ماذا يعني أن تسيطر علينا ثقافة الانفوجرافيك؟ بين الاختصار الضروري والاختصار المؤذي

قبل عدة أيام أصدرت هيئة تقويم التعليم والتدريب بالسعودية نتائج اختبارات وطنية تقيس أداء الطلاب، بحثت في كل موقع ممكن عن “التقرير” الذي تتحدث عنه الهيئة في تغريداتها، لكني لم أجد إلا مجموعة انفوجرافيك منشورة في حوالي ٤ – ٥ تغريدات، في حين كنت أتوقع أن أرى – إلى جانب الانفوجرافيك – تقريرًا لا يقل عن ١٥ صفحة، يتناول الموضوع بالتفصيل الممل.

أشعر أن الانفوجرافيك تحول من مجرد وسيلة إلى ثقافة بحد ذاتها، بل وربما عقلية جديدة في التعامل مع المعرفة، والانفوجرافيك هنا ما هو إلا مجرد وجه واحد من أوجه الاختصار “المؤذي”، ذلك الاختصار الذي يقودنا لتصديق أننا نستطيع الحصول على أي شيء ذو قيمة “الآن”، دون الحاجة لأن ننتظر أو نبذل جهد حقيقي.

أعلم أنك قد تقول «ولكن الناس لن تقرأ أو تتفاعل مع المحتوى الطويل!»، حسنًا، هناك مائة مشكلة ومشكلة في هذه العبارة التي أصبحنا نتداولها وكأنها حقيقة علمية مطلقة، إليك ٤ نقاط توضح بعض الإشكاليات في هذه العبارة .

١) المعرفة اللحظية وهم

عندما نلخص موضوع معقد في “ثريد” نحن لا نساعد الناس على أن يصبحوا “فاهمين” في هذا الموضوع، الأمر نفسه عندما نشارك الدروس التي تعلمناها من تجاربنا – مثلاً حول ريادة الأعمال – على سناب شات في ٥ دقائق، وحتى وإن كتبنا ٧٥٤ منشور على انستجرام، فأيضًا لن يجعل ذلك المتلقي يكتسب معرفة حقيقية حول موضوع ما، إلا إذا استوعبنا كصناع محتوى وكمتلقين أن كل هذه المنشورات المختصرة ما هي إلا مجرد مفاتيح أو مداخل تحفزنا على التبحر والتوسع في الاطلاع والبحث من خلال مواد مفصلة ومطولة مثل الدورات، التقارير، الدراسات، المقالات، الكتب، الوثائقيات، أو حتى المقابلات الطويلة. أستحضر هنا مقولة لنافال رافيكانت علق فيها على السلوك الذي يُعبَر عنه بمصطلح (TLDR: Too Long, Didn’t Read it) والذي يعني “طويل جدًا، لم أقرأه”، فيقول ساخرًا على لسان من يمارسون هذا السلوك: «لا تعطني المحاضرة، اعطني الكتاب، لا تعطيني الكتاب، اعطني التدوينة، لا تعطيني التدوينة، اعطني التغريدة، لا تعطني التغريدة، أنا أساسًا أعرف!».

Reddit

٢) هل فعلاً “الجمهور عايز كده” ؟

نعتقد أن الناس لم يعودوا مهتمين أو حتى قادرين على قراءة المحتوى الطويل، لذلك علينا أن نصنع محتوى قصير حتى نواكب رغبات الناس، صحيح؟ لكن هل هذا ما تثبته الأرقام؟ تظهر إحصائيات أوربيت ميديا لعام ٢٠١٩ أن أفضل التدوينات وأكثرها انتشارًا هي التدوينات الطويلة والتي تتجاوز ٢٠٠٠ كلمة (أي ما يعادل حوالي ٥ صفحات من الوورد/word)، بل وأن هذا النمط في ازدياد [١]

السهم البرتقالي يمثل التدوينات التي تتجاوز الـ ٢٠٠٠ كلمة، بينما يمثل السهم الأزرق التدوينات التي تقل عن ٥٠٠ كلمة

ليس ذلك فحسب، بل وفقًا لتحليل المصدر ذاته: «العديد من الدراسات تشير إلى وجود علاقة ما بين المحتوى الطويل والحصول على تصنيف أعلى، وتفاعل اجتماعي أقوى، ونتائج أفضل بشكل عام» [٢]

٥٥٪ من أصل ألف مدون قالوا أنهم حصلوا على نتائج قوية من تدويناتهم التي تتجاوز الـ ٢٠٠٠ كلمة

الأمر لا يختلف لدي في مدونة مترين في متر، التدوينات الطويلة (أي أكثر من ٨٠٠ – ١٠٠٠ كلمة) هي الأكثر مشاهدة وتفاعلاً مقارنة بالتدوينات القصيرة (٣٠٠ – ٤٠٠ كلمة)، خذ على سبيل المثال مقال حمية الانتباه لمارك مانسون الذي ترجمته، هل تعرف حجم هذا المقال؟ أكثر من ٥٠٠٠ كلمة! (أي ما يعادل ١٢ – ١٤ صفحة من الوورد/word) الآن، كم تتوقع عدد مشاهدات هذا المقال؟

هذه الإحصائيات من مدونة مترين في متر

نعم، أكثر من ٤٠ ألف مشاهدة!

مع تجربة التدوين، آمنت أن فرضية “الناس لا تريد/تقرأ محتوى طويل” ما هي إلا خرافة، وأعتقد أن المشكلة هي أنه لأننا لا نتقن صناعة محتوى طويل “محترم”، فإننا نعتقد أن الناس لا تريده لطوله، لكن لا يخطر ببالنا أن المشكلة قد تكمن في الجودة لا في الطول.

لكن، هل يعني هذا أن الاختصار في صناعة المحتوى أمر سيء؟

  • الإجابة القصيرة: بالطبع لا!
  • الإجابة الطويلة: أعتقد أن هناك نوعين من الاختصار: ١) اختصار ضروري يؤدي إلى توصيل المعلومة بشكل فعّال ومحترف، ويعني أنك تعرض موضوع ما بأقل قدر من الكلمات دون المساس بالسياق/الأفكار/التفاصيل الأساسية التي تشكل جوهر هذا الموضوع، وهذه مهارة عظيمة لا يملكها إلا قلة من الناس، ٢) اختصار مؤذي، وهو أن تختصر موضوع ما بشكل تغتال من خلاله معظم الأركان الأساسية فيه، فتكون النتيجة محتوى سطحي مشوَّه ومشوِّه.

٣) محتوى «يرفع الناس إلى أعلى، لا أن ينزل بهم إلى أسفل»

المحتوى الطويل والمفصّل لا يؤدي إلى اكتساب معرفة عميقة فحسب، بل ضروري لاكتساب لياقة ذهنية تمكننا من أن ننمو فكريًا. وهذا يذكرني بصديقتي رفاه سحاب التي بدأت في قراءة كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد قبل عدة أشهر. إن لم تكن قد اطلعْت على كتابات إدوارد من قبل، دعني أقول لك إن قراءة أعماله عبارة عن عملية مؤلمة؛ لغته وأسلوب كتابته معقد جدًا، ناهيك عن ثقل الموضوعات الفلسفية والفكرية التي تناولتها كتاباته. أتذكر أن رفاه كانت تشتكي عن مدى صعوبة قراءة الكتاب، وترسل لنا تعليقات على الواتس آب من نوع “بناااات أبغى أبكي!”، في إحدى المرات سألتها: «لماذا لا تتوقفي عن قراءته إن كان الأمر معقد لهذه الدرجة !؟» فردت علي، بما في معناه: «ما هو الخيار الآخر، أن أذهب وأقرأ ملخصات عن الكتاب؟ أعتمد على تحليلات الآخرين بدلاً من أن أحلل بنفسي؟ إن استسلمت الآن وقررت التوقف لمجرد أن المادة صعبة، فلن أتمكن من قراءة كتب أخرى مشابهة وبالتالي لن أتمكن من الحصول على المعرفة من مصدرها. علي أن أمرن نفسي وعقلي وأعود نفسي على الصبر على المحتوى الصعب والطويل».

أخيرًا.. ٤) لا يمكن أن نختصر الحياة

هذه سنة كونية، شئنا أم أبينا. كل شيء ذو قيمة يحتاج إلى وقت وجهد ليتكون ويتشكل، هل رأيت عمارة تبنى في يومين؟ هل رأيت جنين يتكون ويوضع في يوم؟ بطل أولمبياد حصل على ميداليته الذهبة خلال أسبوع من بدئه في تعلم الرياضة؟ بل إن رب الكون، تبارك وتعالى، يعلمنا ذلك عندما يقول لنا أنه خلق السموات والأرض في ٦ أيام وهو الذي يقول كن فيكون.

كلما تركنا المجال لأن تتمكن ثقافة الاختصار المؤذي منا، كلما توهمنا إمكانية الحصول على كل شيء ذو قيمة “الآن” أو غدًا أو في أسرع وقت ممكن دون أي عناء يذكر. وكلما أمضينا حياتنا في وهم كهذا، كلما….لا أعلم ما الذي سيحدث حينها..أنا لا أريد حتى تخيل ذلك…

–انتهى–

المصادر:

[١]، [٢] إحصائيات أوربيت ميديا ٢٠١٩

*مصدر الصورة TechSmith.com

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

16 ردّ على “ماذا يعني أن تسيطر علينا ثقافة الانفوجرافيك؟ بين الاختصار الضروري والاختصار المؤذي”

  1. مهم جدا الانفوجرافيك وانا من الناس البصرية احب الاختصار والاشياء المصورة والمرسومة لكن هذا لايلغي اهميه وجود مقالات تفصيليه تُرفق للانفوجرافيك الخاص بها

  2. تعرفت على المدونة من عدة أيام، المواضيع جميلة وثريّة. على ذكر المقالات الطويلة، من أشهر المدونات Wait but why تحوي تدوينات تصل فعلا إلى آلاف الكلمات وعشرات الصفحات وهي من أكثر المدونات قراءةً.

  3. صديقتك تشبهني أحاول أدرب نفسي على الكتب الصعبة وفعلاً لاحظت فائدة عظيمة ، صارت الكتب الثانيه سهلة و صار صبري أطول مقارنة مع معارفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *