عامٌ في ومِن «غُرفة رابعة العدوية»

” شيّعتُ للأبوابِ أشيائي…لكي أمتدّ وَحدِي في الفَرَاغِ الآهلِ” – محمد عبد الباري

منذ أكثر من عام قررت أن أعيش في غرفة خالية، خالية من قطع الأثاث فلا سرير ولا مناضِد ولا مفارش أرضية ولا ستائر ولا أرفف ولا قطع تزينيية توضع/تعلّق هنا أو هناك، لذلك من باب الدعابة تُسمِي الغرفةَ عائلتي بغرفة رابعة العدوية إشارة إلى التزهّد…والحقيقة أنني مفتونة بثلاثة أفكار هي من حملني على أن آوي إلى مساحة نُعتت لاحقاً بغرفة رابعة

أولاً: الفراغ

عُلّمنا أن الفراغ هو بالضرورة شيء سيء تجب محاربته أو الهروب منه! لكني وجدت أن الفراغ ضروري ومطلوب فلا امتلاء من دون فراغ يسبقه ورأيت من خلال أحد الأفاضل هذه الفكرة متجلية في “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ”¹ فكأن الفروغ -وهو حدوث فرع من الفراغ- جاء شرطاً لتحقيق النَّصب، ناهيك عن أن الفراغ هنا أتي في سياق الإنشراح! وما يدعوا إلى الانبهار من مفهوم الفراغ هو أنه يجمع ضدين في الوقت ذاته: اللاشيء من شيء وذات الشيء من شيءٍ آخر، مثلا الكأس “الفارغ” هل هو فعلاً فارغ؟ قد يكون فارغ من الماء لكنه مليء بالهواء، وبذلك يكون الفراغ طريقا للإمتلاء، لذلك أحرص على تمكين الفراغ المادي من مساحتي، لا أزعجه، لا أضايقه لأني أؤمن أنه يسلكُ بالمرء إلى بر اللامادي…

 ثانياً: التَرك

حتى أتمكن من العيش في غرفة يتربع فيها الفراغُ على عرشه، كان علي أن أتخلص من الكثير من المقتنيات، فعلى مدى ثلاثة أشهر، تخصلت من حوالي ٧٠٪ من مقتنياتي، نعم تطلب الأمر كل هذه المدة لأن عملية الترك ليست بالسهلة، كانت هنالك الكثير من القرارات الصعبة “هل اتركه؟ أنا احتاجه! هل أنا فعلاً احتاجه؟ لكنه يذكرني ب…! وهل هذا الب.. يحتاج إلى مادة تذكرني به؟ لماذا احتاج إلى امتلاك كل هذه الأشياء؟ أنا الآن قلقة! من منا فعلاً يمتلك الآخر؟؟ أنا أمتلك أشيائي أم هي التي تمتلكني؟؟” خلال تلك الثلاث أشهر انتبهت للمرة الأولى كيف نحن الناس نتعلق بالأشياء بشكل غريب! بشكل منطقي وغير منطقي، وكيف أننا نهوى جمع الأشياء لمجرد الجمع! فلم يرق لي هذا التعلق وأخافني هوس الجمع فلم أرد أن أدخل في “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ”² (وأسمح لنفسي بأن أقرأها “إِلَهُكُمُ التَّكَاثُرُ”) فلما آثرت خوض ألم الترك تمخضت التجربة عن أُنس مفاجيء مُربك لازلت أطلبه بالرغم من صعوبة الوصول إليه، وبهذا تكون غرفتي احدى منصات ممارسة الترك، لعلّ وعسى يصيبني شيء من “قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى* فَأَلْقَاهَا…فَإِذَا هِيَ حَيَّة”³.

ثالثاً: التجرّد

الفاتن في التجرد هو أنه يُلزم التركيز، التركيز على ماهو مهم، التركيز على الجوهر، فحين نتجرد من شيء ما فنحن بالضرورة نتجرد لشيء ما، وقيل أيضاً في معاني التجرد هو “خلوص الشيء من مخالطة غيره” وبذلك يكون هذا التركيز وجهاً من وجوه الإخلاص ومقام الإخلاص يستحق أن يُفنى العمر في سبيله، ولأني واقعة في غرام فكرة التجرد أردت أن أراها عياناً في غرفتي، فكان لون الغرفة أبيض لا يخالطه لون آخر، جدران بيضاء، أرضية خشبية بيضاء، خزانة ملابس بيضاء مبنية داخل أحد الجدران، لحاف هزيل أبيض على الأرض أنام عليه، وآخر يماثله في البياض اتغطى به ومخدة بيضاء أضع عليها رأسي المُثقَل، ومكتب أبيض أمارس عليه تمارين الخط وأخيراً شرشف صلاة وسجادة أبيضان أستعين بهما للعروج كلما مُكّنت من ذلك.

مساحتنا الشخصية بالمفهوم المادي ماهي إلا انعاكاسات لما بيننا وبيننا وما بيننا وحولنا، لا أعلم من الطرف الأول في هذه العلاقة الشائكة، من يؤثر ابتداءاً في الآخر؟ إلى أن احسم هذه المسألة، آمل من غرفتي -والتي هي أسلوب حياة وليست مجرد طوب وأسمنت مرصوص- أن تتقمصني وتجعل من سلوكي غُرفةً لها…

—انتهى—

ليلة العيد – ٢٩ رمضان ١٤٣٨

٢٥ يونيو ٢٠١٧

————————————–

¹ آية ٧ من سورة الشرح/الإنشراح

² آية ٢ من سورة التكاثر

³ آيتي ١٩ و٢٠ من سورة طه

 

 

5 ردود على “عامٌ في ومِن «غُرفة رابعة العدوية»”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *