كثيرًا ما ألاحظ خلال اجتماعات العمل التي تضم عدد كبير من الأفراد ظاهرة التفكير الجماعي أو ما يعرف بالـ (Groupthink) وهي نزعة المجموعة إلى صنع قرارات غير عقلانية أو ليست جيدة بما فيه الكفاية خوفًا من المساس بالتوافق الذي يجمع أعضاء هذه المجموعة، فما يحدث هو أن بعض – أو معظم – الأفراد لا يجرؤون على مشاركة آرائهم أو تحدي/مساءلة الأفكار المطروحة تماشيًا مع “روح الفريق” أو خوفًا من الظهور بمظهر “المخالف”، و إن كانوا يعتقدون أن الأفكار المطروحة لها تبعات سلبية على العمل (طبعًا جزء من المشكلة يعود إلى سوء إدارة هذه الاجتماعات وفشل تكوين بيئة/ثقافة تحفز على المشاركة).
تذكرني مواقف كهذه – بالرغم من الفرق الشاسع في السياق – بكتاب «قرية ظالمة» للأديب وجراح العظام د. محمد كامل حسين والتي نال بسببها جائزة الدولة في الأدب (١٩٥٧م). يطرح الكتاب تساؤلات حول الضمير الفردي في مقابل الضمير الجمعي ومشكلات الإنسان النفسية والفكرية التي تعقد عليه مسألة معرفة الصواب من الخطأ، الخير من الشر، عندما يفكر بشكل منفرد وعندما يفكر كجزء من جماعة.
وتُطرح هذه التساؤلات من خلال سرد موجز ورمزي لقصة اليوم الذي قرر فيه أهل أورشليم صلب المسيح، القصة تحتوي في غالبيتها على حوارات بين الأدوار المعروفة في المجتمع، (مثل السياسيين، التجار، الجنود، المفتين والعلماء، الحكماء، الفلاسفة..إلخ) حول ما إذا كان المسيح يستحق حكم الصلب أم لا.
الفكرة الغالبة في القصة والتي تستدعي الكثير من التأمل هي كيف أن أهل القرية كأفراد كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم ببراءة المسيح من الاتهامات التي نسبت إليه، لكنهم كجماعة ينتفي عندهم هذا الضمير المخلِص – كما يسميه الكاتب. والمقصود هنا بـ “جماعة”: الطائفة من الناس الذين يجمعهم غرض واحد، حتى وإن كان هذا الغرض تشجيع فريق كرة قدم ما!
بغض النظر عن صحة أحداث صلب المسيح التي يسردها الكتاب، يبقى السؤال الجدير بالاهتمام: ماذا يحدث لضمائر الأفراد عندما يشكلون جماعة؟ لماذا توجد ضمائر فردية ولا يوجد ضمير جمعي؟ وهل يمكن خلق ضمير للجماعة؟ علمًا بأن المقصود بالضمير هنا هو ذلك الصوت الداخلي الخالص الصادق الذي يعين على التمييز بين الحق والباطل.
في معظم أدبيات علم النفس الجماعي (collective psychology)، نجد أن الجماعة والتفكير الجمعي يتسم بصفات يغلب عليها السلبية، مثل عدم القدرة على فهم الحجج المنطقية، وأنها لا تفهم إلا لغة القوة والغلبة، وأنها «أقدر على الاندفاع منها على التعقل وأقدر على التمادي في الباطل منها على الرجوع إلى الحق» (قرية ظالمة)، وأنها عقلية تولد التطرف، الكراهية، وعدم التسامح، لكنها في ذات الوقت تولد الحماسة والأمل المتقد كما يقول الفيلسوف إيريك هوفر في كتابه (المؤمن الصادق، ١٩٥١م)، بالرغم من أن الجماعة قد تكون مكونة من أفراد معظمهم يمتلكون ضمائر حية وصادقة.
مدهش هذا التحول الذي يحدث للفرد عندما ينصهر في جماعة – أو حتى في مجموعة – ما، فهو ما أن ينخرط فيهم حتى يتخذ سمات خاصة ما كانت موجودة به سابقًا. أو أنها موجودة ولكنه لم يجرؤ على البوح بها أو التعبير عنها بمثل هذه الصراحة والقوة (سيكولوجية الجماهير، غوستاف لو بون، ١٨٩٥م). ويصبح أكثر قابلية للتصديق والطاعة من الشخص الذي لا يزال يتمتع بقدر من الاستقلال الذاتي؛ ناهيك عن أنه يظل دائمًا وأبدًا يعاني من شعور بعدم النضج وغياب الثقة (المؤمن الصادق، ١٩٥١م).
لكن عندما نفكر في هذه العلاقة الشائكة ما بين الفرد والجماعة أول سؤال قد يخطر بالبال: ما طبيعة هذه الجماعة؟ هل نقصد بها الحركات الجماهرية الشعبوية؟ أم الجماعات التنظيمية كما في الأحزاب والنقابات؟ أو القبيلة؟ العائلة الممتدة؟ هل يمكن أن نسحب فكرة الجماعة أيضًا على موظفي شركة ما ذات ثقافة موحدة ومتماسكة؟ ماذا عن شلة أصدقاء المدرسة؟ أين تبدأ وتنتهي فكرة الجماعة هذه؟
أيضًا، ماهي الصفات التي تجعل الفرد أكثر قابلية للانصهار في جماعة ما؟* وكيف يستطيع البعض الاحتفاظ بقدر من الاستقلال الذاتي؟ وهل يقتضي الاستقلال الذاتي بالضرورة أن ينأى الفرد بنفسه عن كل جماعة؟ هل يقود الاستقلال الذاتي إلى نزعة فردانية سلبية؟ ماذا يعني استقلال ذاتي أصلاً؟ وهل تشكل فكرة الجماعة تهديدًا على الاستقلال الذاتي وتتعارض معه بالضرورة؟
لدي الكثير من الأسئلة حول هذا الموضوع، لا أعلم إن كنت سأعود مستقبلاً للكتابة عنه مع بعض محاولات البحث عن إجابات. إن كنت أنت أيضًا مهتمًا بهذا الموضوع، شاركني مصادر ذات صلة من فضلك.
–انتهى–
*يتناول إيرك هوفر في كتابه المؤمن الصادق بشكل مفصل خصائص وصفات العامة الذين لديهم قابلية للانصهار في الحركات الجماهرية والجماعات.
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
موضوع جيد ومجهود كبير ,بالتوفيق دائما فى ما هو قادم بإذن الله
شكرِا لك عمر
الاستقلال الذاتي للأسف مُحارب في بيئة العمل الاكاديمية ، يضعون مؤشرات تقييم موحده على الجميع و ينبذون المختلف. الصوت الأعلى ( منصبا و ترددا) هو صوت الأغلب.
برائي المجموعة قد تكون اي مجموعة من الناس ( طلاب، موظفين …) ادارة المجموعة تلعب دور هام في عملية خلق الضمير الجماعي من انعدامه و جعل نتاج المجموعة افضل من الأفراد لكن لهذه الادارة فنون ليس من السهل اداراتها و ان بدت في يدايتها موفقه قد تخفق في نقطه ما اذا خصوصا في حالة اذا كان الافراد يتمتعون بثقافة عاليه
الاستقلال فى الفكر أو طريقة المعيشة صعب جداً فى أغلب الدول العربية لوجود أزمة فى هامش الحرية الممنوح للمواطن , نرجو أن تتحسن الأحوال فى المستقبل وتنعم الشعوب العربية جميعها بالأمن والحرية
الامور المصيرية بالنسبة لي اُفضل دائماً التفكير فيها بشكل منفرد
الامور التي اجهل الكثير عنها ولا اجد الوقت الكافي للبحث الجأ للجماعة لاني اجد معلومات كثيره وافكار ممتعه في وقت قصير
مشكلتي مع الجماعة اني استهلك طاقة اكبر في اقناع الاخرين او اقناع نفسي مع الالتزام بالهدوء واحترام الأخرين” أمور خارج الهدف الاساسي للاجتماع ”
بينما مع نفسي يكون التركيز فقط في الفكره لا مُجامله ولا نفاق .
أعجبني انك قمتي بذكر اقتباس من كتاب سيكولوجية الجماهير هذا الكتاب الرائع دائمًا انصح به اصدقائي حتى في مجال تخصصي المهني ساعدني كثيرًا كمختص تسويق رقمي، بخصوص الاجتماعات وما يحدث بها اصبحت انصت أكثر للرأي المختلف عن الجماعة بل اعطيه فرصة لتنفيذ اقتراحه الذي قوبل بالرفض والنقد وأحيانًا يكون أفضل قرار تم اتخاذه والعكس كذلك. أشكرك على التدوينه والموضوع الرائع 👌
تفكير القطيع اما جمع اراء متعارضة تلغي بعضها او اندفاع متهور. العصف الذهني افراد قليلون متباينون عميقون
فكرة مثيرة للاهتمام الحقيقة! وشخصيًا تحصل لي في أكثر من موقف فأجدني قد أُفضّل السكوت عن فكرة ما دارت في ذهني خوفًا من سلطة المجموعة، أو لأنهم أظهروا أن الرأي المخالف لهم (غرييب وكيف أحد يفكر كذا!). دائمًا ما أتساءل متى أكون أنا أنا؟ وهل كل قراراتي أفعلها لأني أريدها أو خوفًا من سلطة المجموعة؟ وعمومًا أجد أنه من الصعب جدًا ادّعاء أن للإنسان تفكيرًا مستقًا في كل حالاته، لا بد وأن يتأثر بالمجموعة شعر بذلك أو لم يشعر.
[…] هل نصبح أقل ذكاءً عندما نكون في جماعات؟ […]
الأكيد أنه أسهل، سبحان الله أمس كنت أتأمل الموضوع وأفكر أنه كيف الذوبان في الخطأ العام أسهل مع من حولك، ولكن هنا يتجلى الضمير ومحاوراته الداخليه.