لماذا نعرف الإمام الطبري ولا نعرف العالمات الطبريات؟

هل أنا الوحيدة التي لم تكتشف الطبريات إلا مؤخرًا؟ قبل عدة أشهر زرت معرض «العنقاء دائمًا تسمو» للفنانة سارة العبدلي، كل شيء في ذلك المعرض يلفت -بل يسرق- الانتباه، يستولي على الحواس، بل ويقطع الأنفاس! لكن أكثر ما استوقفني هو عمل يظهر ٣ نساء طبريات، على رأسهم قريش بنت عبد القادر الطبرية.

عدا جمال تفاصيل العمل ووقعه على النفس، أذهلتني قصة الطبريات، شرحت لي سارة أنهن نساء من أحد أشهر عوائل الحجاز قديمًا، الطبريون، والتي كانت لهم مكانة وأهمية ثقافية عالية في المجتمع المكي على مدى ١٠ قرون، امتدت من القرن الثالث هجري وحتى الثالث عشر.

عُرفن الطبريات (كما عرف رجالهن) بانصرافهن إلى العلوم والمعارف والتأليف وتولي الوظائف الدينية من تدريس وخطابة، بالإضافة إلى دورهن الكبير في تطوير المجتمع المكي من خلال إنشاء وإدارة المؤسسات الخيرية، والصدقات، والأحباس، التي كانت تقام لإعانة الفقراء والمحتاجين، مثل تأسيس الأربطة، والسبيل، والكتاتيب، واعتاق الرقاب، وقد عُرف عنهن أيضًا سمو الأخلاق، والمرؤة، والكرم، والتدين، والفضل، والرياسة [١].

عندما عرفت كل ذلك عن الطبريات، دهشت، وأظن أني حزنت أيضًا! قلت لسارة «لماذا لم نسمع عنهن من قبل!» دهشت بمدى قوة حضور هؤلاء النسوة في المجتمع في ذلك العصر، ومدى غزارة علمهن، وعظم أثرهن الممتد لا في عصرهن فقط بل حتى إلى عصرنا، حيث اعتبر الشيخ فالح الظاهري قريش بنت عبد القادر الطبرية، «واحدة من مسانيد الحجاز السبعة الذي كانوا السبب في كون الحديث في القرون الثلاثة الأخيرة [القرن الحادي عشر وما بعده] قد قويت شوكته» [٢]، وقال:

أما عن سبب حزني، فلا أعلم كيف هو وضعك عزيزي القارئ، لكن عن نفسي، الموروث المعرفي الذي تلقيته عن المرأة في التراث العربي الإسلامي ينقسم إلى ٣ أقسام رئيسة: ١) أمهات المؤمنين والصحابيات في عهد الرسول عليه السلام والصحابة الكرام ، ٢) الجواري ونساء الحرملك اللاتي لا دور لهن إلا التنافس على نيل قلوب الخلفاء وصنع المكائد لبعضهن البعض! ٣) سيدات في القصور يحركن أبنائهن أو أزواجهن للاستيلاء على السلطة، وهاتان الصورتان الأخيرتان تمتدان من عهد الأمويين وحتى الدولة العثمانية. بغض النظر عن الكيفية التي شكل بها هذا التنميط، هو بلا شك مغروس في الذاكرة الجمعية عند الكثيرين مثلي.

لذلك أريد أن أشاركك في هذه التدوينة السريعة بعض المعلومات المثيرة للاهتمام عن الطبريات، ليس من باب “التغنّي والتباهي بالأيام الخوالي” أو التباكي على الأطلال، فأنا لا أحب النفَس “الحلطمي” ولا أرى جدوى بأن نكون حبيسي نقطة معينة من الزمن، لكني أؤمن وبشدة أن الذاكرة التاريخية الجمعية لكل أمة تساهم في تشكيل حاضرها ومستقبلها، وهذا أمر لا نستطيع تجاوزه، لابد أن تكون هناك عودة إلى التراث بغرض قراءته قراءة جديدة تساهم في إعادة صياغة هذه الذاكرة الجمعية التي شُوه جزء كبير منها، وعلى رأس ما شُوِّه – بالطبع- صورة المرأة العربية المسلمة.

أحد أعمال الفنانة سارة العبدلي، مصدر الصورة: حسابها الشخصي على انستقرام

عند البحث عن تاريخ وسيرة الطبريات، وجدت صعوبة في العثور على مصادر، معظم الكتب القديمة التي ذكرت تراجمهن غير متوفرة على الانترنت، لذلك قد يجدها الباحث في مكتبات الجامعات أو المكتبات العامة، لكن لحسن الحظ وجدت ورقة بحث من إعداد الدكتورة لمياء أحمد شافعي، أستاذة بقسم التاريخ، كلية الشريعة، بجامعة أم القرى، وهي ورقة بذل فيه جهد كبير لجمع ترجمات الطبريات.

هل الإمام الطبري والطبريات من نفس العائلة؟

الطبريون ليسوا ذات العائلة التي ينسب إليها الإمام أبو جعفر الطبري الملقب بإمام المفسرين، حيث أن الإمام الطبري ولد بإقليم طبرستان واستوطن ببغداد (٢٢٤هـ/٨٩٣ م – ٣١٠هـ/٩٣٢م)، بينما ينسب طبريو الحجاز إلى مدينة طبرية بالشام، وقد نالوا مكانتهم بسبب امتداد مشاركتهم في الحياة الثقافية ووفرة إنتاجهم من العلماء والعالمات والقضاة والأئمة والخطباء [٣].

الطبريات علّمن وأجزن شيوخ وعلماء عصرهن

رصدت د. لمياء خلال مراجعتها للمخطوطات القديمة ما يقارب الـ ١٢٧ طبرية منهن ٦٧ من العالمات المثقفات اللاتي تتلمذ على أيدهن العديد من شيوخ وعلماء عصرهن من الحجاز، والشام، ومصر، والأندلس، مثل السيوطي والسخاوي.

والطبريات أنفسهن أخذن العلم من كبار علماء عصرهن مثل ابن خلدون، فعلى سبيل المثال، «تعلمت خديجة بنت محمد الجمال الطبرية على يد قرابة الـ ٣٠ شيخ من شيوخ علماء العصر، كما اشتهرت رحمة بنت محمد بدراستها على قرابة ٤٣ شيخ من كبار علماء الحجاز، والشام، ومصر، ومثلها أم كلثوم التي درست على ٣٠ شيخ، وفاطمة التي أجاز لها أكثر من ١٦ عالمًا» وقد بلغ عدد الشيوخ والعلماء الذين درسن نساء الطبريين حوالي الـ١٢٠ مما رصدته المراجع [٤].

الطبريات برعن في علم الحديث

يبدو أن نساء العرب بشكل عام ونساء مكة بشكل خاص برعن في علم الحديث (دراية ورواية، قراءة وإجازة)، وغلب علمهن فيه على باقي العلوم، وقد بلغت مؤلفات الطبريات المرصودة في التراجم ٤٥ كتاب كلها في علم الحديث باستثناء واحد في اللغة [٥].

وهنا أتساءل لماذا علم الحديث بالذات كان غالبًا على علم نساء العرب، أهو بسبب قدرتهن الفطرية على الحفظ وتذكر التفاصيل والنزعة إلى الحرص والعناية، أم لأسباب اجتماعية؟

ملاحظة حول البيئة التي أخرجت الطبريات

من الجدير بالذكر أن كل هؤلاء الطبريات نشأن في بيوت علم، فكل هؤلاء العالمات كان آبائهن/إخوانهن أهل علم، أو قضاة أو أئمة، حتى أزواجهن، فلا تكاد تجد امرأة عالمة طبرية لم تتزوج عالمًا أو رجلاً من كبار الفقهاء، أو القضاة، أو الخطباء [٦].

وهنا لا أستطيع أن أمنع نفسي من التعليق على هذه النقطة الأخيرة، ألا وهي التوافق/الانسجام العلمي والثقافي التي قامت عليه زيجات الطبريات.

في النهاية، حقًا أتساءل لماذا أنا والعديد مثلي لم نسمع يومًا أو ندرس عن الطبريات، أو الرموز النسائية في التراث العربي الإسلامي، أظن أن معظمنا لا يعرف إلا أمهات المؤمنين والصحابيات رضوان الله عليهن كرموز، ولكن ماذا عن الرموز النسائية في القرون اللاحقة؟

مثلاً، ماذا عن ستيتة بنت المحاملي (القرن الـ ٤ هجري)؟ والتي كانت تتصدر الافتاء في عصرها مع أبي علي بن أبي هريرة، وكانت مستشارة علمية في محكمة بغداد نظرًا لبراعتها في علوم الفقه والرياضيات [٧].

و ست الوزراء بنت عمر بن أسعد ابن المنجي (القرن الـ ٤ هجري)؟ والتي عرفت باسم الوزيرة الفقيهة، كانت آخر من حدث بمسند الشافعي، وقال عنها العلماء أنها «مسندة العصر» أجازت العديد من الفقهاء وتخرج على يدها العديد من القضاة، كما أنها لقبت بـ “رحلة زمانها” نظرًا لأن طلاب العلم من مختلف البلدان قصدوها للتعلم على يدها، كما طُلبت للذهاب لعدة بلدان للتحديث وعقد مجالس سماع فيها [٨] [٩].

قائمة الأسماء قد تطول، لكن الفكرة هنا هي أن البحث وتعلم مالم نتعلمه من المدارس والثقافة السائدة مسؤوليتنا جميعًا، ومسؤولية الجامعات والجهات الحكومية، كوزارة الثقافة أن توفر نسخ إلكترونية من كتاب التراث (خصوصا النادرة) حتى يسهل الوصول إليها.

أنا ممتنة للفنانة سارة العبدلي التي عرفتني بالطبريات من خلال أعمالها، أكبر وأقدر كل جهد وعمل محترف أصيل يعزز حضور ويصحح تشوهات الذاكرة الجمعية العربية والإسلامية في وجداننا.

الفاتنة سارة العبدلي بجانب أحد أعمالها (صفاء ومروة) بمنزل الشربتلي بمنطقة جدة القديمة. مصدر الصورة حسابها على انستقرام

–انتهى–

المصادر

[١] ورقة بحث: مكانة المرأة العلمية في الساحة المكية؛ النساء الطبريات مثالاً من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر هجري، د. لمياء أحمد شافعي، ٢٠٠٥

[٢]، [٣]، [٤]، [٥]، [٦] المصدر السابق

[٧] كتاب بغداد لأبو بكر أحمد بن علي البغدادي

[٨] كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ليوسف بن تغري

[٩] موسوعة الأعلام لخير الدين الزركلي

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

9 ردود على “لماذا نعرف الإمام الطبري ولا نعرف العالمات الطبريات؟”

  1. تدوينة عظيمة عن النساء “العالمات” في التراث الإسلامي.
    أظن أن أهم سبب لعدم معرفتنا بهؤلاء الفقيهات والعالمات هو قلة مؤلفاتهن، فمهما كن ذا منصب وعلم في ذلك الوقت فلا شيء يكتب الخلود والاستمرار كالكتاب.
    إضافة: تدوينتان جميلتان من (سلمى الهلالي) عن موضوع مقارب
    – عن غياب راويات الحديث وعودتهن
    http://www.helali.net/wp/2019/04/05/غياب-راويات-الحديث-وعودتهن/
    – الجدات المؤلفات
    http://www.helali.net/wp/2019/04/03/الجدات-المؤلفات/

    1. اتفق معك، قد تكون هذه أحد أهم الأسباب، بالرغم من هناك العديد من العلماء الذين نعرفهم جيدًا إلى اليوم بالرغم من أنهم لم يؤلفون مؤلفات، بل نقل عنهم تلاميذتهم ودونوا شروحهم، وبذلك عرفناهم..ممتنة لمشاركتي التدوينات، سأطلع عليها بحول الله

  2. موضوع جميل يبين الدور الهام للمرأة المسلمة فى مجال العلم يبدو أن هناك من يريد اختصاره فى الوظائف التقليدية داخل أسوار المنزل. قرأت أنه فى احدي مدن الاندلس امر الحاكم بان يوقد قنديل أمام بيت كل أمرأة عالمة بدينها وقد أحصي ما يزيد على عشر الاف قنديل أمام البيوت فى تلك المدينة لا أذكر اسمها. الى جانب الشاعرات والعالمات فى الاندلس هل هذا بسبب البيئة المختلفة عن البيئة الصحراوية التى جاء منها العرب ؟ سؤال يفتح الباب لمظيد من الحوارات حول أثر البيئة على الاوضاع الثقافية والعلمية للنساء بالتحديد؟ تحياتي

  3. موضوع جميل مع العلم أنني لم أعرف عنه الا من هذة المقالة ولكن يؤسفني أننا لم نكن نعلم عنهن رغم علمهن واجتهادهن،ورغم ذلك اسعدني أن أقرا عن نساء عظيمات ذوات تاريخ مجيد،وهذا ما اطمح به في حياتي أن اذكر باأعمالي العظيمة بعد مماتي .
    وشكراً على هذة المعلومات القيمة

  4. موضوع الطبريات رائع ومشوق للغاية، و جزى الله خيراً للشخص الذي أحيا ذكراهن وكل من كتب (أو سيكتب عنهن )وساهم فيه ويستحق المقال إهتمام أكثر و بحث وتوسعه و تجديد.
    أما بالنسبة لي فأنا مهتم بمعرفة جذور تلك العالمات الطبريات سيرتهن وحياتهن العامة والخاصة رحمهم الله ومحاولة ربطهن بجذورهن سابقاً وحاضراً إذا تمكن، كما امل من الله ان يٌيسر لي أحداً عنده الرغبة في المساعدة للتواصل والمعرفة عن الطبريات وأصولهن وتاريخهن و ربطي بالذين كتبوا عنهن وشكراً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *