عن الحياة، الحضور، الذات: ١٠ دروس عميقة من ماريا بوبوفا – مقال مترجم

أحد الأشياء المذهلة في التجربة البشرية هو التراكم المعرفي المتمثل في خبرات البشر، والدروس التي نتعلمها إثر خوض تجربة الحياة بكل آلامها وأفراحها، والمذهل أكثر من ذلك هو إمكانية الوصول إلى كنز كهذا بكل سهولة في هذا الزمن، فبضغطة زر على جوجل، يمكنك التعرف والتعلم من خبرات أولئك الموجودين في نقطة مختلفة تمامًا في الزمان والمكان.

إحدى الشخصيات التى أجد عندها تراكم معرفي مدهش وثمين هي «ماريا بوبوفا»، وهي مدونة وكاتبة بلغارية أسست قبل سنوات موقع (BrianPickings) الذي نشر آلاف المقالات المتعلقة بمسائل الفكر، والفلسفة، والعلوم، والفنون، واعتبرته مكتبة الكونغرس الأمريكية أحد مصادرها الأرشيفية الإلكترونية الدائمة.

شخصيًا اعتبر ماريا أيقونة في التدوين، تعلمتُ من تجربتها الكثير ليس فقط على مستوى الكتابة والتدوين، بل حتى على مستوى التعامل مع تحديات الحياة، كالتعامل مع الثقافة السائدة، خاصة عندما توضع في مواقف حياتية تجعلك تشك في اختياراتك.

لذلك أود أن أشاركك عزيزي القارئ جزء ترجمْته بتصرف من إحدى مقالاتها التي لامستني كثيرًا، والتي شاركت فيها ماريا ١٠ دروس تفيض بالحكمة عن الحياة، بناء الذات، التعامل الآخرين، وغيره.

إليك الجزء المترجم أدناه، وإن أردت الاطلاع على المقال الأصلي كاملاً فستجده هنا

١. عش الرفاهية المزعجة الناتجة عن تغيير رأيك

نمِّ مساحة (القدرة السلبية) كما سمّاها الشاعر الرومانسي «جون كيتس»، والتي تعني القدرة على تقبل المجهول والاحتفال بالغموض. نحن نعيش في ثقافة ترى عدم امتلاك رأي (محدد) من أكثر الأمور التي تجلب العار الاجتماعي، لذلك في أحيان كثيرة نشكل “آراءنا” على أساس انطباعات سطحية، أو أفكار مستعارة من الآخرين دون استثمار الوقت والتفكير اللذان يستلزمان بناء قناعة حقيقية، ثم نمضي في التأكيد على هذه الآراء التي “نرتديها” ونتشبث بها كقواعد لواقعنا. من المربك للغاية أن نقول ببساطة: «لا نعرف»، إلا أن للفهم مردود مجزٍ يفوق كون المرء على صواب، حتى لو استدعى الأمر تغيير رأيك حول موضوع أو أيديولوجية ما، أو قبل كل شيء، حول نفسك.

٢. لا تفعل شيئًا لمجرد الحصول على البريستيج، أو المكانة الاجتماعية، أو المال، أو القبول من الآخرين

 كما قال «بول جراهام»: «البريستيج كالمغناطيس القوي الذي يشوه حتى معتقداتك حول ما تستمتع به، فهو لا يجعلك تعمل على ما يعجبك، بل على ما تريد أن يعجبك». هذه المحفزات الخارجية لا بأس بها، وقد تبعث شعورًا مؤقتًا يؤكد على أهمية حياتنا، لكنها في النهاية لا تجعل من الحياة أمرًا ممتعًا. ومن شأن [هذه المحفزات الخارجية] في الواقع الانتقاص من الأمور التي تقدم [لنا] مردودًا أعمق وتشتتها.

٣. كن كريمًا

كن كريمًا بوقتك، ومصادرك، والاعتراف بجهود الآخرين، وفوق ذلك كله كن كريمًا بكلماتك. من الأسهل جدًا أن تكون منتقِدًا بدل أن تكون شخصًا يحتفل بإنجازات الآخرين. تذكر دائمًا أن هنالك إنسانًا ما على الطرف الآخر يُنتقد، أن تَفهم وأن تكون مفهومًا ما هما إلا أحد هدايا الحياة العظيمة، وكل تعامل [بيننا] يمثل فرصة لتبادل هذه الهدايا.

٤. ابنِ زوايا من السكون في حياتك

 تأمل، اذهب في نزهة، اركب الدراجة دون أن تكون لديك وجهة معينة. هناك غاية إبداعية من أحلام اليقظة وحتى من الملل. تأتينا أفضل الأفكار عندما نتوقف عن المحاولة الحثيثة للبحث عن الإلهام وتحويله إلى فعل متجلٍّ، كما تأتينا أفضل الأفكار عندما ندع شظايا التجربة تتجول حول عقلنا اللاواعي لتكوِّن لدينا مزيجًا جديدًا من الأفكار، ودون هذه المرحلة الأساسية من تفعيل العقل اللاواعي يتعطل إنتاج العملية الإبداعية برمته.

والنوم أهم من كل شيء آخر، فبجانب أنه يعتبر أكثر منشط إبداعي، فهو يؤثر على لحظات اليقظة التي نعيشها، ويملي علينا إيقاع الحياة الاجتماعية، بل يتدخل في التحكم بمزاجنا السلبي، كن منضبطًا في نومك كانضباطك في عملك. نحن نميل إلى التباهي بقدرتنا على ممارسة أعمالنا بالرغم من القدر القليل الذي نحصل عليه من النوم، [ويأتي هذا التباهي] كنوع من الأفعال التي تثبت مدى التزامنا بأخلاقيات الحياة المهنية والعمل، لكن [ممارسة كهذه] في الحقيقة ما هي إلا فشل عميق في احترام الذات والأولويات، فما الذي يمكن أن يكون أكثر أهمية من صحتك وعقلك؟ والذي ينبع منهما كل شيء آخر؟

٥. عندما يخبرك الناس عن أنفسهم ومن يكونون، صدقهم -كما وصّت «مايا أنجيلو» الشهيرة- لكن عندما يحاول الناس إخبارك من تكون، لا تصدقهم، أنت الوصي الوحيد على نزاهتك وتمامك، والافتراضات التي يقدمها أولئك الذين يسيئون فهمك وفهم ما تؤمن به تكشف الكثير عنهم، لا عنك.

٦. الحضور [أو عيش اللحظة] أرقى وأنفع للفن من الإنتاجية

 إن الثقافة التي نعيشها ثقافة تقيس قيمتنا كبشر من خلال كفاءتنا، ودخلنا المادي، وقدرتنا على القيام بهذا أو ذاك. ثقافة الإنتاجية لها مساحتها، لكن تقديسها يحرمنا من القدرة على الشعور بالبهجة والتعجب اللذان يجعلان من الحياة مكانًا يستحق العيش فيه، وكما قال «آني ديلارد»: «الطريقة التي نعيش بها أيامنا، هي بكل تأكيد الطريقة ذاتها التي سنعيش بها بقية حياتنا».

٧. «توقع أن يستغرق أي شيء ذو قيمة وقتًا طويلاً»

هذه عبارة مستعارة من «ديبي ميلمان» الحكيمة والرائعة، من الصعب التعبير عن شيء محوري لكنه في الوقت ذاته متجاهل في ثقافة الفورية [أو الآنية] التي نعيشها. إن فكرة تحقيق النجاح بين عشية وضحاها مجرد خرافة، وهي أيضًا تذكير بأن تعريفنا الحالي للنجاح يحتاج إلى إعادة ضبط جادة، إن الزهرة لا تنتقل فجأة من طور التبرعم إلى الإزهار، مع ذلك، نحن لا نكترث للوقت الممل الذي تتطلبه عملية الإزهار بسبب ثقافة مجتمعنا، بالرغم من أن هذه هي المساحة التي يتكشف فيها كل السحر الحقيقي في صنع شخصية الفرد ومصيره.

٨. ابحث عما ينمي روحك

عندما تحدثت «باتي سميث» عن «ويليام بليك» والمؤثرين الآخرين على إبداعها، تحدثت أيضًا عن الكتب والفنانين الذين ساهموا في تنمية روحها. يا له من قول جميل وفكرة جميلة! من هم الناس والأفكار والكتب التي تنمي روحك؟ ابحث عنهم، وتمسك بهم، وتردد إليهم كثيرًا. ارجع إليهم ليس فقط كعلاج إذا ما أصيبت حيويتك بضيق روحي، بل كلقاح وقائي تأخذه لحماية توهجك حتى إن كنت بصحة جيدة.

٩. لا تخف من أن تكون مثاليًا

هناك الكثير مما يمكن قوله عن مسؤوليتنا بوصفنا المبدعين والمستهلكين لهذا التفاعل الديناميكي المستمر الذي نسميه الثقافة. أي جانب نتمسك به؟ تلبية رغبة الجماهير أم ابتداع أمور خلاقة؟ منظومة المشاريع التجارية تكيّفنا على الاعتقاد بأن الطريق إلى النجاح ممهد بتلبية الاحتياجات الحالية، فيُقال: «أعط الناس صور قطط متحركة (GIF) لأنه هذا ما يريده الناس»، لكن «إي. بي. وايت» أحد آخر الكتاب المثاليين العظماء، كان على حق إلى الأبد عندما أكد قبل نصف قرن أن دور الكاتب «رفع الناس إلى أعلى، لا النزول بهم إلى أسفل»، وهذا دور ينادي كل واحد منا بإلحاح، أيًا كانت المهمة التي يؤديها كل منا في المجتمع، العرض يخلق طلبًا خاصًا به، ومن خلال الاستمرارية في توفير العرض نأمل أن يتعدى الطلب على الحقيقي، الطلب على السطحي، لا في نطاق حياتنا الفردية فحسب بل في نطاق الحلم الجماعي الذي يدعى بالثقافة أيضًا.

١٠. لا تقاوم النظرة السوداوية [أو اليأس] فحسب بل حاربها بجدية

حاربها في نفسك، لأن هذا الوحش البشع يقبع داخل كل واحد منا، وقم بمواجهتها عند من تحبهم وتتعامل معهم، وتصرف بما هو نقيض السوداوية…النظرة السوداوية بطبيعتها غير خلاقة، وغير بنّاءة، وتؤدي إلى التآكل الروحي. الحياة مثل الكون، لا تتسامح مع أي ركود، ففي غياب النمو يستولي الخراب على النظام، ومثل كل أشكال الدمار الأخرى تبني النظرة السوداوية أسهل بكثير من البناء ولا يستدعي أي جهد. لا يوجد شيء أكثر صعوبة وفي الوقت نفسه مثلج للصدر في مجتمعنا كالعيش بإخلاص، والتصرف بعطف، ودعم وإيمان عقلاني بالروح الإنسانية، والانحناء باستمرار نحو النمو والتحسن، وهذا ما يزال المضاد الأقوى ضد النظرة السوداوية، خاصة في عصرنا حيث تعد محاربة السوداوية واليأس عملًا ينم عن الشجاعة والمقاومة.

–انتهى–

اقترح وبشدة أن تستثمر ساعة من وقتك في الاستماع إلى هذه المقابلة الأسطورية لـ «ماريا بوبوفا» مع «كريستا تيبيت» على بودكاست (On Being): نقاش عميق عن الحياة، عن المعرفة والتعلم وكيفية تعاملنا مع المعلومات في هذا العصر، وموضوعات أخرى رائعة.

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

17 ردّ على “عن الحياة، الحضور، الذات: ١٠ دروس عميقة من ماريا بوبوفا – مقال مترجم”

  1. جميل جدا
    واضح جدا من النصائح التي ذكرتها الكاتبه انها تملك روحا مشرقة وميل شديد للغير
    جوهر الثقة بالنفس كان مقولة(صدِّق ما يقوله الناس عن انفسهم لكن لا تصدق ما يقولونه عنك) طبعا حسب المقولة الواثق بنفسه هو انسان متقبل للاخرين ومستعد لتقبل راي الاشخاص بانفسهم لكن لا يسمح لهم بشكل من الاشكال ان يتعدو الحدود ويتطاولو على شخصيته فهي شخصيته ومن حقه وحده بناءها
    تحت عنوان لا تخف ان تكون مثاليا
    طرحت سؤال مهم للغاية( هل عليك ارضاء الجماهير ام ابتداع امور خلاقة) أظن ان الجواب يقسم الناس لقسمين القسم الذي يختار الاحتمال الاول وهو قسم مقلد يبحث باستمرار عن نسخة جديدة للصقها على نفسها ، اما اصحاب الاحتمال الثاني والذين حتما يحتاجون ثقة هائلة بالنفس فهم المميزون المبدعون والمنتجون الحقيقيون أي النسخة الأصلية
    اما النصيحه الاخيرة لا تكن سوداويا فانا اعتبرها الافضل وتحتاج لتدريب كبير للتمكن من تحقيقيها

  2. ترجمة بديعة واختيار رائع يلامس أوجاع الحياة المعاصرة، كالعادة تتحفنا هذه الصفحة بكل جميل ولائق.

  3. في كل مة أقرأ لكِ لا أفكر بموضوع التدوينة قدر تفكيري بالجهد الذي بُذل فيها لتقدم بهذا الصورة 🙂
    ممتنة جدًا لما تكتبين واستفدت حقًا من هذه النصائح القيمة
    تقديري🌸

  4. هل تعلمي بأن مدونتكِ جزء من روتيني اليومي ، وان معظم تدويناتكِ دروس بالنسبة لي
    شكرا لكِ ♥️♥️

  5. شكرًا جزيلًا، يا العنود.
    مجهود مشكور؛
    المقالة ملآنة بفوائد جمّة:
    – حارب السوداوية؛ خصوصًا بداخلك.
    – (العرض يخلق الطلب الخاص به)
    – عيش اللحظة.. هذه النصيحة يحتاج تفنيدها وتحليلها الى رسائل دكتوراة (ربما أبالغ قليلًا!)، أنا ابن هذا المجتمع تشكلت شخصيتي فيه، تأثرت وأثرت، لكن أسوأ شيء لاحظته بعد انتقالي من حياة الريف الى الحياة المعلبة (الحياة في المدينة) هو سيطرة عقلية السباق على عامة الكائنات؛ أن تسابق لتلحق مقعدًا في عربات المترو، تتسابق لتصل باكرًا، تتسابق أمام المطعم، تتسابق حتى عندما لا يكون هناك داعي لذلك!

    عمومًا سلامي الى النخلة التي جلست معها أطالع شروق الشمس، عسانا نلتقِ مرة أخرى كما كان يحدث قديمًا، تحت السماء وأمام الحقول الخضراء، يؤانسني كتابٌ، وبيدي كوباية القهوة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *