والطريقة المختصرة هي أن نتعامل ماهو متاح اليوم أمامنا. لكني الصراحة أستغرب كثيرًا من شخص يتحجج بصعوبة اللغة العربية التي كتبت بها النصوص والأدبيات التراثية مثل كتب الفلاسفة العرب، في حين أنه يبذل الجهد والوقت في محاولة قراءة كتب الفلاسفة الغربيين والتي تفوق لغتها القديمة إنجلزيته الحديثة المتواضعة، أعتقد هنا ربما نخرج من مشكلة الكسل إلى «عقدة الأبيض»؟
٣) تشابك التراث والدين
حسنًا، إن لم اتطرق لهذه النقطة فسأكون كالذي يتجاهل «الفيل الموجود بالغرفة». أعتقد أن أحد أهم الأسباب التي سببت ارتباكًا كبيرًا في تعاملنا مع التراث في المنطقة العربية هو الارتباط الشائك بين التراث والموروث الديني الذي يستمد قدسيته من النصوص المقدسة (القرآن والسنة)، لذلك مجرد فكرة نقد التراث أو تجديده في الغالب يعتبر هجمة أو فكرة مهددة للدين ككل..فالفكر الديني الراسخ في العموم مناهض للإحداث بالدين المتولد عن الأخذ والرأي والقياس والعقليات، وينبذ التأويل العقلي للنصوص [٧].
أيضًا هذا الارتباط الشائك بين التراث والموروث الديني أدى إلى تولد ربط للتراث بشخصيات دينية أو فئة معينة في المجتمع. لذلك تكون أحيانًا محاولة الانسلاخ من التراث ما هي إلا ردة فعل أو تمرد على هذه الفئة وكل ما يرتبط بها من بعيد أو قريب. أعتقد أنه حان الوقت لأن نضع «الكلاكيع النفسية» على جنب، ونعيد بناء العلاقة مع التراث من جديد بشكل مبني على بحث حقيقي منهجي محايد بعيدًا عن الخصومات و«فشة الخلق» الأيدولوجية.
في النهاية أود أن أؤكد على نقطة أخيرة: التعامل مع التراث يقتضي أمران: الأول: توثيقه والحفاظ عليه كما هو حتى يبقى مرجعية ثابتة يمكن العودة إليها والخروج بمخرجات مختلفة منها، أما الثاني: إعادة إنتاجه بحيث نستطيع توظيفه في حياتنا، وحاضرنا، ومستقبلنا.
وأخيرًا، أختم بالمقولة التي افتتح بها الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف كتابه «بلدي»:
«إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي، أطلقَ المستقبل نيران مدافعه عليك»
— انتهى —
مقالات ذات صلة: ما الذي يمكنك تعلمه من رحلة إلى النيبال عن خرافة التقدم والتخلف
لماذا نعرف الإمام الطبري ولا نعرف العالمات الطبريات؟
المصادر:
[١] What is meant by cultural heritage, UNESCO
[٢] What is Heritage, UMass Amherst
[٣] [٤] ما هو التراث؟ جامعة نيويورك أبو ظبي
[٥] مقدمة ابن خلدون
[٦] تأريخ الدعوة أم الدولة؟ | بودكاست فنجان | مقابلة مع د. عبدالرحمن الشقير
[٧] كتاب السعودية: سيرة دولة ومجتمع، عبد العزيز الخضر
من المؤسف وصولنا لحالة التقطيب بين الانسلاخ والتقليد في تعاملنا مع التراث.
نأمل ان يكون حراك المغرب العربي وحركتي طه عبدالرحمن ومحمد الجابري في تناول التراث رغم اختلافاتهما هي بداية لتحول فكري عربي طال انتظاره.
أعتقد اني من فريق النوستالجيون، العالقون داخل الماضي.
شكراً لكي العنود على هاذي التنويرة، سأذهب الأن للبحث عن علاج لهذا المرض
تدوينة رائعة.
للأسف تم تشويه نقد التراث عندما تسمى بها المنسلخ