لماذا يجب أن تطلق «الكاتب» الذي بداخلك؟ الكتابة كمهارة ضرورية للنمو المعرفي

خلال الأسبوعيين الماضيين خضت نقاشات مطولة مع ٤ أشخاص مختلفين حول الكتابة. ألخص أهم النقاط التي تكررت كما يلي:

  • أريد أن أكتب لكن لا أعلم إن كنت أريد أن أكون كاتبًا أصلاً، أو لا أعرف إن كانت الكتابة شيء سأحبه.
  • هناك شيء يستهويني في الكتابة لكن لا أعرف إن كان علي أن أجرب.

في هذه المواقف عادة ما تكون إجابتي على هكذا تساؤلات هي: طبعًا اكتب! الآن!

وحتى يسهل علينا فهم علاقتنا واهتمامنا بالكتابة وفهم ما الذي نريده من هذه الممارسة، ربما سيساعدنا تقسييم ممارسة الكتابة إلى مستويين رئيسين:

المستوى المهني / الاحترافي: أي أن تختار ممارسة مهارة الكتابة كحرفة أو وظيفة تلقى مقابلها مردودًا ماديًا، مثلاً أن تؤلف كتبًا، أو أن تقدم خدمات كتابية / صناعة محتوى …إلخ. وهذا التوجه ليس بموضوع هذه التدوينة.

المستوى الشخصي: أي أن تكتب لأجل الكتابة بعيدًا عن معادلة المردود المالي، فبغض النظر عن مستوى احترافيتك أو مهارتك، أنت تكتب لأنك تحب الكتابة كهواية، أو لأنك تريد التعبير عن أفكارك، وفي هذا المستوى من الكتابة قد تختار أن تنشر ما تكتبه على منصات مختلفة مثل المدونات، أو تختار أن تحتفظ به لنفسك مثلاً في دفترك الخاص.

قد يحاجج البعض أن المستويين يتداخلان، نعم، أتفق. لكني أريد أن أركز في هذه التدوينة على الكتابة الشخصية، بعيدًا عن الاحترافية وامتهان الكتابة كصنعة، لأني أميل إلى الاعتقاد بأن: ١) كل الناس قادرين على أن يكونوا كتّابًا على «المستوى الشخصي» بحسب التعريف أعلاه، ٢) -لا أريد أن أقول يجب لكن – يجب علينا كبشر أن نمارس الكتابة الشخصية باعتبارها جزء أساسي في حياتنا. واعتقادي هذا ليس نابعًا من ولعي الشخصي بالكتابة، لكن لإيماني بأن الكتابة مهارة ضرورية تساهم في تحقيق نمو معرفي ووجداني إذا ما مورست بشكل صحيح، وهذا ما سأوضحه في النقاط الـ ٦ التالية:

١- الكتابة تجعلك تفكر بطريقة أفضل

يقول الكاتب والروائي الإنجليزي جورج أوريل (١٩٠٣ – ١٩٥٠م) [١]:

إذا كان الناس لا يستطيعون الكتابة بشكل جيد، فإنهم لا يستطيعون التفكير جيدًا، وإذا لم يتمكنوا من التفكير جيدًا، فسوف يقوم الآخرون بالتفكير من أجلهم.

في السابق كنت أعمل في مجال الاستشارات الاستراتيجية، ومن المعروف أن العمل في هذا المجال يتطلب مهارات معينة أهمها:١) القدرة على حل المشكلات من خلال استخدام عملية تفكير منظمة ومنطقية أو ما يسمى بالـ (Thought process)، والتي تعكس كيفية تدرجك في التفكير، كيفية ربطك للأفكار، مدى تسلسل الأفكار وتماسكها…إلخ، ٢) مهارة الكتابة. المثير في الموضوع هو أنني بعد فترة لاحظت وجود علاقة قوية وطردية بين المهارتين، فكلما كانت المهارة الكتابية عند الشخص قوية ومتطورة، كانت عملية تفكيره مدهشة في تنظيمها وتسلسلها، والعكس صحيح. بالطبع هناك استثناءات.

لكن بعيدًا عن نطاق العمل، اسئل أي شخص يكتب بشكل مستمر لفترة من الزمن عما يشعر به من تحسن في عملية تفكيره من ترتيب للأفكار وتسلسلها وترابطها، ستجد أنه على الأرجح يؤكد هذه النظرية.

أيضًا، الكتابة تساعدنا على وضع الأفكار تحت المجهر وبالتالي تمحيصها وتبني الأفضل منها.

عندما تدور الأفكار في أذهاننا ففي الغالب تكون ناقصة، مليئة بالثغرات، بل أحيانًا متناقضة، ولأنها لم تخرج من أذهاننا بعد، فلا نرى فيها هذه العيوب. الكتابة تجعلنا نضع أفكارنا، قناعاتنا، معتقداتنا تحت المجهر، أنا لا أبالغ إت قلت أنني في أيام كثيرة عدلت عن أفكار كنت أعتقد أنها “رهيبة” لكني غيرت رأيي بعد أن ناقشتها في كتاباتي، خصوصًا إن كنت تشارك الآخرين ما تكتب، فهذه فرصة عظيمة لنقاشات مثرية تجعلك تتحدى أفكارك وتعيد النظر فيها وتطورها.

٢- الكتابة تحول المجرد إلى ملموس

في تدوينة جميلة لمازن الضراب، مؤسس منصة زد للتجارة الإلكترونية، تحدث عن فكرة الخوف من “سرقة” الأفكار، وشرح كيف أننا لا نخسر شيئًا عندما نشارك أفكارنا لأسباب عدة أهمها هو أن الأفكار وحدها لا تهم! فيقول:

الأفكار وحدها لا تهم، فالفكرة شيء بسيط ومُمكن محاكاتها مادامت الفكرة في الهواء، وسيصعُب نسخها أو تقليدها كلما تقدمت في تنفيذها وأمضيت وقتاً أكثر في تطويرها بعد البدء…لن تستطيع أن تُحول الفكرة إلى واقع بدون فريق أو موارد، وقبل ذلك : التزام وعمل، لذلك الفكرة هي حلقة من سلسلة طويلة جداً

اتفق تمامًا مع مازن في هذه النقطة، طالما أن الأفكار في “الهواء” فلا قيمة حقيقية لها. كما أؤمن بأن أحد أولى الطرق لإنزالها من الهواء إلى أرض الواقع هي كتابتها – بالتفصيل الممل.

في دراسة أجرتها جامعة الدومينيك على ١٤٩ مشارك من مختلف الأعمار والخلفيات، قسم الباحثون المشاركين إلى مجموعات، مجموعة تضع أهداف لكن لا تكتبها، ومجموعة تضع أهداف وتكتبتها، وخلال شهر تتبع الباحثون مدى تحقيق المشاركين للأهداف التي وضعوها، فكانت النتيجة هي أن المجموعة التي كتبت، كانت نسبة تحقيق أهدافها أعلى مقارنة بالمجموعة التي لم تكتب أهدافها [٢].

٣- الكتابة تزيد من لياقتك الذهنية

ربما معظمنا لديه تصور رومانسي تجاه عملية الكتابة، أعني قد نتصور أنها عبارة عن مكتب خشبي كلاسيكي أنيق، قهوة سوداء، علبة سجائر، ونحن في وسط كل هذا نكتب بكل سلاسة وبساطة تحت تأثير إلهام أو وحي يأتينا من بعد ميتافيزيقي! أعتقد أن الواقع ليس بهذا الشكل – على الأقل ليس هكذا دائمًا – فعملية الكتابة شاقة! حتى وإن لم ترد أن تصبح كاتبًا محترفًا، حتى وإن كنت تكتب مذكراتك فقط التي لن يراها أحد سواك، لا تزال مهمة متعبة. أحد الأسباب وراء ذلك هو أنها تستغرق وقت طويل. فمن السهل جدًا أن نعبر عن الأفكار بالكلام، لكن أن نضعها في جمل مكتوبة فهو أمر صعب، مثلاً، تستطيع أن تقول ١٠٠ كلمة في ٤٠ ثانية فقط، لكن كم من الوقت ستحتاج لتكتب ١٠٠ كلمة على ورقة أو على اللابتوب؟ بالطبع وقت أطول من ذلك بكثير.

أيضًا، في أحيان كثيرة تبدو الفكرة واضحة في ذهنك لكنك تجد صعوبة في ترجمتها إلى كلمات، ناهيك عن المشاعر القوية التي قد تعتريك (مثل القلق، الخوف، الحزن، الاستياء، أو حتى الانتشاء) والتي تجعل عملية ترجمة الأفكار إلى كلمات أقرب إلى عملية صراع وجداني. كل هذه الأمور تجعل الكتابة مهمة تمثل تحديًا لذهنك، وكلما عرّضت ذهنك للتحدي، كلما زدت من لياقته، تمامًا مثلما نبني العضلات، كلما عرّضنا أجسامنا لتحدي أكبر من خلال رفع الأثقال والتمارين الشاقة، كلما اكتسبنا لياقة بدنية أقوى.

٤- الكتابة وسيلة للتفريغ

يذكر الكاتب توماس أوبونج، في مقال له على الميديوم، أن الكتابة أحد الوسائل التي تساعدنا على التعامل مع مشكلة التفكير المفرط أو الإفراط في التفكير (Overthinking) والتي قد تؤدي إلى تبعات صحية غير محمودة إذا تحولت إلى سلوك مزمن، فقد تسبب الإستنزاف الذهني، الأرق، أو في بعض الأحيان الاحساس بالعجز، فيعلق على دور الكتابة قائلاً:

اكتب أفكارك في مذكرة كل ليلة قبل النوم، أو في الصباح حالما تستيقظ – لا تكترث بترتيب الأفكار أو تنسيقها. [فقط] قم بـ “تفريغ عقلي” لكل شيء في عقلك على الصفحة. أحيانًا سيساعدك هذا على الشعور بالارتياح

هناك علاقة وطيدة بين هذا النوع من الكتابة التي تُعنى بالتفريغ العقلي والتأمل كون التأمل وسيلة لتدريب العقل، و«عندما يتغير عقلنا، تتغير نظرتنا إلى الحياة» كما تقول آريانا هافنقتون، مؤسسة الهافنقتون بوست [٣].

٥ – الكتابة وسيلة للتعلم

جاء في الأثر: «العلم صيد والكتابة قيده» [٤]، أعتقد أن هذه مقولة عبقرية في تجسيدها لدور الكتابة في حفظ وتعزيز ما نتعلمه. نتعرض خلال يومنا للكثير من المعلومات، بعضها – أو في الغالب معظمها – غير مهم، والبعض الآخر مهم، مثل تلك المعلومات أو الاستنتاجات التي نتعرف عليها من خلال قراءة الكتب، المقالات، خوض نقاشات أو تجارب مثرية، كل هذه المعلومات القيمة تساعد في تشكيل معرفة معينة. أزعم أن أحد أهم الوسائل لحفظ هذه المعرفة من التبخّر هو تدوينها/كتابتها. شخصيًا، المعلومات الذي أذكرها في تدويناتي عادة هي أكثر معلومات أتذكرها مقارنة بتلك التي لا أدونها.

٦- الكتابة تساعدك على التعرف على ذاتك و فهمها بشكل أفضل

أخيرًا، أؤمن أن الكتابة مدخل عظيم للتعرف على الذات، حتى وإن كنا في البدايات نكتب كتابات مزيفة، نكتب لنبهر الآخرين وننال إعجابهم، إلا أننا مع الوقت والاستمرارية في الكتابة لفترة طويلة، ستصبح لدينا قابيلة لأن نتخلص من الهراء ونكتب بصدق أعلى، وكلما مارسنا هذه الكتابة الصادقة، كلما سمحنا لأنفسنا بأن ندخل في أعماق أعماقنا. ناهيك عن أن الكتابة على مدى طويل تشكل نوعًا من التوثيق لتغيراتك وربما تحولاتك الوجدانية والفكرية. أحب كثيرًا أن أعود وأقرأ ما كتبته قبل ٤ – ٥ سنوات أو أكثر، أحيانًا أشعر أني شخص آخر، لكن في معظم الأحيان أشعر بامتنان كبير لأني أستطيع أن أرى من خلال هذا التوثيق النمو الشخصي الذي مررت به.

في النهاية، هذه ليست دعوة ليمتهن جميع الناس صنعة الكتابة أو أن يصبحوا مدونين، بل دعوة لأن نسمح للكتابة كممارسة شخصية بأن تكون جزء أصيل في حياتنا، وإن كنت قد اقتنعت، عزيزي القارئ، وتريد أن تبدأ في ممارسة الكتابة اليوم، فلدي ٤ تلميحات سريعة:

١- أتوسل إليك: لا تكتب لتبهر الآخرين أو لتنال اعجابهم، هذا فخ كبير.

٢- خصص ساعة واحدة في اليوم أو أوقات معينة في جدولك الأسبوعي ثابتة للكتابة. اخلق روتين للكتابة وإلا لن تجد وقت لها ولن تستطيع الاستمرار.

٣- إن كنت تريد أن تكتب ولكن تشعر بتردد كبير، فالغالب أن مصدر هذا التردد هو الخوف، الخوف من الفشل/أو عدم القدرة على الالتزام بالتجربة، الخوف من استهزاء/انتقادات الآخرين لما ستكتب وغيرها من المخاوف. اقترح وبشدة أن تقرأ تدوينة «ماذا يعني أن تختار الخروج إلى الناس عاريًا» فهي تناقش هذا الأمر بإسهاب.

٤- تذكر أن ممارسة الكتابة الشخصية رحلة/مغامرة استكشافية، ليست مسألة حياة أو موت! ليست مسألة اثبات وجود أو انتصار، لذلك تواضع أمام التجربة، اسمح لها أن تأخذ بيدك، اسمح لها أن تعلمك شيئًا جديد..

–انتهى–

المصادر:

[١] George Orwell’s Six Rules For Great Writing, by Harry J. Stead, 2018

[٢] https://sidsavara.com/wp-content/uploads/2008/09/researchsummary2.pdf

[٣] كتاب «حلق»، لآريانا هافنقتون

[٤] ينسب بيت الشعر هذا للإمام الشافعي رحمه الله إلا أن هذه معلومة خاطئة

مصادر الصور بحسب ترتيبها:

Cicap.com

Depositphotos.com

theDietAuthority.com

scalefactor.com

pinterest.com

fineartamerica.com

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

15 ردّ على “لماذا يجب أن تطلق «الكاتب» الذي بداخلك؟ الكتابة كمهارة ضرورية للنمو المعرفي”

  1. الكتابة نجسيد لمكنوناتنا وأفكارنا وأحاسيسنا وبلورتها
    على الورق ربما نرى أنفسنا ونكتشف قدراتنا ومواهبنا الكامنة
    شكرا لك لملامسة حقيقة بداخلنا ولكن نهرب من طرحها

  2. مقال جميل.. فعلًا الكتابة وسيلة تفكير منظّم .. ونستطيع معرفة كثير من طرق تفكير بعض الناس من كتابته فقط.

  3. أعتقد أن أكثر ما أفادتني به الكتابة هو النقطة الأخيرة: التعرف على ذاتي وفهها أكثر
    شكرًا لتذكيرك بأن الكتابة ليست أمرًا سهلًا، واعجبتني فكرة التحديات الذهنية

    شكري المتواصل🌸

  4. شكرا لك ، فعلا الكتابة مهمة و لا يلزم لها طقوس خاصة .

    عودت نفسي على الكتابة باستخدام المسودات في الجوال اصيد الفكره و اوثقها و من ثم في اوقات الفراغ و في جلسات الكافيهات اعود لها و اكتب باستفاضة اكثر

  5. كلامك صحيح، هذه من فوائد وأهمية الكتابة، هذه المقالة ألهمتني بكتابة موضوع مشابه لكن مختلف.
    من قال أن السجائر شيء رومانسي:)، هذا ترويج للتدخين، أنا أراه أبعد ما يكون عن الرومانسية والفطرة

  6. كنت بحب اكتب جدا و افضفض مع نفسي بس اهلي اول ما كانوا يشوفوني بكتب يسيبوني و اول ما تجيلهم الفرصة يفتحوا يشوفوا كنت بكتب اية كأني طفل عنده ست سنين مش شاب كبير و ساعات يلمحوا بحاجة قروها و ساعات يقولوا شوف كنت بتكتب اية بكثير من التنكيل من طموح او خطة كنت كاتبها و لم انفذها
    فاعرضت و بقيت يا ما اكتبش او اكتب بلغة اجنبية و ساعات كتير ببقى نفسي اكتب كتابة منظمة لنفسي بس بعمل حساب اقتحام الخصوصيات دا و ارجع في كلامي
    الخصوصية عند اهلي كلمة غير موجودة في القاموس اللغوي او الحياتي مع كامل حبي ليهم بس هم اتربوا كدة و مش مقتنعين ان ينفع حاجة غير كدة مع دافع الفضول اللي ملوش مثيل عن ان يعرفوا كل حاجة عن ولادهم
    اخيرا شكرا ليك لو وصلت لهنا انا رغاي جدا انا عارف

  7. مدونة رائعة بدأت اكتب للتفريغ قبل شهرين ومستمره الى اليوم استفدت جدا من انني ارى افكاري بحجمها الحقيقي لأن عقولنا تضخم الامور وتحب الدراما.

  8. جميل، مقال غاية في الروعة، أول مرة أقرأ لك، وبالفعل أبهرني تسلسل الأفكار، ولغتك العربية، التي تمتاز بالبساطة والقوة في الآن نفسه، أتمنى أن أثير مثلك.

    وتصبح لي مدونة جميلة مثل مدونتك.

    بالتوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *