لماذا كل هذا الهوس بفكرة ترك الأثر!

“ما الأثر الذي تريد تركه في هذه الحياة؟”

هل أنا الوحيدة التي تجد أن هذا السؤال قد أصبح مبتذلاً ؟ أظن أن لدي الكثير من المشاعر السلبية تجاه هذا السؤال.

أتفهم رغبة الإنسان الفطرية في إيجاد معنًا ما لحياته، لكن أعتقد أن هنالك إشكالية تكمن في هذا السؤال الذي أصبح يُطرح بمناسبة ومن دون مناسبة، بل والإشكالية تمتد حتى إلى الإجابة التي عُلّبت للكثير منا، وهي أن ترك الأثر يقتضي بالضرورة أن يكون للشخص “مشروعه” الخاص٬ أو له منتج أو إصدار أو منصب قيادي، ومن ثم يجب أن يكون هذا المشروع/المنتج/الإصدار/المنصب مقرونًا بأرقام كبيرة٬ لا يهم ما الذي تعنيه هذه الأرقام المهم أنها كبيرة!

لكن ما الذي تعنيه فعلاً كلمة “أثر” وماذا يعني أن يكون للإنسان أثر؟

بغض النظر عن كيف سيعرّف كل واحد منا الأثر٬ شخصيًا توصلت إلى عدة قناعات حول هذا الموضوع ألخصها في الثلاث نقاط التالية:    

  • أصحاب الأثر لم يسألوا أنفسهم كل يوم كيف يمكنني أن أكون صاحب أثر!

لا أظن أن إدوارد سعيد كان يسأل نفسه كل صباح “كيف لي أن أترك أثرًا في هذه الحياة؟”، ولا أعتقد أن سيدنا عمر بن الخطاب كان يسأل نفسه أو أصدقائه كل يوم “كيف يمكن أن أكون صاحب أثر؟”، أؤمن أن العظماء عبر التاريخ أصبحوا عظماء لأنه كان لديهم هوس بمشكلة/قضية ما أرقتهم٬ شلّتهم عن الانشغال بأي شيء آخر٬ وبالتالي كان تركيزهم منصب على إيجاد حل لهذه المشكلة لا على ايجاد فرصة ما ليتركوا أثراً من خلالها٬ وكنتيجة طبيعية لتكرسيهم حياتهم لحل مشكلة ما أصبح لهم أثر٬ ولذلك أحسب أننا مهوسين بالسؤال الخطأ! فبدلًا من أن يكون “كيف يمكن أن أكون صاحب أثرً؟” ربما من الأفضل أن نسأل “ماهي المسألة التي أريد أن أساهم فيها؟”نقطة.

  • المفهوم السائد عن ترك أثر لا يخلو من الرغبة في تخليد الأسماء

السؤال لا يقتصر على “ما الأثر الذي سأتركه؟” بل يمتد إلى “كيف أكون [أنا] صاحب أثر” لتصبح في كثير من الأحيان “كيف أستطيع أن أخلد اسمي [أنا] بعد موتي”؟ وإن لم ننطق بهذا السؤال صراحةً٬ ومشكلتي مع احتواء السؤال على هذه الأنا هو أن منطلقها مختلف عن الرغبة في ترك أثر٬ فالرغبة في ترك أثر يجب –في اعتقادي- أن يكون دافعها إضافة قيمة للآخر (أيا كان سواء إنسان٬ حيوان٫ محيط..إلخ)٬ بينما الرغبة في تخليد الاسم دافعه تغذية الأنا الزائفة٬ وبذلك يكون الهوس بهذه الأنا بغض النظر عما إذا كانت تضيف أي قيمة للآخر٬ قد يقول البعض أنه ليس من الطبيعي مقاومة هذه الأنا بحكم أنها جزء من تركيبتنا٬ شخصيًا أعتقد أن تهذيب الأنا هو الأمر الطبيعي، وأقصد بالتهذيب هنا إدراك أنها ليست محور الكون، وهذه الفكرة لا تتعارض مع فكرة قدسية الوجود الإنساني ولا مع فكرة الاهتمام بالذات ووضعها على رأس القائمة.

  • الله لا يحاسبك كما يحاسبك مديرك (الحمد لله!)

عندما يحاسبنا مدراؤنا في العمل٬ فإنهم ينظرون إلى الإنجازات والنتائج التي حققناها خلال فترة ما٬ وعادة ما تقاس هذه النتائج بالأرقام؛ كم مشروعًا أنجزت؟ كم سلعة بعت؟ كم صفقة أتممت…إلخ٬ وبطبيعة الحال مصيرك متعلق بهذه الأرقام بغض النظر عن المجهود الذي بذلته٬ من حسن حظي وحظك أن الله لا يحاسبنا بهذه الطريقة! هو لديه حسبته التي قد لا نفهمها بشكل تام لكن ما نعرفه يقينًا أنه ينظر إلى جهودنا لا النتائج٬ أو لم يقل (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)؟ وبالتالي ما قد تظن أن ليس له قيمة أو أثر بحسب تعريف المجتمع قد يكون ما يحبه الله منك٬ وهنا أحب أن استحضر قصتين مشهورتين في هذا السياق: القصة الأولى لأويس القرني الذي قال عنه الرسول عليه السلام “لو أقسم على الله لأبرَّه”٬ بل وطلب من كبار الصحابة أن يسألوه ليستغفر لهم إن قابلوه٬ لكن ما الإنجازات التي حققها أويس مقارنة بسيدنا عمر وأبو بكر رضي الله عنهما مثلاً؟ هو لم يشارك في أي غزوة٬ لم يجوب البلاد للدعوة إلى الله٬ لم يهاجر مع الرسول بل حتى لم يقابله! بمعنى آخر لم تكن له أي “إنجازات” بتعرفينا للإنجازات!

القصة الثانية هي لماشطة ابنة فرعون، وهي كأويس لم تؤسس لطريقة تدعوا إلى الله٬ لم تحارب مع نبي٬ لم تكن لها مؤلفات٬ هي فقط كانت صاحبة يقين وموقف٬ نحن حتى لا نعرف اسمها بل نعرفها ب”مسماها الوظيفي” البسيط وكأن الله يعلّمنا أنه أيا كان عملك وإن كان مجرد تمشيط شعر أحدهم فهذا لا يعني أنه من المستحيل أن يكون لك أثر يمتد عبر آلاف السنين! ببساطة لأن الله تعالى لا ينظر للأمور بالطريقة الضيقة التي ننظر بها. 

هذه القناعات الثلاثة جعلتني انظر إلى سؤال الأثر بطريقة مختلفة تمامًا٬ وجعلتني أؤمن أن:

– الأثر نتيجة لسعي ما٬ وبدلاً من الهوس بهذه النتيجة٬ الأولى أن نصب جهدنا وتركيزنا على السعي.

– لا يهم حجم أو نوع العمل الذي نسعى فيه طالما أن هنالك نية صادقة خلفه تريد إضافة قيمة٬ ولا تجلب ضرر٬ سواء كان هذا العمل يخدم ٥٠٠ ألف شخص أم ٥ أشخاص فقط! أيضا الأولى هنا الهوس بجعل النية صادقة لأن هذا ليس بالأمر السهل٬ بل وهذا أصعب أنواع السعي برأيي.   

هذه ليست دعوة لتحجيم الهمم والطموح، سواء كنت تريد إيجاد حلول للقضاء على الفقر في العالم أو تزيين أيدي بنات الحارة بالحناء فرغبتك تُحترم وتُقدّر، المهم ألا نقع أنا وأنت ضحية القالب الضيق الذي يضعه المجتمع حول مفهوم ترك الأثر٬ ونشعر أن ما نقوم به لا قيمة له لأنه لا يتماشى مع هذا القالب.

وفي النهاية٬ أحب أن أذكر نفسي أن الله ينظر لسعينا وما في قلوبنا لا للأرقام  أو ترتيبات المشاريع “الفخمة” التي يحددها المجتمع. 

— انتهى —

نوفمبر ٢٠١٨

انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!

11 ردّ على “لماذا كل هذا الهوس بفكرة ترك الأثر!”

  1. كلامك يخالف ما تعلمته من التنمية البشريه التي لم اهضمها يوما ..اظن اننا بحاجه لاعاده تعريف النجاح خاصة للنساء التي تختار الخروج من البيت و اهمال ابناءها مقابل النجاح بمفهومها…و غيرها من القصص

  2. اتمنى اني اوصلك كمية المشاعر اللي يبثها قلمك في قلبي وفكري

    اسأل الله ان يبارك فيكِ وفي موهبتك
    دمتي مبدعة

  3. أنا محظوظة بحق.. لوقوعي في هذه الغرفة الغنية!

    أشكركِ العنود، قلمك وكتاباتك تلهمني جدًا!

  4. شكراً أخت عنود على إثبات هذا المفهوم المهم، وهي ضربة قاضية لقياس اﻹنجاز بالأرقام التي تفرضها علينا التنمية البشرية، سوف تُغير فكرنا كثيراً هذه المقالة.
    لا عجب أن اﻷخ عبد الله المهيري نبهنا مرة في إحدى تدويناته أن كل مقالات اﻷخت عنود تستحق القراءة، ومنذ ذلك أصبنا نقرأ مقالات ونتذكر مقالة اﻷخ عبدالله

  5. عزيزتي العنود، صدقيني كان هذا هو نفس سؤالي ذات مرة حين وصلتني رسالة واتساب بخصوص ضرورة أن يكون لكلٍ منا مشروع!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *