ما الذي يمكنك تعلمه من رحلة إلى النيبال عن خرافة التقدم والتخلف

لم أفكر يومًا أن أزور النيبال، لكن دون سابق إنذار ودون أدنى تخطيط وجدت نفسي في طائرة متجهة إلى أرض الهيمالايا، اتصلت بي صديقة مقربة وقالت: «عنود إيش رأيك تجي معايا النيبال الويك إند الجاي؟»، لم أفكر في كيف ولماذا، جاوبت حتى قبل حتى أن تنهي سؤالها بـ «قدّام!» أي طبعًا سأذهب معك.

بالرغم من التصورات المسبقة التي شكلها الدافور الذي بداخلي والذي هرع إلى يوتيوب باحثًا عن أفلام وثائقية عن النيبال ما إن قررت السفر، إلا أنني تفاجأت كثيرًا مما رأيته هناك، وأنا لا أتحدث عن الفقر المدقع الذي تصفع معاينته أي شخص يتمتع بقدر من الرفاهية والرخاء المادي، لكني أتحدث عن “التقدم والتطور” الذي لا يطلق عادة على بلد “نامي”، يعيش أكثر من ثلث سكانه على أقل من دولار في اليوم.

اعتدنا أن نسحب صفة متقدم على كل ما يتمتع بمستوى اقتصادي وتكنولوجي عالي، أي أننا عادة ما نربط بين الغناء/الثروة المالية والتقدم الحضاري بالضرورة، لكننا لا نربط بين التقدم والمستوى الاقتصادي المتدني، والتقدم هنا يفترض بالضرورة أنك أفضل كإنسان أو أمة بشكل عام مقارنة ممن يطلق عليهم بالمتخلف أو المتأخر، برأيي هذه المعادلة عقيمة لأسباب عدة أهمها أنها لا تأخذ بعين الاعتبار الكثير من العوامل المعقدة والمتداخلة والتي يصعب إيجاد توافق عالمي على تعريفها أساسًا.

في هذه التدوينة السريعة أريد أن أشاركك بعضًا من صور التقدم التي شهدتها في النيبال بهدف تحدي أو التشكيك بمسلمات التقدم والتخلف.

حوش المدرسة

أثناء تجولنا أنا وصديقتي في أحد المناطق السياحية المشهورة في كاثمندو، العاصمة، وجدنا بالصدفة مدرسة ابتدائية للفتيات، المدرسة كانت عبارة عن “حوش”! وعلى أطرافه ترامت بعض الفصول الدراسية الذي لا يتجاوز الواحد منها مساحة الـ ١٤ أو ١٢ متر مربع، لحسن الحظ سمحت لنا إدارة المدرسة بالدخول والتحدث إلى الطالبات والمعلمات، لم أتفاجأ كثيرًا من منظر الفصول المهترئة لكني تفاجأت كثيرًا من رؤية هاتين الحاويتين اللتان تقسمان النفايات إلى قابل للتحلل وغير قابل للتحلل!

هل تعلم لماذا تفاجأت؟ لأني زرت مدارس في بلدان أخرى مبانيها في غاية الفخامة، تقارب رسومها الـ٤٠ والـ ٥٠ ألف ريال سنويًا لطلاب الابتدائية فيها، يتحدث طلابها لغات ويحلون الواجبات على الآيباد، وبالرغم من ذلك هم أبعد ما يكون عن هذا الوعي البيئي.

بالطبع هذا المثال ليس كافيًا لاستنتاج أي الفريقين أفضل، بل إن هوس تحديد من هو الأفضل ليس الغرض من هذه المقارنة ابتداءً! الفكرة هنا تحدي مسلمة أن المستوى الاقتصادي، والتكنولوجي، والتعليمي المتقدم يستدعي بالضرورة تقدم الإنسان بشكل عام واعتبار أنه أفضل/أسمى بشكل مطلق (أي في جميع النواحي) مقارنة بغيره ممن لا تتوفر له نفس الظروف.

أستحضر هنا أيضًا قصة عن ربيع وفيقات مؤسس مشروع مبادرة ذكرى بالأردن، حينما رأى أحد أطفال القرى يبتكر ويصنع السيارات (كألعاب) من مواد بسيطة من بيئته، بالرغم من أنه لم يذهب يومًا إلى المدرسة أو يعلمه أحد ذلك، عندما رأى هذا المشهد ربيع، تساءل أيهما يعول عليه أكثر، هذا المبتكر والمنتج رغم التحديات وقلة المصادر، أم الطفل الآخر الذي يرتاد أفضل المدارس يوميًا لكنه مستهلك يشتري و”يحطم” ألعابه ليستبدلها له أهله بألعاب وسيارات جديدة؟

لا شك في أهمية التعليم بالطبع، ولا أحد هنا يقترح أن نخرج الطلاب من المدارس أو ألا نسعى إلى وضعهم في أفضلها، لكن كل الشك في تعاملنا مع تعقيدات العوامل التي تأثر على معرفة الإنسان وقيمته المضافة بناءً على معادلة سطحية من نوع: تقدم اقتصادي > تقدم تكنولوجي > إنسان أفضل، وتأخر اقتصادي > تأخر تكنولوجي > إنسان أسوأ، وإن لم نقلها صراحةً فهذه الرواية التي تسود، (حتى “إنسان أفضل” هذه لا أعلم ما الذي تعنيه الصراحة!).

التخلف والجمال

من مسلمات خرافة التقدم والتخلف أيضًا أن الفقر والدين يشكلان بالضرورة عائقًا أمام تذوق الجمال وممارسة الفن، وجزء من تشكل هذه المسلمة مبني أصلاً على تعريف محدد للجمال والفن من منظور غربي بحت، وبالتالي أي شكل من أشكال الجمال والفن يخرج عن هذا التعريف أو الإطار المحدد فعادة لا يعتبر جمالاً ولا فنًا.

