ماذا لو رُفعت عليك قضية عند الملك بيارست؟ عن رسائل إخوان الصفا وكتاب «دعوى الحيوان» لهدى القدومي

قبل أكثر من ١٠٠٠ سنة كتبت مجموعة سرية عرفت باسم «إخوان الصفا وخلان الوفا» موسوعة اشتملت على ٥٢ رسالة فلسفية في «الرياضيات والموسيقا والمنطق والفلك والعلوم الفيزيائية مع العلوم الطبيعية بالإضافة إلى استكشاف طبيعة النفس والبحث في قضايا مرتبطة بالأخلاق والوحي والروحانية»[١]، إحدى هذه الرسائل وهي الرسالة الـ ٢٢ خصصت للحديث عن جور الإنسان على الحيوان، والسؤال المحوري الذي تطرحه هذه الرسالة: ما الذي يعطي الإنسان الحق في السيادة على الحيوانات، وبماذا يفتخر عليهم؟

مذهل أن هذه القضية شغلت أذهان فلاسفة ومفكري ذلك العصر إلى الحد الذي يجعلهم يكرسون لها رسائل مطولة، أعني قبل ١٠٠٠ سنة لم تكن هنالك مصانع المواشي بآلاتها الحديثة التي تفرم الحيوانات وهي حية أو تنتهك أجسادها بالتعذيب والاغتصاب والكيماويات حتى تتمكن الشركات الجشعة من ضخ السوق بالمزيد والمزيد من اللحوم والألبان التي تفيض عن حاجة المستهلك!

اختار إخوان الصفا وخلان الوفا أن يبحثوا ويبنوا هذه المسألة من خلال قصة ترفع الحيوانات فيها دعوى قضائية ضد الإنسان عند ملك جان يدعى بيارست، وجعلوا القصة تُروى على لسان الحيونات، لأن هذا كما قالوا «أبلغ في المواعظ، وأبين في الخطاب، وأعجب في الحكايات، وأظرف في المسامع، وأطرف في المنافع، وأغوص في الأفكار، وأحسن في الاعتبار» [٢].

مصدر الصورة: cinephi.blogpost.com

ولحسن حظ الأجيال القادمة التي في الغالب لن تتعرف على التحفة الأدبية والفلسفية التي تركها لنا إخوان الصفا (كما لم يتعرف عليها معظمنا من قبل)، قدمت لنا الكاتبة هدى الشوا القدومي قصة ذات لغة بديعة مستوحاة من الرسالة الـ ٢٢، حيث كتبت كتابًا في ٢٠١٠ بعنوان «دعوى الحيوان ضد الإنسان عند ملك الجان» يستهدف القراء الناشئة ويدعوهم إلى التعرف على عمل مهم من التراث العربي القديم كهذا.

في هذا المقال، سأتحدث عن الكتاب من ناحية: القصة والمفاهيم، والنص، والرسومات

القصة والمفاهيم

قرأت كلاً من الرسالة الأصلية وكتاب هدى القدومي عدة مرات، وفي كل مرة أجد نفسي غارقة في جمال المعنى واللغة أكثر وأكثر.

تروي الرسالة الأصلية قصة نجاة مجموعة من البشر، كانو على متن سفينة لكن عاصفة هوجاء قذفت بهم إلى ساحل جزيرة لا تسكنها إلا الحيوانات التي تعيش في سلام، ومع الوقت استوطن هؤلاء البشر وبدأوا بالتعرض للحيوانات واستغلالها، بل أعلنوا أنهم أرباب وهذه الحيوانات عبيد لهم، عند ذلك اجتمع زعماء الحيوانات وذهبوا إلى بيارست الحكيم، ملك الجان، استنجادًا به، فعقد الملك محكمة ومناظرة بين الإنسان والحيوان للبت في هذه القضية.

من رسومات كتاب «دعوى الحيوان» لهدى القدومي

وتأتي أهمية رسالة إخوان الصفا من كونها مصدرًا لفهم الكثير من مسائل القرن الرابع هجري، حيث تعتبر مثالاً على أدب المناظرات الذي انتشر في العصر العباسي، وتعطي ملمحًا عن «فن المجادلات الكلامية» الذي شاع بين الفقهاء والفلاسفة والعلماء، كما أنها تعكس وجهًا من الحياة والقضايا السياسية والإجتماعية والثقافية في تلك الحقبة كالعدل، والحرية، والحق في العيش الكريم لجميع المخلوقات، لذلك وإن كانت تتحدث عن ظلم الأنسان للحيوان، فهي ملغمة برسائل غير مباشرة تتجاوز هذا السياق.

الفرق بين الرسالة الأصلية والكتاب هو أن الأولى مطولة ومفصلة ولغتها ذات مستوي أدبي عال، كما أنها تضم محاور أكثر وأعقد مثل: صفات الحاكم العادل، أما الكتاب فيعكس الفكرة/القصة الأساسية في نص مختصر، ولغة أبسط ليسهل فهمها من قبل القراء الناشئين، أيضًا أجد أن كتاب يروى القصة في ضوء قضايا حديثة مثل ظاهرة الاحتباس الحراري والدمار البيئي الذي نعيشه اليوم.

وهذا برأيي أمر عبقري جدًا، فليس الهدف من إعادة قراءة التراث النظر إليه كأحداث خارجية ليس لها علاقة بما نعيشه اليوم!

ومن أهم المفاهيم التي تحتويها القصة -عدا مفهوم العدل- هي تهذيب الأنا الزائفة (كما يسميها د. مصطفى محمود رحمة الله) أو ما يعرف بالـ Ego، فجميع الحجج التي يستخدمها الآدمييون تدور حول فكرة أن الإنسان أفضل، وأكثر تفوقًا، وأعلى، وأسمى، ولذلك يحق له مالا يحق لغيره، ويحق له استعباد واستغلال كل شيء لأن كل شيء خلق من أجله! لكن إخوان الصفا فندوا هذه الحجج – على لسان الحيوانات- ليوضحوا مكانة الإنسان الفعلية، فمثلاً عندما يقول زعيم الأنس أنه يحق لهم استعباد الحيوانات لأن الله سخر الحيوانات لهم، يرد زعيم البهائم على ذلك بـ:

اقتباس من الرسالة الأصلية

وهكذا مع باقي البراهين التي يستخدمها الإنسان كتكريم الله له، وتفوقه بالعقل والعلوم، وحسن هيئته، وبعث الأنبياء إليه ونزول الرسالات فيه، كلها ترد وتفند بالحجج حتى يعي الإنسان مكانته الحقيقية: ألا وهي أنه جزء من منظومة كونية لا سيدها أو رئيسها أو محركها!

مصدر الصورة: steemit.com

وبهذا النقاش الذي يجعل القارئ يضع نفسه مكان الآخر، ويرى الأمور من منظور آخر، يتجلى من خلال القصة أسمى أشكال السعة والاحتواء والتعاطف والتراحم، لدرجة أن إخوان الصفا يذهبون إلى تبيان جانب من إفتراء الإنسان على الجان، وهو ما استوقفني كثيرًا وجعلني أفكر، فعلاً لماذا نكره الجان! (الحديث هنا ليس عن إبليس والشياطين بل عن الجآن وهناك فرق، أيضًا لا يهم إنك كنت تؤمن بوجود الجآن أو لا، الفكرة هنا هي التركيز على مستوى التعاطف أو الـ empathy الذي يظهره نص إخوان الصفا).

اقتباس من كتاب «دعوى الحيوان»، صفحة ٦٥

أضف إلى ذلك مفهوم محوري آخر في القصة ألا وهو أن السبيل إلى انتزاع الحق هو اقامة البراهين والحجج المنطقية ورجحان العقول، لا الاستدراج أو الاستعطاف أو الارتشاء أو العنف، وأن:

اقتباس من الرسالة الأصلية

النص

اختارت الكاتبة هدى القدومي أسلوبًا نثريًا مرصعًا بالسجع، وهو ما زاد النص جمالاً برأيي، وبالرغم من أن اللغة مبسطة جدًا للقراء من فئة الناشئة (مقارنة بلغة النص الأصلي)، إلا أن البساطة لم تؤثر على الحس الأدبي الجميل، وأتخيل أن النص ممتاز لأن يقرأ على مسامع جمهور دون أن يضطروا إلى النظر إلى صفحات الكتاب، فقصر العبارات، وقوة معانيها، وموسيقيتها قادرة على خلق جو حكواتي رائع.

اقتباس من كتاب «دعوى الحيوان» صفحة ٣٠
الملك بيارست، من رسومات الكتاب

الرسومات

صاحب نص هدى القدومي رسومات من عمل الفنان التشكيلي السوداني حسن موسى وهو الحائز على دكتوراه في تاريخ الفنون من جامعة مونبيليه من فرنسا، فلك أن تتخيل البعد الفكري الذي صاحبت هذه الرسومات.

طغى على رسوماته الطابع العربي، فكل الهيئات مشكلة من حروف عربية، وهو ما خلق روح جميلة متماشية مع الإرث الثاريخي الذي يحمله النص، لكن هذا لم يمنع الرسام من أن يبث نفسًا معاصرًا، وكما ترى، الرسومات ذات ألوان نارية وحس تجريدي يحاكي هذا العالم المتخيل، لا سيما عالم الجآن.

وزير ملك الجآن
الفيلسوف والحكيم

لكني في معظم أجزاء الكتاب لم أشعر أن هناك حوارًا متينًا ومتواصلاً بين الرسومات والنص، أو علاقة تكاملية بينهما، وهو أمر محزن، بالرغم من ذلك استمتعت كثيرًا بالرسومات والتي تعتبر كل واحدة منها لوحة فنية قائمة بذاتها.

الحيوانات ثائرة..
ومستاءة..

 –انتهى–

إذا أردت الحصول على نسخة من الكتاب، فستجده على موقع دار الساقي، جملون، نيل وفرات، كما توجد نسخة متوفرة على كيندل، والكتاب أيضًا متوفر باللغة الإنجليزية

المصادر

[١] مقال عن إخوان الصفا، معهد الدراسات الإسماعيلية، يوسف. و. ميري، ٢٠٠٦

[٢]، [٣] رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، المجلد الثاني: الجسمانيات الطبيعيات

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

 

 

6 ردود على “ماذا لو رُفعت عليك قضية عند الملك بيارست؟ عن رسائل إخوان الصفا وكتاب «دعوى الحيوان» لهدى القدومي”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *