كيف هي علاقتك بالصمت؟ تأملات مستوحاة من دجاجة ميخائيل نعيمة

مصدر صورة التدوينة: oceansbridge.com

كثيرة هي المواقف التي نجد أنفسنا نقول فيها: «ياريتني فضلت ساكت!»

أن نعرف متى علينا أن نصمت ومتى نتكلم هي مهارة عظيمة، فكثيرًا ما نتحدث في المواقف التي يجب أن نصمت فيها، ونصمت في المواقف التي يجب أن نتحدث فيها، نشعر بالندم والرغبة في العودة بالزمن للموقف الذي “جبنا فيه العيد” كما نقول باللهجة السعودية الدارجة، أي في اللحظة التي أفسدنا فيها الأمور.

كان يُنظر إلى الصمت في القدم كفضيلة ودلالة على الحكمة، لكننا في عصر تكاد تسود فيه ثقافة الثرثرة كفضيلة، فكيف نفهم العلاقة المربكة بين الصمت وضرورة التحدث؟

من أجمل التأملات التي وجدتها عن الصمت، تأملات الأديب والمفكر ميخائيل نعيمة الذي كتب [١]:

«بصمت الصبور المؤمن أوصيكم، صمت الدجاجة تحتضن البيض، لا بقوقأة رفيقتها إذ تضع بيضة، فالأولى تقف صامتة على البيض واحدًا وعشرين يومًا واثقة من أن اليد السحرية ستجترح عجيبة تحت صدرها الناعم وجناحيها الدافئتين. بينما تنبري الثانية من قنها كالمجنونة معلنة بأعلى صوتها للملأ أنها وضعت بيضة»

استوقفني هذا الوصف كثيرًا، بالرغم من أنني – مثلك عزيزي القارئ – اعتدت على سماع حِكم عن الصمت وفضائله منذ الصغر، إلا أن لكلمات نعيمة وقع مختلف، ربما لأنه من المستفز جدًا أن يتخيل المرء نفسه دجاجة مزعجة! فعلى الأرجح كل واحد منا لديه نوعًا ما صورة ذهنية مثالية عن نفسه وهي بكل تأكيد لا تمت للدجاج المزعج بأي صلة.

لكن ماذا لو تخيلنا أننا إحدى الدجاجتين، أيًا منهما تشبهنا أكثر؟ الصامتة أم القوقاء؟ هل نصمت أكثر مما نتكلم أم العكس؟ هل أحدهما سلوك “صائب” والآخر “خطأ”؟ هل الأمر يتعلق بالسلوك أصلاً أم هي مجرد سمة شخصية يولد بها الإنسان؟

علاقتنا مع الصمت معقدة

من ناحية، يبدو الكلام – المستمر – هو الأمر “الطبيعي” لنا ككائنات بشرية، والصمت أمر دخيل؛ يحدث فقط عندما نتعرض لخطب ما يولد حزن، غضب، استياء، اكتئاب…إلخ. ومن ناحية أخرى حتى عندما نختار أن نصمت كمحاولة لترويض الأفكار والخواطر أو لتهذيب النفس وانفعالاتها، نجد أن من حولنا يهب لإنقاذنا من حالة الصمت، فلا نلبث أن نسمع: «سلامات! تعبان؟ متضايق؟ زعلان مني؟ ليش ساكت!» ومحاولة الإنقاذ هذه إما ناجمة عن محبة واهتمام، أو هروب من الشعور غير المريح الذي يصاحب اللحظات التي يسود فيها الصمت. فحالة الصمت ترعب الكثير منا، حيث أنها تقترن في أذهان الكثير منا بحالات/مشاعر سلبية بالضرورة، بالرغم من أن معظم أدبيات المعرفة الإنسانية المتراكمة تكاد تجمع على أن الصمت كسلوك/ممارسة واعية له دلالة إيجابية تنم عن الحكمة والاستنارة.

والأمر يتعقد عندما نضيف الدوافع إلى القناعات، فهناك دوافع كثيرة تجعلنا نخشى الصمت، مثل وجود ثقافة مجتمعية سائدة تشجع على الثرثرة حول ما يعنينا وما لا يعنينا والإدلاء – بمناسبة وبدون مناسبة – بآراء وإن كانت مستعارة، أضف إلى ذلك النزعات الداخلية لحب الظهور والحصول على مكانة اجتماعية مرموقة، خصوصًا أن هذه الثقافة تصفق وتعير الاهتمام لكل من يتحدث كثيرًا – لمجرد الكثرة – بغض النظر عن قيمة ما يُقال. وبالرغم من ذلك فتبقى هناك دوافع نبيلة أيضًا وراء عدم انتهاج الصمت، كالحرص على قول الحق أو النصح أو الإفادة.

لا شك في أن الصمت الواعي حالة تفضي بالإنسان إلى التحرر من الكثير من القيود، لكن ما كنه هذا الصمت وما شكله؟ يشرح ميخائيل نعيمة كنه الصمت على النحو التالي [٢]:

«إن الصمت الذي أود أن أدخلكم إليه هو تلك الفسحة غير المحدودة حيث يتحول اللاوجود إلى وجود، والوجود إلى لا وجود. هو ذلك الفراغ الرهيب حيث يولد كل صوت ثم يخفت، وكل شكل ثم يسحق، وكل كلمة ثم تمحى. حيث لا شيء إلاه»

ويضيف [٣]:

«وأنتم ما لم تجتازوا تلك الفسحة وذاك الفراغ في التأمل الصامت استحال أن تعرفوا حقيقة وجودكم ووهم عدم وجودكم. أو أن تعرفوا إلى أي حد ترتبط حقيقة وجودكم بحقيقة كل الوجود»

ويكمل [٤]:

«إلى هناك أريدكم أن تسوقوا همومكم ومخاوفكم، وشهواتكم ورغباتكم، وأحقادكم وأحسادكم كيما تبصروها تتلاشى الواحدة تلو الواحدة. وهكذا تستريح آذانكم من صراخكم الذي لا يهدأ، وتأمن ضلوعكم وخز مهاميزها التي لا تطاق»

وبذلك نرى أن الصمت بالنسبة لنعيمة هو أكبر وأعقد وأعمق من مجرد استراحة اللسان المؤقتة عن الكلام. وانتفاء حالة الصمت هذه يقابلها «الفضيلة القوقاءة» التي يحذر منها، بل يؤكد أنه على الإنسان أن يلجم شرفه أو الحديث عن محاسنه كما يلجم ما يخجل منه أو يخشى أن يعرفه الناس عنه، فيقول «لأن حسنة تعلن ذاتها لأسوأ من سيئة صامتة، وفضيلة صخّابة، لأفضل من رذيلة خرساء» [٥].

ماذا عن كثرة الكلام؟

يقول نعيمة في هذا السياق [٦]:

«احترسوا من كثرة الكلام، فمن ألف كلمة ينطقها الناس قد تكون واحدة لا أكثر جديرة بأن تنطق. أما ما بقي فضباب في الفكر، ووقر في الأذن وتعب للسان، وعمى للقلب»

لكن هل يكون الصمت أبدًا فضيلة؟

يقول أهل السلوك: «الصمت سلامة، وهو الأصل»، لكن «النطق في موضعه من أشرف الخصال»[٧]، ويضيفون «من سكت عن الحق..فهو شيطان أخرس»، وعندما سُئل أحد العارفين عن أي الحالتين أفضل: الصمت أو النطق، كان الجواب [٨]:

«لو علم الناطق ما آفة النطق..لصمت إن استطاع عمر نوح، ولو علم الصامت ما آفة الصمت.. لسأل الله عز وجل ضعفي عمر نوح حتى ينطق»

إذن كيف نعرف متى نصمت ومتى نتحدث؟

أنا مثلك عزيزي القارئ، لا أعرف كيف يمكننا الوصول إلى هذه المرحلة التي ننطق ونكتب فيها ما يستحق فعلاً دون ارهاق اللسان والآذان والقلب بما ليس له أي قيمة. لكني أعلم أنه شيء يُتعلم وسلوك يُربى ويُكبر.

–انتهى–

المصادر:

[١]، [٢]، [٣]، [٤]، [٥]، [٦] كتاب «مرداد» لميخائيل نعيمة، صادر عن دار نوفل (هاشين أنطوان)

[٧]، [٨] الرسالة القشيرية للإمام أبي القاسم القشيري، باب الصمت، طبعة دار المنهاج

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

15 ردّ على “كيف هي علاقتك بالصمت؟ تأملات مستوحاة من دجاجة ميخائيل نعيمة”

  1. أحب تسميتك لها “لعنة الكيفيات” فعلاً يزعجني اللجؤ السريع للحلول المباشرة والجاهزة دون التأمل وإكتشاف طرقنا المثلى.

  2. منذ الصغر كنت صامتة، وفي الحقيقة أحببت هذا
    في مراحل ما انطلقت بالحديث وربما (في نظري) بالغت قليلًا
    هذه الفترات أحاول العودة لوضع متوازن وسط بينها لأعلم كما ذكرت “متى أتحدث ومتى أصمت”،؟
    لكن أظن أنني في الغالب سأميل للصمت أكثر، فالكلام أحيانًا يشعرني بالندم
    وبالمقابل هناك بعض الأفعال تتم بصمت لكنها تتحدث بالنيابة عنك بصوت عال 🙂

    كل الشكر الجزيل كالعادة🌸

  3. جزاك الله خيرًا وأسعدك في داريك عزيزتي العنود ..
    شكرا على هذه المقالة الرائعة جدًّا
    في رأيي الصمت أصعب من الكلام، ورغم أننا نحتاج سنتين لنتعلم كيف نتكلم لكننا نحتاج خمسين سنة للتوقف عن الكلام ..

    دمت بخير 🙂

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *