في وقت ما في حياتك، لا بد وأنك مررت بأيام شعرت فيها أن على صدرك كلام يساوي في ثقله ثقل الصخرة التي وُضعت على صدر سيدنا بلال، أرضاه الله. وعلى الأرجح أنك هرعت إلى شخص ما لتفرغ إليه ما بنفسك راجيًا بذلك أن تتزحزح عنك الصخرة، لكن بدل أن ينصت إليك هذا الشخص، ارتدى قبعة “المحاضراتي” وأخذ يلقي عليك النصائح والمواعظ، بل وربما استولى على الحديث ليجعله يدور حول تجاربه في الحياة والحِكم التي يجب أن تتعلمها منه، أو أنه ارتدى قبعة “حلال المشاكل” فأخذ يقترح عليك حلول لمشاكلك التي لم يفهمها حق فهم بعد، بينما أنت تختنق تحت الصخرة المهلكة؛ كل ما تريده هو أن يستمع أحد لك.
موقف بغيض، أليس كذلك؟
الآن، تخيل لو أن صاحب الصخرة أتاك -أنت- مستنجدًا لبعض الاستماع الذي ينم عن اهتمام حقيقي، لكنك بدل أن تستمع له بإنصات، تفعل به ما فعلك بك المحاضراتي أو حلال المشاكل يومًا ما، وتفسد ما كان فيه فرصة لإنقاذ هذا الشخص من تحت الصخرة..
أعتقد أننا جميعًا مررنا في حياتنا بمواقف كنا فيها على هاذين الجانبين: جانب صاحب الصخرة، وجانب المحضاراتي حلال المشاكل. كأصحاب صخرة، في الغالب أهم وأول ما نريده هو أن يستمع أحد لنا بقلب متسع، ويتعاطف معنا دون إسداء النصائح أو تقديم حلول، على الأقل في مرحلة أولية مؤقتة. لكن عندما نكون على الجانب الآخر تتغير الأهداف، فأحيانًا تكون هناك رغبة حقيقية في مساعدة صاحب الصخرة، وأحيانًا أخرى، لا نكترث حقًا لما يقوله الشخص الذي أمامنا بقدر ما نكترث بتعزيز تصورنا الذهني عن أنفسنا من خلال ممارسة وعيش دور “الفاهم”، “العالم”، “المجرب”، الخبير”، “الحكيم”…إلخ.
ولعلي لا أكون الشخص المناسب للحديث عن هذا الموضوع كوني مدانة في مواقف كثيرة لم أكن فيها مستمعة جيدة، بل واطلقت فيها العنان للمحاضراتي حلال المشاكل الذي بداخلي، لكن سعيي -الذي أزعمه- في تهذيب هذا السلوك قادني إلى الوقوف عند ٣ أمور أرى أنها تجعل استماعنا للناس يأتي من موضع تعاطف ورحمة وتواضع، لا من موضع نكون فيه محور الكون؛ هذه الـ ٣ أمور هي:
١) ألا ننصح (إلا إذا طلب منا ذلك، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر)
أذكر أنني قرأت ذات مرة في «الرسالة القشيرية» مقولة منسوبة لأحد أئمة أهل السلوك تقول – بما فيه معناه – أنه من يسدي نصيحة إلى من لم يطلبها منه فإن ذلك من الكبر، أتذكر أن وقع هذه المقولة علي كان مثل الصفعة على الوجه! أعلم أن تقديم الحلول والنصائح يأتي عادة بدافع الحب والاهتمام وربما أيضًا التناصح والأمر بالمعروف..إلخ، لكنه في أحيان أخرى ينطلق من الإيغو (Ego)، أو تلك الأنا الزائفة التي توهمنا بأننا “أعلم”، “أفهم”، مليئين بالتجارب المثرية التي هي بالضرورة “أفضل” من تجارب الشخص الذي أمامنا.
مؤخرًا، أحاول قدر الإمكان أن أمنع نفسي من إسداء النصائح عندما يشاركني شخص ما همومه ومشاكله، إلا في حال أنه طلب مني رأيًا أو نصيحة، وإن شعرت أن هذا الشخص يريدني أن أشاركه الحديث حول ما يمر/يشعر به، فإن مشاركتي في الغالب تنطلي على محاولة طرح أسئلة عليه تساعده على التفكر في وضعه وإيجاد الأجوبة التي يبحث عنها بنفسه، بدلاً من قول “افعل كذا، لا تفعل كذا”. أعتقد أن هذه الطريقة أفضل وأنجع من ترك المجال للأنا الزائفة التي تعتقد أنها مخولة وقادرة على حل مشاكل البشر و”إنقاذهم”! والتي تدفعنا بالضرورة إلى تصدر الحديث لـ”نُعلّم” الذي أمامنا.
٢) ألا نقارن
سأكتفي هنا باقتباس تغريدة لفاطمة بادكوك، فهي تلخص ما أريد قوله.
٣) أن نقرأ الإشارة
بعض الأشخاص واضحين في طريقة تواصلهم، فتجدهم مثلاً يقولون لك “أحتاجك تسمعني بس” أو “عندي مشكلة وأحتاج نصيحة/مساعدة”، وبطبيعة الحال، هناك من لا يعبر عما يريده بشكل مباشر، ربما لأنه يفترض أنه من البديهي أن تفعل كذا وكذا، أو أنه لا يعرف ماذا يريد، في هذه الحالة، من المفيد أن نحاول قراءة إشارات هذا الشخص، مثلاً هل هو في حالة نفسية يرثى لها؟ وبالتالي على الأرجح لا يريد نصائح أو حلول (أو صوت العقل بشكل عام) بل تعاطف وطبطبة، هل أبدى اهتمامًا فيما لديك من رأي، هل طلب منك بشكل مباشر أو غير مباشر أن تشاركه نصيحة/حلاً؟
نقطة رابعة إضافية: قد لا تكون ذات صلة مباشرة بالموضوع لكنها تصب فيه
- أن نتظاهر بالتفاجأ!
يقول الكاتب مالكوم جلادويل:
إلهي! كم هي بسيطة لكن عظيمة هذه اللفتة! وهي تنطبق على استماعنا للناس كافة ليس لصاحب الصخرة فقط، كثيرة هي المواقف التي يخبرنا فيها صديق أو قريب عن موضوع، خبر، أو حتى نكتة بكل حماس وبهجة، ظنًا بأنه يحمل إلينا شيء جديد فيه قيمة، فيكون رد فعلنا حتى قبل أن يكمل كلامه: “نعم، أعرف من أول”، “يووه إنت قديم، دوبك تعرف!”، هل علينا فعلاً أن نثبت دائمًا أننا على اطلاع ومعرفة؟ ماذا لو تركنا له فرصة عيش هذه اللحظة ولم “نخربها” عليه؟ وأنا لا أقترح هنا شيء من النفاق أو الكذب، لكن أن نعترف فعلاً بيننا وبين أنفسنا احتمالية وجود جزء من القصة/الخبر/المعلومة قد لا نكون نعرفه بعد، والحقيقة هي أننا لسنا محيطين بكل شيء، فلماذا إذن نحاول أن نثبت العكس؟ خاصًة أن في ذلك تبعات من شأنها أن تقتل فرص للتواصل العميق والمحادثات المثرية بيننا، أحاول تطبيق هذه اللفتة، وفعلاً، أستطيع أن ألمس الفارق الذي تصنعه على مستوى التواصل والعلاقات.
النقاط مختلفة لكن الجوهر واحد
هذه النقاط الأربعة قد تبدو مختلفة في ظاهرها، لكنها في جوهرها نابعة من شيء واحد: التواضع. شتان ما بين أن نستمع للناس والتواضع يتلبسنا، وأن نستمع لهم والغرور أو الأنا الزائفة تعترينا. والحقيقة هي أننا في كل مرة نضع فيها هذه الأنا الزائفة جانبًا ونستمع بقلب وعقل متفتحين، سيكون هناك شيء جديد نكتشفه ونتعلمه ويضيف إلينا قيمة، حتى لو كنا نعتقد أننا ملمين، فاهمين، عارفين، و”مختمّين” الدنيا، والأهم من ذلك، أننا سنستطيع حينها أن نساعد الشخص الذي أمامنا على أن يزحزح الصخرة من على صدره.
–انتهى–
*مصدر صورة التدوينة wildtravelstory.com
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
كانت الآية “ولو كنت فظًا غليظ القلب لأنفضوا من حولك” في خلفية قراءاتي لهذا المقال ..
مؤخرًا بدأت أعي كم أن اللطف سهل و طرائقه لا تستهلك طاقة ..
شكرًا العنود ❤️🙏🏼
من المثير للاهتمام أن التدوينة جعلتك تستحضرين هذه الآية، لأني لا أعتقد أن ممارسة دور المحاضراتي حلال المشاكل تقتضي أي غلاظة، بالعكس قد تكون في غاية اللطف ونابعة من حب، المشكلة فقط أن ما قد يحتاجه المتحدث أمر آخر: الاستماع والإنصات بكل بساطة..
شكرا على مشاركتي وجهة نظرك رفاء
شكرا للأستاذة الفاضلة العنود ، براك الله فيك
شكرا لانك أريتني الكم الهائل من القبعات (الفهمانه ,الخبيرة ,المجربة…)المتنوعة التي ارتديها و أنا أحاول الانصات لاّهات القابعين تحت الصخور!!!
[…] العنود الزهراني تكتب ٣ أمور تجعل استماعك للناس وسيلة تزحزح صخرة بلال عنهم، يحوي المقال اقتباسًا مدهشًا بحقّ عن مالكولم […]
شكرًا جزيلًا.. أعتقد أن هذا سيفيدني كثيرًا 🙂
[…] ٣ أمور تجعل استماعك للناس وسيلة تزحزح صخرة بلال عنهم […]
على ذكر النصيحة، أقول هذا دائماً لمن أعرفهم: لا أنصح و لا أحب تلقي النصائح. كثير ممن ينصحون يغعلون من باب إبراء الذمة، و لأن النصيحة مجرد “قول”، فهو أمر سهل. لو كنت أفيد شخص ما، فما لدي هو “فعل”، بمعنى آخر، أني أفعل الشيء من أجل الشخص إن كنت صادقاً، فلو احتاج مالاُ أعطيه إن استطعت، أما أن أتفوه مجرد أقوال، فهذا لا أقبله لنفسي، لذا لا أمارسه.
أنشأت حسابات سوشال ميديا قبل أي أحد من عائلتي، كما أنني كنت من قبل أتصفح المدونات والمواقع؛ مما أتاح لي فرصة “الاطلاع” على مجريات الأحداث أو المعارف الخفيفة المتداولة، ولفترة طويلة وباندفاع المراهقة وقلة التجربة كنت أتحمس في مشاركة الجديد أو “اه بعرف هالشي”، ولم أكن أكتفي بالمقاطعة وتأكيد سبق الاطلاع بل أنني كنت أكمل وأزيد على ما كانوا سيقولونه.
كلفني هذا الكثير من الانطباعات السيئة عني، وما زلت أشعر بالخجل حين أستذكر بعض المواقف، إلا أن بعضاً من هذه المشاعر السيئة يتلاشى لأنني صرت “أتظاهر بالتفاجؤ” من تلقاء نفسي وصرت أمنع نفسي من تذكير الآخرين بأنني (أنا من أخبرهم بهذه المعلومة) إذا ما أعادوا سردها.
شكراً على هذا الجزء من التدوينة بالذات وعلى كل تجارب تهذيب النفس التي تشاركينا بها :”)
الله!! كيف اقدر أشكرك جمانة على مشاركتي تجربتك! شكرررًا
أمضيت 4 ساعات متواصلة عاكفة على قراءة كلماتك يا عنود، مبهرة جداً
شكرا لك! كلامك يعني لي الكثير والله! ما عرفت اسمك!؟