من أكثر الأمور التي لفتت انتباهي أثناء تجولي في كاثمندو، هو منظر البيوت، بالرغم من بساطتها بل بالرغم من حالتها المزرية، إلا أنها تعبر عن ذائقة أهلها الجمالية.

ألوان البيوت زاهية ومتعددة، ويكاد لا يخلو أي منزل من شُرف وزهور تزينها مهما بدا هذا المنزل فقيرًا!

مدخل إلى مساحة تعبُّد في دير بوذي

العلاقات الإنسانية والأخلاق

أتذكر أنني وصديقتي انبهرنا بطريقة تعامل سكان كاثمندو معنا، ولفت انتباهنا تعاملهم بين بعضهم البعض أيضًا، دائمو التبسّم، يطغى على تعاملهم اللطف والكرم، يتقاسمون لقمتهم مع الغريب بالرغم من حاجتهم هم لهذه اللقمة، منفتحون ومتقبلون للثقافات الأخرى بالرغم من أن الدين يشكل جزء كبيرًا من تركيبتهم الوجدانية، وفوق ذلك كله تشعر أن لديهم اعتزاز بهويتهم وثقافتهم بالرغم من سوء الأوضاع التي تحيط بحياتهم.

طبعًا هذا لا يعني أنهم شعب مثالي، كأي أمة أخرى لديهم الكثير المشكلات والمعوقات مثل انتشار الفقر والأمية، لكن ما أحاول أن أسلط عليه الضوء هو أن مسلمة «أهل الدول المتقدمة راقيين، وأهل الدول المتخلفة “همج”» عبارة عن هراء..

استحضر هنا تعليقًا للكاتب والاقتصادي جلال أمين رحمه الله حول علاقة الأخلاق والحالة المادية في كتابه خرافة التقدم والتخلف: العرب والحضارة الغربية في مستهل القرن الواحد والعشرين، فيقول:

«ما العلاقة بين القوة العسكرية أو الرخاء المادي أو التقدم العلمي أو التكنولوجي بما إذا كنت أسرع إلى الصفح مني؟ أكثر أم أقل استعدادًا للعفو عن المقدرة؟ أو أقدر أو أقل قدرة على ضبط النفس عند الغضب» ويضيف «نعم هناك علاقة ولكنها أكثر تعقيدًا وأقل بساطة مما نظن، فالرخاء المادي قد يسمح لك بأن تكون أقل تطرفًا وتشنجًا في موقفك من الدين، لكن هذا الرخاء ليس إلا عاملاً واحدًا من العوامل المحددة لدرجة التطرف والتشنج أو التسامح،..فإذا اقترنت زيادة درجة الرخاء مثلًا بشيوع قيم المجتمع الاستهلاكي الأكثر نهمًا، والأشد تنافسًا، والأقل رضا بما حققه المرء بالفعل من هذا الرخاء، فقد تكون النتيجة تشنجًا أكبر وتطرفًا أشد وتسامحًا أقل».

لا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك أمم متقدمة في نواحي معينة، لكن هنا مربط الفرس، “نواحي معينة“، أرفض فكرة إطلاق صفة التقدم على أي أمة من الأمم، فحتى لو تميزت أمة بالرخاء المادي والتقدم التكنولوجي، وأحرزت إنجازات على مستوى حقوق الإنسان (هذه الأخيرة صعبة التعريف أيضًا)، فهذا لا يجعلها أمة “أفضل” من الأمم الأخرى، لأن التقدم في نواحي معينة سيرافقه بالضرورة تقصير أو تراجع في نواحي أخرى كالعلاقات الإجتماعية مثلاً. تطرق لهذه النقطة بإسهاب المبدع أحمد الغندور في إحدى حلقات الدحيح.

شخصيًا، أؤمن أن لكل أمة عيوبها ومحاسنها، نقاط قوة، ونقاط ضعف، قدر من الروعة وقدر من الهراء.

أؤمن أن من ينتج المعرفة (مثلاً دراسات وأبحاث، تقارير دولية) له اليد العليا في تشكيل نظرة العالم عمن هو متقدم ومن هو متخلف لأنه يقسّم ويفصل بناء على تعريفاته وفلسفته هو، ويدعم ذلك الإعلام في تعزيز هذه النظرة وجعلها ثقافة سائدة، بغض النظر عما إذا كانت حقيقية أم لا.

أؤمن أنه لن يفيد أي أمة التحقير من ذاتها وقدراتها والانبهار غير المنتِج بالآخر، بدلاً من ذلك، الأولى أن تركز على مشكلاتها، تحاول فهمها وحلها من داخل سياقها الخاص وتعريفاتها الخاصة مع التعلم من تجارب الآخر بلا شك.

–انتهى–

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

3 ردود على “ما الذي يمكنك تعلمه من رحلة إلى النيبال عن خرافة التقدم والتخلف”

  1. كلام كبييييير .. ولي تجربة في بعض دول شرق آسيا فهي دولل فقيرة جداً .. لكن تنظيمها مثلاً في الحدائق .. وتسمية وترقيم الشوارع .. ونظافة دورات المياه في المساجد آية في الاهتمام والعناية .. وكذلك تنسيق الحدائق المنزلية وتصميم المنازل بطريقة مختلفة وغير مكرره… أيضاً الاهتمام بالتعليم وحتى لبس الطلاب والطالبات لزي موحد .. كلها علامات على الرقي .. شكراً أستاذتنا الكريمة وكلنا شوق ولهفة لمقالاتك النوعيّة والمتفردة… كل المودة والمحبات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *